حازم حسين

أكاذيب تدل على شبهات أصحابها.. معركة مصر مع ثلاثة أعداء يأكلون فى قصعة واحدة

الثلاثاء، 25 مارس 2025 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

تعرفُ الأرضُ أصحابها ويعرفونها. الصراع مع إسرائيل جَلِىٌّ فى شِقّه المادى، إذ لا غموض ولا ضلالات إزاء حقّ الفلسطينيين بالتاريخ فيما بين النهر والبحر، وبالحاضر فى غزَّة وما تبقَّى من الضفة الغربية، وبينهما ما كان فى قرار التقسيم وصولاً إلى تفاهمات أوسلو.


الضباب والضلال يحلّان بالخروج من الوطنى إلى الأيديولوجى، ومن الجغرافيا إلى الديموغرافيا، وبانقسام الأخيرة على نفسها فى صراعات بَينيّة، مُتغافلة عن حقيقة أنها معركةُ سرديَّاتٍ أيضًا، وكلَّ انفلات فيها من المظلَّة الجامعة، إنما يُضعِف الصفَّ المأزوم وأجنحته المُتكسّرة، ويُقوِّى العدو الجارح ورواياته المُلفّقة، بينما ينشب أظفاره أصلاً فى البشر والحجر، ولا يعوزه تعزيز.


اتّخذت المسألة طابعًا قوميًّا منذ بدايتها. الإمبراطورية العثمانية أضاعت فلسطين، وأشباحها ضلّلت الجمهور. وسواء كانت الاندفاعة وقتها ناشئة عن رواسب البلد الواحد، أو طموح بعض الأطراف فى استعادة الخلافة الساقطة، فالمُحصّلة أن الجميع تواضعوا على النظر للمواجهة من زاوية مُحرّفة، وتكبير مداها بما يتجاوز هويّتها الصافية، ويحملها على آخرين يضرون أحيانًا بأكثر مِمَّا يُفيدون.


الاحتلال يستدعى المقاومة بالضرورة، ولا مقاومة من دون دعمٍ. الخلاف ليس فى اتّصال النضال بالخارج أو بناء تحالفات معه، بل فى أن العلاقة بُنِيَت أساسًا على مُرتكزٍ غير دقيق. والعدوّ جائع نَهِم ولا خلاف، لكن الطعام مُدَّ إليه تطوّعًا بالحرب غير المحسوبة، وبالهزيمة غير المبلوعة، وبالبقاء على الشعارات زمنًا طويلاً، كُنا نُخلِّق فيه الذرائع بأكثر مِمَّا نلتمس خطايانا ونعمل على تصويبها.


اتُّخِذت المحنة ميدانًا للاستعراض أوّلاً، ثم خزانة للعواطف المُتأجّجة، وظلّت تتزحزح مع تحولات المنطقة إلى أن صارت أداة للمُكايدة والابتزاز. لطالما استُخدِمت فلسطين خنجرًا ضد آخرين، واُجبِرَت على أن تلعب الدور قسرًا، وأحيانًا بإرادة من بعض بَنيها، لحسابات شخصية أو مطامح حركيّة.


المآل أن الجدار الواحد تداعى على نفسه، والبنّاؤون من الخارج يفرزون الأحجار وفق لونها، وفرص النجاة وإعمار المُتهدّم باتت خاضعة لاستقطابات داخل الحاضنة الداعمة، ربما بما لا يقل عَمَّا هى عليه مع وحش النازية الصهيونية.


لأسباب شتّى، وقع الصدام مع الأردن فى أيلول الأسود وما قبله، وانتقلت حلقة النار إلى لبنان باتفاق 1969 وصولاً إلى خروج عرفات ورجاله على طلل بيروت والجنوب. لعب حافظ الأسد دورًا مشبوهًا، وتعاطى مع جُرح المنطقة الغائر من منظور طفلٍ يتلهّى بالفوضى، ويتطلّع لانتهاب ممتلكات الآخرين.
الإخوان كدّسوا المشاعر والثروات تحت لافتة الأقصى، ومن ورائهم رُعاة ليسوا فوق الشُّبهات، وإيران دخلت على خطِّ الإقليم من خاصرته الرخوة، واختصم الجميع فى الكعكة فتشابكوا، وتركوها لقمة سائغة للسُرّاق ولصوص الموائد.


تاريخ الاستتباع طويل للأسف، أكان للبندقية وبعض مَن يحملونها، أم للقضية نفسها وشعاراتها العريضة. صُوِّب منها على العواصم حينًا، وعلى الأفراد أحيانًا. كان الاختبار الأكبر فى زمن السادات، وقد هداه السياق المُركَّب إلى تحريك مجال الصراع، واضطرّه فارق التوازنات لإدخال السياسة على جبهة القتال.
خاض الرجل نِزالاً غير مُتكافئ إطلاقا، ومع دولة مُلفّقة يعرف الجميع أنها قاعدة مُتقدّمة لقوىً أكبر. استخلصَ سيناء من المُحتلّ، وأمَّن مقعدًا للفلسطينيين أن يبحثوا مسألتهم جنبًا إلى جنب مع القاهرة، وفى أجواء تغلب فيها رائحة النصر على النكبة وروائحها.


كان المسار المقترح لا يبشر بإيقاف عدّاد الخسائر فحسب، بل يربط التسوية مع اتفاقية السلام المصرية بحبل واحد، بما يُبقى على الطبيعة الإقليمية للمواجهة كما هى، إنما وفق مداخل بديلة لا تُفتَن بالعنتريات والقرابين الضائعة. شُنّت حروب الدعايات، وسعى بعثيّو الشام وبغداد لوراثة المركزية المصرية فى النظام العربى. تأجّجت جبهة الصمود والتصدى، ومنها تناسل خطاب الرؤوس الساخنة إلى محطة التلفيق الكامل، بالجمع بين متضادات قومية ومذهبية تحت شعار «محور الممانعة».


ما من عاصمة فُتحت عليها نار التشغيب والابتزاز كالقاهرة. فى كل محطة تُلام على ما فعله غيرها، ويُهدَر حقها فيما تفعل، وكلما أخطأ طرف يُلقى عليها، وكلما أصابت فى شىء يتداعى الأكلة على قصعتها. وبينما يتصارع تياران على ملكية القضية، واستثمار فائضها التعبوى فى خدمة مشروعات فوق فلسطينية تماما، فإنها تبدو عرضة طوال الوقت للاستهداف فى غابة من الضباع، لا يختلف فيها سلوك الصهاينة عمّن يزعمون أنهم ينازلونهم باعتبارات قومية جامعة، أو عقائدية مقدسة.


الشواهد عدّة على مدار السنوات الماضية، وبالتحديد منذ انقلاب حماس على السلطة الوطنية، وانفرادها بحكم غزّة منذ العام 2007، ثم تشابكها مع أجندة الإخوان ومشغّليهم الخارجيين فى زمن الربيع العربى، وما كان من عناصر القسام فى سيناء وحتى عمق الدولة. فى الشهور الأخيرة ما يغنى عن العودة طويلا للوراء، أو الاستطراد فيما كان من استتباع ومن توظيف مشبوه.


نفيان فى غضون أربع وعشرين ساعة. هكذا تصدّت هيئة الاستعلامات لجولة جديدة من حروب الدعايات. الغريب أنها لم تكن من إسرائيل، أقله فى وجهها المباشر، وبدت أقرب إلى النيران الصديقة، إنما مع قصدٍ يصعب إنكاره، يتولّد غالبا عن نيّة مُبيّتة للمَس بأصدق العرب وأخلصهم لفلسطين، وعمود خيمة المنطقة كلها، ومن دونها لا يستقر الشرق العربى ولا يأمن ناسه، الغنى منهم قبل الفقير، والناجع قبل الهاجع.


الكذبة الأولى أوردتها صحيفة الأخبار اللبنانية المملوكة لحزب الله، ما يعنى أنها ذراع فى جسم الأخطبوط الشيعى. ادّعت أن مصر وافقت على نقل 500 ألف من غزة إلى سيناء، وربطت الادعاء بلقاء الرياض الودى بين السيسى وعبد الله الثانى وقادة دول مجلس التعاون الخليجى. أما الثانية فقد وردت عبر منصّة ذات نكهة إخوانية، يُموّلها بلد سُنّى صغير، ويشرف عليها من مستوى عالٍ وجه عربى إسرائيلى معروف. هنا زادوا العدد إلى 700 ألف، وربطوه بزيارة رئيس الإمارات الأخيرة للقاهرة. فريق زعم أننا نُرحِّب، والآخر قال إننا نُغَازَلُ أو نُرَوَّض بالترغيب والترهيب.


جاء بيان الاستعلامات مُحكمًا فى رؤيته، صارمًا فى صياغته، عموميًّا فى الردّ بما يطال التقارير المُزيّفة، وكُتّابها، ومموّليها، ومَن يقفون وراءهم من قريب أو بعيد. ولا حاجة للإيغال فى النص، إذ لا جديد عَمَّا قاله الرئيس عشرات المرّات، وسطّرته الخارجية فى بياناتٍ عِدّة، واعترف به الأمريكيون علنًا وسرًّا، وأطلّ برأسه من ثنايا مواقفهم العُصابية والعِصابيّة تجاه القاهرة، وهى جَليّة لكلِّ ذى بصر وبصيرة.


وبعيدًا من الوضاعة فى سلوك بعض المُتاجرين بالقضية، وأن يُخلّقوا أمورًا لا أساس لها لمُجرّد المساس بمصر، دون أن يعنيهم انعكاس ذلك على فلسطين نفسها، فإن المسألة لا تنحصر فى تقرير أعدّه كاتب مُوجَّه، أو وجّه به ميليشاوىّ ذو حساباتٍ أيديولوجية. لقد أُديرت عملية «غسل معلومات» كاملة، إذ استُمدّت البذرة من صحافة إسرائيل، لتنشرها دكاكين الشيعة والإخوان، ثمّ تتلقّفها المنصات العبرية مُجدّدًا، فكأنه اتفاق ضِمنى على تطويق آخر جدارٍ يستند إليه الغَزّيون، ويتصدّى مُنفردًا لمُخططات التهجير والتصفية الديموغرافية للقطاع، وليس عابرًا أن يُربَط التقرير الأول بلقاء احتضنته السعودية، ومُثِّلت فيه سبعُ دُوَل. ولا أن يسعى الثانى لإثارة الغبار فى فضاء زيارة مُعتادة ومتكررة من محمد بن زايد للقاهرة. الهدف المباشر مصر من دون شَكّ، إنما يُراد بجانب ذلك الطعن فى محور الاعتدال بكامله، وتشكيك الناس فى مقارباته الإنقاذية بعد مُغامرة الطوفان وارتداداتها، ويبدو كما لو أن اتفاقا خَفيًّا أُبرِم بين الشيعية المُسلّحة والعثمانية الجديدة، وأنهما يتقاطعان فى تلك النقطة، على الرغم من القطيعة والصدامات بينهما فى مجالات أُخرى متعدّدة.


تضرّر محور المُمانعة لدرجةٍ تفوق احتماله، ولا تُؤَمِّن له حضورًا فاعلا فى الإقليم. والعُثمانية الجديدة ربحت أرضًا بإسقاط نظام الأسد، وإحلاله بوجه أصولى جهادى يُطابقها فى المعتقد ويتبعها تمامًا فى السياسة. مصر تصدّت لمُخطّط التهجير، لكنها أحبطته فيما يخص النزوح لسيناء، وما تزال مخاطره قائمة من نواحٍ أخرى، لا سيما وقد دشّن الاحتلال إدارة فى جيشه تختصّ بمسألة الرحيل الطوعىّ.


لا قِبَل لإسرائيل بالصِّدام مع مصر، ولو ادّعت خلاف ذلك أو موّلت مقالات رأى مُغايرة فى الصحافة الغربية. عليها أن ترضخ لحقيقة انسداد البوّابة الجنوبية، ما يفرض البحث عن وُجهات بديلة. طُرحت أفكار عِدّة أبرزها أحد أقاليم الصومال، لكن تظل سوريا وجهةً مُحتملة وميسورة، وتُعزّز رؤية تل أبيب لخَلق مناطق فصل، وإعادة اللعب فى ديموغرافيا دول الطوق، وقد يمتدّ الأمر لبعض المناطق محل النزاع فى جنوب لبنان.


طهران غادرت الشام، وقُوِّض حزب الله جنوبىّ الليطانى، لكن إزاحة كُتلة فلسطينية ضخمة يُبدّل التوازنات، ويُغلق أُفق المشاريع الامبراطورية المفتوحة فى فارس والأناضول، أقلّه من زاوية التذرّع بالقضية. لا مصلحة لأحد فى التهجير، والضرر أكبر إن كان إلى نطاقات قريبة من معاقلهما المركزيّة. وقد يرى البعض فى تهييج المجال الإقليمى قفزًا للأمام، وخصمًا من الاعتدال، وتصحيفا للخرائط، لكنها تظل مُغامرة غير مأمونة العواقب.


ثمّة توافق ضمنى: شيعى إخوانى/ فارسى عُثمانى. يختلفان فى سوريا وغيرهما، لكنهما ضمانة لبعضهما من طرفٍ خفىّ. طهران تتطلّع لصفقة مع واشنطن تحفظ ماء وجهها، وتُجنّبها ضربةً إسرائيلية كاسرة. ترامب يحتاج القوّة الفاعلة فى دمشق من أجل التوازن، والأخيرة تعرف أنها ستكون الهدف التالى حال الخلاص من بقايا المُمانَعة، إذ لا ترتاح تل أبيب إلى القُرب الجغرافى الشديد، ولا عودة الموكب العثمانى إلى الشام من جديد.


فلسطين واقعةٌ فى مأزق عظيم، وأسوأ ما فيه أنها تُداس من بعض أبنائها. والحاضنة الأصيلة والأمينة للقضية تخوض مواجهة مُركّبة: مع الانقسام الداخلى وانحراف حماس من جانب، ومع الاحتلال وعدوانيّته وأطماعه من جانب، ثم فيما بين المشروعين المُتضادين بين التُرك والفُرس، وكلاهما يُذخّر الدين والصراع، ويُملشِن الاجتماع الذى يُعَوّل عليه فى استنهاض الدول الوطنية من عثرتها.


يُكذَب على مصر لأنها شوكة فى حلوقهم جميعًا، ولأنهم يطمعون فى ابتلاع ما يفوق قدراتهم على المضغ، ويخفقون فى النصر ولا يتحلّون بشجاعة الاعتراف بالهزيمة ومراجعة الذات.. ليس أسوأ من أن تَوضَع القضايا العادلة على طاولة المصالح الشخصية، وليس أخطر من أن يتلاقى المرء مع عدوّه على هدف واحد، إذ لا معنى سوى أنه خاسر فى الحالين.







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة