مها عبد القادر

رؤية رمضانية.. وبناء ثقافة اقتصادية متزنة

الثلاثاء، 25 مارس 2025 07:25 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

يمنح شهر رمضان فرصة عظيمة للإنسان؛ لإعادة بناء ذاته من الداخل حيث يجد في رحابه لحظة مصارحة مع نفسه، يراجع فيها أخطاءه ويتأمل فيها نقاط ضعفه، ويضع يده على مواطن القصور في إيمانه وسلوكه، فيعقد العزم على أن يكون إنسانًا جديدًا، أكثر صدقًا مع الله وأكثر إخلاصًا في عمله، وأكثر قربًا من القيم التي تجعل منه شخصًا صالحًا متزنًا، وفي هذا الشهر العظيم يشعر الإنسان بلذة الخشوع، فيدرك أن السعادة الحقيقية ليست في ملذات الدنيا الفانية، بل في لحظة مناجاة صادقة، أو دمعة خاشعة، أو إحساس يغمر القلب بأن الله راضٍ عنه.


ويُمثل شهر رمضان المبارك أكثر من مجرد فترة للصيام والعبادة، فهو مدرسة روحية متكاملة تسهم في تهذيب النفس، وترسيخ القيم، وإعادة تشكيل سلوك الإنسان على كافة المستويات، بما في ذلك السلوك الاقتصادي، حيث يُعلم رمضان الصبر والانضباط، فإنه أيضًا يغرس في الإنسان مبادئ الاقتصاد المتزن، ويضعه أمام فرصة ذهبية لإعادة النظر في عادات الإنفاق والاستهلاك، ليخرج منه أكثر وعيًا وأشد حرصًا على حسن تدبيره، وأرقى فهمًا لمفهوم البركة والرزق الطيب


ويتعلم المرء كيف يسمو بروحه فوق الصغائر، فيتحرر من قيود الأحقاد والضغائن ويغرس في قلبه ثقافة العفو والتسامح، مستلهمًا من رحمة الله الواسعة دروسًا في تجاوز الزلات، مدركًا أن الصفح عن الناس هو من أعظم القربات التي يتقرب بها العبد إلى ربه، ففي شهر رمضان يدرك الإنسان أن حمل الأحقاد يرهق القلب، ويثقل الروح ويعيق السكينة الداخلية، بينما الصفح والمغفرة يمنحانه طمأنينة لا تضاهى، فيتعلم أن الصفاء الحقيقي يبدأ من الداخل، فيتعلم كيف يكون قلبه نقيًا ولسانه عفيفًا، وتعاملاته مع الناس قائمة على الإحسان والود وأن القلب النقي هو الذي يسكنه النور، فلا يتسع لغير الحب والخير والسلام.


وتُرسخ الأجواء الإيمانية التي تكتنف شهر رمضان روح الوحدة والتكاتف بين أبناء المجتمع، حيث يجتمع المسلمون على الطاعة، ويتشاركون لحظات السكينة في بيوت الله، ويتسابقون في فعل الخيرات، فتتجلى فيهم معاني الأخوة الحقيقية، فيدرك المسلم أن الحياة أقصر من أن تُستهلك في العداوات، وأن التسامح ليس ضعفًا، بل قوةً تنمّ عن سموّ النفس وعلوّ الهمة، ويتخذ من أخلاق النبي ﷺ قدوةً في العفو حتى عن أشد من أساء إليه وتتلاشى الفوارق بين الغني والفقير، والصغير والكبير، فيشعر الجميع بأنهم متساوون أمام الله، لا فرق بينهم إلا بالتقوى والعمل الصالح.


ويُدرك الإنسان في شهر رمضان قيمة الوقت، فيتعلم كيف يستثمر لحظاته فيما ينفعه، ويعيد ترتيب أولوياته، ويضع أهدافًا لحياته تتجاوز حدود المصالح المادية، إلى آفاق الروح والقيم والمعاني السامية، فمن أكرمه الله بإدراك هذه الليالي العظيمة، تعلّم كيف يجعل حياته كلها ساحة للطاعة والإنجاز، فلا يضيع عمره في اللهو والعبث، بل يكون صاحب رسالة، يترك أثرًا طيبًا في دنياه، ويسعى إلى تحقيق الخير في كل خطوة يخطوها، مستشعرًا أن كل يوم يعيشه هو فرصة جديدة للاقتراب من الله، ولترك بصمة خير تبقى بعد رحيله.

ويغرس شهر رمضان في النفوس مفهوم الاستثمار في الأصول بدلًا من الإنفاق العشوائي، حيث يصبح العقل أكثر وعيًا بقيمة التوفير والتخطيط المالي السليم، فيتعلم الإنسان كيف يوجّه ماله إلى ما ينفعه على المدى البعيد، سواء من خلال بناء مشروعات تنموية، أو دعم مبادرات خيرية مستدامة، أو حتى استثمار ماله في أوجه الخير والتجارة مع الله التي تضمن له بركة في رزقه واستقرارًا في حياته.
ومن ثم يتحول الإنفاق الفوضوي بالاستثمار الحكيم في ظل هذه القيم إلى مسؤولية، ووسيلة للنماء لا مصدرًا للقلق والتبعية، فيرتقي الإنسان بتفكيره الاقتصادي من الاستهلاك المفرط إلى التخطيط المحكم، ومن التبذير إلى الترشيد، ومن الأنانية المالية إلى التكافل الاجتماعي، فتتحقق البركة ويتذوق حلاوة العطاء، ويشعر بلذة مشاركة النعمة مع من يحتاجها، بفضل حسن التدبير والاعتماد على نهج متوازن يجمع بين الإحسان إلى النفس والإحسان إلى الآخرين.


ومن أعظم الدروس الاقتصادية التي يبثها شهر رمضان في قلوب المؤمنين، ترسيخ ثقافة الإنتاج والعمل بديلًا عن الاستهلاك المفرط، حيث يدرك الإنسان أن العطاء الحقيقي لا يقتصر على المال فحسب، بل يشمل السعي والعمل والإبداع، فيصبح أكثر حرصًا على استثمار وقته وجهده في تحقيق قيمة مضافة لمجتمعه، ويبتعد عن السلوكيات الاستهلاكية التي تجعله مجرد متلقٍ للمنتجات والخدمات دون أن يسهم في إنتاجها، وهذا الوعي الاقتصادي من شأنه أن يخلق مجتمعًا أكثر إنتاجية واستقلالًا، قادرًا على تحقيق الاكتفاء الذاتي، وتقليل الاعتماد على الاستيراد، ودعم الاقتصاد المحلي من خلال دعم المنتجات الوطنية والمشروعات الصغيرة.


ويعيد الشهر الفضيل صياغة العلاقة بين المال والأخلاق، حيث يصبح الكسب الحلال أولوية قصوى، ويدرك الإنسان أن البركة لا تأتي من وفرة المال، بل من طهارته ونقائه من كل شبهة، فيتخلص من أي تعاملات مالية مشبوهة، ويتحرى الكسب النظيف، ويحرص على أن يكون رزقه خاليًا من أي مظاهر الغش أو الاستغلال أو الربا، وهذا الوعي الأخلاقي ينعكس على استقامة الأسواق، ويخلق بيئة اقتصادية قائمة على العدل والشفافية، بعيدًا عن الجشع والاستغلال، مما يؤدي إلى مجتمع أكثر استقرارًا وازدهارًا.


وبذلك يغرس هذا الشهر الكريم في النفوس قيم النزاهة والشفافية المالية، فيتعلم المسلم أن البركة لا تحل إلا في الكسب الحلال، وأن الغش والخداع يفسدان الرزق ويطمسان الطمأنينة، فيصبح أكثر التزامًا بالمبادئ الأخلاقية في معاملاته التجارية والمهنية، وأكثر إدراكًا لأثر ما يملك في بناء المجتمعات أو هدمها، فيحرص على أن يكون جزءًا من منظومة اقتصادية قائمة على العدل، ومبنية على قيم الصدق والأمانة والتعاون، وهكذا يخرج الفرد من هذا الشهر بنفس مطمئنة، وعقل سليم وقلب عامر بالخير، يضع لنفسه نهجًا اقتصاديًا متوازنًا يسير وفق رؤية واضحة، توازن بين متطلبات دنياه واحتياجات آخرته، ليكون رمضان بداية جديدة لحياة أكثر استقرارًا وبركة.

أستاذ أصول التربية
كلية التربية للبنات بالقاهرة - جامعة الأزهر







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة