وليد فكرى

كيف نقرأ التاريخ »3»

الجمعة، 28 مارس 2025 08:45 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

ما زلنا مع الحديث عن قراءة التاريخ، فأرجو من القارئ العزيز مراجعة المقالات السابقة من هذه السلسلة..
ما الذى يعنيه وصفنا التاريخ أنه «من العلوم الإنسانية»؟
كنت قد ذكرت أن عناصر التاريخ الثلاثة هى: «الإنسان، الحدث، والزمان»، أهم هذه العناصر هو أولها، الإنسان، فالإنسان هنا هو بطل القصة / الفاعل، وما القصة إلا قصة حياته على سطح هذا الكوكب.
وللحفاظ على إنسانية علم التاريخ، لا بد من معاملة الشخصية التاريخية باعتبارها من بنى الإنسان، بها ما به من مميزات وعيوب، ونقاط قوة ومواطن ضعف، وإصابة وخطأ، وانتصارات وهزائم..
بمعنى أوضح: علينا تقبل إنسانية الشخص التاريخى كما هى، وألا نحاول النظر له بـ«ملائكية» ولا «شيطنة»، ولا عصمة من نقد ولا تحميله مسؤولية كل الشرور.
لتفهم ما سبق افعل ما أقول لك الآن: اختر بشكل عشوائى أى شخص تعرفه، وراجع آراء الناس فيه وفى صفاته وأفعاله ومواقفه المختلفة، ستلاحظ تنوع تقييماتهم لها بحكم عوامل مختلفة، مثل زاوية نظرتهم للأمر، أو آثار أفعاله عليهم، أو تنوع أذواقهم وأمزجتهم ومبادئهم وأفكارهم.. ولن تجد من تتفق آراء كل التاس فيه.. نفس الأمر ينطبق على الشخصية التاريخية..
تأمل كذلك فى حياة هذا الشخص وأفعاله وقل لى: هل يمكنك أن تقول إن مئة بالمئة منها صحيح تمامًا أو موافق لما تراه حقًا وصوابًا؟ هذا شبه مستحيل.
لا يختلف تقييم الشخصية التاريخية عن ذلك، فهى فى النهاية مجرد بشر.
إن إدراك ما سبق يوفر علينا الجهد والوقت الضائعين فى القراءة أحادية الزاوية، ضيقة الأفق، للشخصيات التاريخية.
فلنستعرض بعض الأمثلة لبعض الشخصيات التاريخية الأكثر إثارة للجدل:
هل معاوية بن أبى سفيان هو ذلك الطاغية الخبيث الذى تمرد على الخليفة الراشد على بن أبى طالب وحاربه وقسم الدولة الإسلامية إلى شطرين متعاديين، ثم أورث الحكم ابنه الفاسد الدموى يزيد؟ أم هو الأمير الإدارى البارع الذى أسس أول أسطول بحرى إسلامي، ووضع أسس النظام الإدارى المحكم للدولة، وألزم الروم حدودهم، واشتهر بالحلم والعفو وتأليف النفوس؟
هل صلاح الدين الأيوبى هو ذلك القاسى الذى أوقع بالجند الفاطمى مقتلة كبيرة، وعزل رجال الفاطميين عن نساءهم ليقضى على نسلهم، ودمر المكتبة الفاطمية بما فيها من ذخائر؟ أم هو القائد المجاهد الذى قضى عمره فى الكفاح لتحرير الأرض من الفرنجة المحتلين، والفارس النبيل الذى تحدث الأعداء قبل الأصدقاء عن كرم أخلاقه؟
هل محمد على باشا هو ذلك الحاكم العنيف الذى ذبح فى ليلة واحدة مئات المماليك وانقلب على الزعماء الوطنيين حلفاء الأمس - مثل السيد عمر مكرم - ونكل بهم، وبطش بكل معارض له؟ أم هو بانى مصر الحديثة الذى انتزع مصر من غيابات ظلمات الحكم العثمانى وأسس الجيش المصرى العظيم وأرسل البعثات العلمية للخارج وأسس للطبقة المثقفة؟
بل أن حتى الأعمال سالفة الذكر للنماذج الثلاثة يُختَلَف فى تقييمها، فما يعده البعض تهمة أو نقيصة قد يجد البعض الآخر مبررًا مقبولًا له «كمذبحة القلعة التى أراها كانت عملًا ضروريًا لا مفر منه»، وما يعده البعض إنجازًا عظيمًا قد يرى فيه البعض خطأً فادحًا..
السؤال هنا: لماذا لا يكون كل من أصحاب الأمثلة الثلاثة سالفة الذكر هو كل من هذا وذاك؟ أى أنه ببساطة «هو» بما يحمده البعض ويذمه البعض الآخر؟ أليس هذا هو «الإنسان»؟
وأى بأس من الاختلاف فى تقييم البشر وأعمالهم؟ أليس تعدد الرؤى والقراءات لهذه الحالة التلريخية أو تلك هو مما يثرى علم التاريخ؟
وثمة مشكلة ثانية ألاحظها، هى إغفال حقيقة «التطور» فى شخصية ونفسية الشخص التاريخى عبر مراحل حياته المختلفة.. فيقع الكثيرون فى خطأ افتراض أنه نفس الشخص بنفس النفسية والدوافع والأفكار، رغم أن من البديهى أن لا أحد منا يبقى كما هو دائمًا..
ولنستعرض بعض الأمثلة مجددًا.. فهل صلاح الدين الأيوبى، الشاب المتحمس صاحب السنوات الثلاثين، حديث الخبرة السياسية، الذى وجد نفسه بين عشية وضحاها حاكما على دولة تجتاحها المؤامرات ويهددها الغزاة، هو صلاح الدين السلطان القوى صاحب الحكم المستقر والجيش القوى؟ من الطبيعى أن تختلف تصرفات الأول عن الآخر..
وثمة مثال أقدم: الصحابى والخليفة عمر بن الخطاب، القارئ فى سيرته يلاحظ أنه كان شديد القسوة والصرامة فى مرحلة الشباب المعاصرة للتحديات التى واجهت دعوة الإسلام وإقامة دولته، ثم مر بمرحلة وسطى من الميل للين والمسايسة فى عهد الخليفة الراشد الأول أبو بكر الصديق، وعندما أصبح هو الخليفة نلاحظ فى سياسته رفقًا وتسامحًا بل وحنانًا أكثر من ذى قبل.. لقد تضافرت عوامل عدة مثل الظروف المحيطة، وخبرات الحياة وتجاربها، وتغير حجم المسؤوليات، لتصنع هذا التطور فى شخصيته ويحقق ذروة التوازن بين الشدة واللين.. ورغم ذلك يختصره الكثيرون فى صورة ظالمة له: الرجل القاسى الغليظ الذى يحمل الدرة «عصا غليظة» ليهوى بها على من يخطئ فى نموذج لـ«القوالب الجاهزة والصور النمطية». 
خلاصة القول: لماذا لا نجرب أن نعامل الشخصية التاريخية كما نعامل أنفسنا فى حياتنا اليومية؟ مجرد بشر يخطئون ويصيبون، وبهم ما بهم من مزايا وعيوب، ولأعمالهم وجوه عدة تحتمل تفسيرات متنوعة؟
لو جربنا أن نفعل ذلك فنحن إذن نرد للتاريخ إنسانيته..
وللحديث بقية إن شاء الله فى المقال القادم من هذه السلسلة من المقالات..







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة