حازم حسين

عن السعى للسلطة قبل الدولة.. مأزق الرجعية فى فلسطين بين الانتهازية والقضية

الأربعاء، 26 مارس 2025 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

أسوأ ما فى الرجعيّة أنها تتحدّى الزمن. تنفصل عن واقعها، وتسعى لفصله عن العالم بكامله. وإذا ما تلبّست رداءً دينيًّا؛ فإنها تصير خصامًا شاملاً مع الأرض تحت راية السماء، ما يمنع تقريب الرؤى والوصول إلى نقطة وسيطة.

لا يصير الماضى نموذجًا مُضيئًا فحسب؛ بل مطلوبا للتكرار دومًا، وبمعزلٍ عن المنطقية والجدوى. الذات تحتكر الحقّ المُطلَق، والآخرون جميعًا أباطيل، حتى الذين ينتمون إلينا لحمًا ودمًا، ويدفعون عنّا فواتير النزق والمُقامرات الهائجة. مأزق الرجعيّة أنها تنظرُ للكون من ثُقب إبرة، ثمّ تتعامل كما لو أنَّ الجميع يرون ما تراه، ويُقرّونها عليه بقناعةٍ كاملة.

ما كان الفلسطينيون فى احتياجٍ إلى اختبار جديد لوحشيَّة الصهاينة. يعرفونها وتنطبعُ بصماتها على جلودهم وأرواحهم. الأحياء المُتعقِّلون يتعلَّمون من خبراتهم السابقة، فيُجوِّدون الجيِّد ولا يُعيدون إنتاج السيّئ الردىء منها.

أمَّا الأصوليون الذاهلون عن ثِقَل الاجتماع البشرىِّ وشروطه، فيعيشون فى عالمٍ مُوازٍ يمنحُ الأشياء مُسمَّياتٍ بديلةً، ويفصلُ المادىَّ عن المعنوىِّ، والذاتىَّ عن الموضوعىِّ.

الطوفان «كان صرحًا من خيالٍ فهَوَى» على ما يقول إبراهيم ناجى عن الهوى/ الحُبّ، وتصحُّ استعارته إذ نتحدّث عن الهوى/ الغَرَض. لا تعرف لماذا أتاه «السنوار» بالكيفية التى رأينا، ولا ماذا أراد منه، أو كيف رسم الخطَّة وتوقَّع الارتدادات.

غموضٌ كامل لا تُفسِّره الوقائع، ولا تترك الدراما التالية أىَّ هامشٍ لإحسان الظنّ به. كأنَّ الرجل فكَّر ودبّر ونفَّذ فى حاضرٍ مُتوَهَّم، أو أنه عاد بأحلامه الساذجة إلى ماضٍ بعيد، وأعاد معه القضيّة وأهلها جبرًا.

سيرة قائد حماس الآفل فيها ما يكفى للشرح ويفيض. افتتح رحلته مع الحركة بأدوارٍ أمنيّة، وقتل فلسطينيين تحت زعم التخابر لصالح الاحتلال، وفى دَمهِم سُئل وأُلقى فى سجون الصهاينة.

كاد أن يموت بورمٍ خبيث وأنقذوه فى مستشفياتهم، وكان سَوطًا للمعترضين وراء الأسوار، واستكمل أعمال جهاز «مجد» بينهم ترويعًا وتنكيلاً، وأهمّ أدواره أنه أدار مفاوضات «صفقة شاليط» من محبسه، وبها تحصّل على حُرّيته بعد زهاء ربع القرن.ما تعلّم لغة العدوّ لأجل الموت؛ بل للحياة. وما اجتهد للتحرُّر كى ينتحر مجانًا فى وقتٍ لاحق. وإذ لا نُشكّك فى صدق العقيدة والانتماء؛ فالنضال بطبعه طلبٌ للوجود لا العدم، والرجل الذى سعى للسلطة داخل الحركة ربما كان طامعًا فيما هو أكبر، وعلى الأقل لم يُفجّر الطوفان ليغرق فيه شخصيًّا، ويُغرق معه بلدًا كاملاً بما فيه من بشرٍ وحجر.

من سوءات الأُصولية أنها جامدة راكدة، لا تتحرّك مع الأيام؛ فتتكلّس ولا تتطوّر. المَدنيّة فوّارة وابنة سياقها، وتتنفّس من رئات البشر. والسنوار وُلِد من الأولى لا الثانية، وعليها عاش وجرّب واختار. قرار الطوفان كان مُحاولة لإنتاج مشهدٍ مُضىء فى وعيه الخاص، وافتتاح جولة مُهندسَة من صراع الإرادات، تفضى لصفقةٍ مثالية ترتدّ عليه بالزَّخْم والتهليل والعاطفة.

باختصار؛ لكأنه سعى للرجوع ثلاث عشرة سنة للوراء. إغارة محسوبة على العدو، وإيلام دون سقف الاستفزاز، ثم مُبادَلة للأسرى بما يُظهر البأس ويُقيم الحُجّة عمليًّا على القوّة الغاشمة. وعليه؛ فغالب الظنّ أنه كان إشعالاً لأجل التبريد، وهجومًا غرضه الدفاع، وكل ما تحصّل عنه لم يكن مقصودًا ولا مُخطّطًا له، وهو آخر ما أراده القسّاميون وقادة الأنفاق.

حلمت حماس بالسلطة قبل أن تحلم بالوطن. غايتها أن تجلس فى مقعد الحكم، ولو عُلِّق المقعد نفسه فى الهواء، أو استقرّ فوق هَدمٍ وأشلاء. فاصل إنشائها عن نشوء المحنة يتخطّى أربعة عقود، وما كان الإخوان غائبين عن فلسطين طوال تلك السنوات، ولا كان عامّة الإسلاميين خارج أُطر النضال المُتاحة وقتها. الحال؛ أنها كانت مشروعًا استثماريًّا لتيّار، بأكثر مِمَّا كانت ضرورة مُبرَّرة أو إفرازًا طبيعيًّا للمرحلة.

خرجت من رَحم الانتفاضة الأولى، على ما تقول من دون دليلٍ قاطع. أرادت أن تصرف فائض العاطفة وقتها، وأن تصعد على أكتاف ومعاناة «أطفال الحجارة». بدا المناخ وقتها مُبشّرًا بتحوّلات كُبرى، وقد عَلَت أسهم عرفات بعد الانتقال من لبنان. سبقها وقوف القائد على منصّة الأمم المتحدة، وتلاها بشهور إعلان الاستقلال، وازداد حضور منظّمة التحرير فيها، وفيما قبل وبعد.

دخلت الحركة على الخطّ لتُزاحم القضية فى عنوانها، وتُشغّب على كاريزما عرفات. كما لو أنها كانت انتقامًا بأثرٍ رجعىٍّ من انفصال مؤسسى فتح عن جذورهم القديمة، وكان أغلبهم موصولين بالإخوان اللهم إلا عضوا من خلفيّة بَعثيّة. وبدت المنافسة أكثر وضوحًا بعد أوسلو، وقد تكالبت على الاتفاق مع اليمين الصهيونى، وأطلقت موجة من التفجيرات والأعمال الانتحارية وراء الخطّ الأخضر، كانت من الأسباب المباشرة وراء بروز الليكود وعبوره على جُثّة رابين.

غادر أحمد ياسين سجنه الإسرائيلى إلى الأردن فى العام 1997، ضمن التفاهمات التالية لمحاولة اغتيال خالد مشعل فى عمّان، ثم إرسال الموساد ترياق السمّ لإنقاذه. أبدى الشيخ وقتها قبولاً لبحث هُدنة طويلة مع الاحتلال، وكرّر الكلام بعد انتفاضة الأقصى، وسار فيه خليفته عبد العزيز الرنتيسى، كما سُمع عديد المرات علنًا وضِمنيًّا، من مشعل وهنيّة وأبو مرزوق، ومن قيادات وسيطة أو إعلاميين محسوبين على الحركة.

ولا يُعرَف على أية قاعدة تأسَّس الفصيل المُقاوِم، إذا كان سيطلب تهدئة بعيدة المدى خلال عقده الأوّل. المشروع التحرُّرى لا يكتمل سوى بدولة فلسطينية، وفيه يسير النضال على ساقين مُتكافئتين: فتح حافظت عليهما معًا ثم اكتفت بعد أمدٍ طويلٍ بالسياسة، وحماس اختزلتهما فى السلاح وما اهتمّت بالدبلوماسية من الأساس؛ حتى صار مُستحيلاً عليها أن تُقنع قواعدها بخيار السلام الهادئ، أو تقنع العالم بقدرتها على الحوار والتزام التعهّدات. صنعت مأزقها بنفسها، وما عاد بإمكانها الخلاص منه دون كُلفةٍ باهظة.

عقب حرب العام 2014 طرح الحماسيّون مطلب الهُدنة المُمتدة، ورُفِضَت من جهة الاحتلال. والأسابيع الأخيرة أعادت العنوان للواجهة، بعدما صرّح مبعوث الرئيس الأمريكى لشؤون الرهائن، آدم بوهلر، أنه التقى مُمثّلين عن حماس فى العاصمة القطرية، وأنهم عرضوا فى جُملة مُقترحاتهم أن يُلقوا السلاح، وأن يُبرموا تهدئة لخمس سنواتٍ أو عشر، مع إمكانية تمديدها لفترة أطول؛ إنما المقابل أن يُحافظوا على حُكمهم للقطاع.

مبعوث ترامب للشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، أورد عنوان الهيمنة على القطاع ضمن حوار أخير، وقال إن الحركة لا تُريد مُغادرة السلطة، وإن هدفها لن يكون مقبولاً من جهة تل أبيب. وقادة الخارج والداخل ما نفوا الكلام؛ بل قال أسامة ياسين من الدوحة ما يُعضّده، وحملت منصة تسليم الرهائن فى إحدى المرّات تدليلاً عَمليًّا بشعار «نحن اليوم التالى».

المُخطَّط الزمنى لحماس رحلة طويلة من التناقض والانقلاب على الذات. خوّنت منظمة التحرير لأنهم أبرموا اتفاق أوسلو؛ ثم اعترفت الحركة بها عَمليًّا عندما خاضت الانتخابات تحت سَقفها، قبل أن تُعدِّل وثائقها فى العام 2017 تقبُّلاً لحلّ الدولتين الذى زايدت به طويلاً على خصومها، واعترافًا ضِمنيًّا بإسرائيل، وزعمًا أنها فكّت الارتباط مع جماعة الإخوان، بعدما قطعت الأخيرة خطوط المودّة مع كل المحيط العربى، وانحطّت لمستوى العمالة الصريحة والخنجر فى الخاصرة.

وباستقراء مُجرّد من العاطفة، لا أرى أن الحركة تأسَّست إلا لمُنازعة منظمة التحرير، والبحث عن موطئ قدم للأصولية الإسلامية فى السياق الجديد. كانت مسجدًا ضِرارًا؛ ويبدو أنها ما تزال للأسف.. قاومت حتى أفسدت أوسلو ثمّ عرضت الهُدنة الطويلة، وقد وصلت فى بعض المنقول عن الشيخ ياسين أواخر التسعينيات إلى ثلاثين سنة. كانت تخطب وِدّ الصهاينة، بينما كان الشارع الفلسطينى ساخنًا، وانتفاضة الأقصى على وشك التفجّر. ثم جدّدت العرض بعدها، وبعد كل حربٍ على القطاع حتى النكبة الراهنة.

وعليه؛ فالسنوار أراد أن يُعَمِّد قيادته للحركة فى غزّة بعملية كُبرى، تُؤكد إمساكه بالقرار وهيمنته على المفاصل الحماسية، وتُمهِّد لتصدّره واجهة المكتب السياسى العام، كما تحصّل له فعلاً بعد اغتيال إسماعيل هنية فى طهران. كان يعرف يقينا أن أى عدد يُستخلَص من السجون يُمكن للاحتلال تعويضه بآخرين، أو بالمُحرّرين أنفسهم كما حدث مع أسرى صفقة شاليط. لم يتحرّك لأسر الذين أسرهم من غلاف غزّة لاعتبارات إنسانية؛ بل لمكاسب عاطفية وتمويلية، وتفاهمات تُؤمِّن له هدوءًا طويلاً فى القطاع، قبل أن ينقلب السحر على الساحر.

لم يكن غريبًا ما ساقه المبعوث الأمريكى عن مطالب حماس. العارفون بالحركة من العُمق، وبكل منظومة إخوانية مهما كان لونها، يتيقّنون تمامًا من أن القضية لا تقع موقعًا أصيلاً ضمن أولويات الأُصولية الدينية، وليست أكثر من منصّة للمكايدة والابتزاز، وإحراز مكاسب أيديولوجية وتنظيمية ولو ترتّبت عليها خسائر وطنيّة قاهرة.

وإسرائيل تعرف منافسيها جيّدًا، وتنطلق فى حقبتها الراهنة من الأرضيّة نفسها. إنها مُنازلة بين الأُصوليّات بخياراتها الجارحة. حرب وجود لا حدود؛ لكنه وجود نتنياهو هناك وحماس هنا. الهُدنة الطويلة لن تتحقّق لأنها تسلب الطرفين أوراقهما الثمينة ومبرّرات سيادتهما على المشهد، والصدام المفتوح لا يمكن أن يستمر هكذا.

سيتحرّر مجال الصراع عاجلا أو آجلا من تلك الثنائية الاستقطابية، وسيعرف البشر على الضفّتين أنه لا أمل مع اليمين المُتطرّف، يهوديًّا قوميًّا كان أم إسلاميًّا إخوانيًّا ومُتشيّعًا. الحقائق واضحة تمامًا، وعلى الناس أن يتحرّروا فقط من الدعايات وأوهام الطهرانية ونقاوة الخطابات والأهداف. الأصوليون يكرهون الحاضر، ويخلصون للماضى أكثر، وهؤلاء لن يصنعوا مُستقبلاً يُعوَّل عليه، أو لن يصنعوه من الأساس.







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة