تحولات جذرية باتت تتخلل مفهوم الأيديولوجية، جراء التغييرات الكبرى التي تطرأ على المفهوم في الآونة الأخيرة، مما ساهم بالتبعية ي تغيير شكل علاقتها ببعضها، وهو الأمر الذي حمل العديد من الإرهاصات التي بدأت منذ أواخر الحرب الباردة، والتي قامت في الأساس بين أيديولوجيتين، وهما الرأسمالية العالمية، والتي مثلتها الولايات المتحدة ومن ورائها دول المعسكر الغربي، من جانب، والاتحاد السوفيتي باعتباره رأس الشيوعية من جانب آخر، حيث اتجه الأخير مع ظهور بوادر الهزيمة نحو التحول للاندماج في الأيديولوجية المنتصرة عبر سياسات البيروسترويكا، إلا أن هذا التغيير الجذري لم يشفع، فتحولت الهزيمة المدوية إلى انهيار تام جراء عدم توفر البيئة التي من شأنها إنجاح السياسات الجديدة، مع عدم حماسة الغرب لتقديم الدعم لهم، مما دفع بعد ذلك بسنوات إلى خلق نموذج جديد يحمل مزيجا بين الأيديولوجيتين المتحاربتين عبر تعزيز مبادئ الخصخصة والاستثمار وحرية التجارة وغيرها في الوقت الذي احتفظت فيه الدولة بقدر كبير من سيطرتها على الاقتصاد.
إلا أن الهيمنة للنموذج الرأسمالي الخالص على النظام الدولي استمرت لعقود، في ضوء عدم قدرة أي قوى دولية أخرى على مزاحمة المكانة الأمريكية، حتى بزغت الصين كقوى اقتصادية صاعدة باتت تحمل تأثيرا ملموسا في عملية صناعة القرار الدولي، بينما أعادت روسيا بناء نفسها مجددا، مما ساهم في إعادة الحالة التنافسية ذات الطبيعة الصراعية إلى الواجهة، وإن كانت لم تصل إلى أوج الاحتدام التي شهدتها إبان الحرب الباردة، ولكنها ساهمت في تثقيل كاهل القوى الدولية المهيمنة، وهي الولايات المتحدة، بالتزامات إضافية، خاصة تجاه الحلفاء في أوروبا، جراء مخاوف الأخيرة من الصعود الروسي، ناهيك عن العمل على مواصلة النهج القائم على التكريس بمبادئها في مختلف مناطق العالم إلى الحد الذي أدى إلى تراجع ملموس في دورها بالتزامن مع صعود الخصوم، ليدخل النظام العالمي في إطار إعادة التشكيل مرة أخرى، وهو ما دفع الرئيس دونالد ترامب خلال ولايته الأولى إلى إعادة توجيه بوصلة بلاده فيما يتعلق بالعديد من المبادئ التي طالما أرستها واشنطن وهو ما يبدو في العودة إلى زمن التعريفات الجمركية، في تخل أحادي عن حرية التجارة، في الوقت الذي لم يعد فيه نشر الديمقراطية أولوية كبيرة، بينما باتت واشنطن تتنصل تدريجيا من التزاماتها بحماية الحلفاء، بل وتجاوزت ذلك قبل مرور ثلاثة أشهر من ولايته الثانية عبر تقارب غير مسبوق مع روسيا التي يراها الغرب الأوروبي خصما لدودا.
السياسات الأمريكية، حملت تخليا صريحا، ولو مرحليا، عن الرأسمالية الخالصة، من جانب واحد، وذلك في إطار مساعيها لإجبار حلفائها على الالتزام بها، تجاهها على الأقل، وهو ما يبدو، على سبيل المثال في تهديدات الرئيس ترامب لدول المعسكر الغربي بإجراءات عقابية ضد الدول التي تسول لها نفسها تطبيق مبدأ المعاملة بالمثل أو التسبب في أية خسائر للولايات المتحدة سواء فيما يتعلق بالتجارة، أو الدولار، أو غير ذلك، وهو ما يعكس تآكلا صريحا للتحالفات القائمة على الأيديولوجية الموحدة، والتي هيمنت على توجهات الدول بل كانت سببا في اندلاع الصراعات والحروب الدولية بين المعسكرات لعقود طويلة من الزمن.
ولعل تلك الحالة التي تآكلت فيها التحالفات الأيديولوجية، ساهمت في تغييرات كبيرة في شكل العلاقة ليس فقط بين الدول في إطار التحول الكبير في مفهوم التحالفات فيما بينها، والتي كانت تنطلق في الماضي من نقطة التطابق الأيديولوجي، وإنما أيضا ترتب عليها قدر من التوافق بين الأيديولوجيات المتضاربة، في ضوء التوجه المتبادل نحو إعادة هيكلتها، وهو ما يتجلى بوضوح في الحالة الأمريكية الروسية، بينما تحولت النزعة التنافسية إلى أصحاب الأيديولوجيات المتماهية، وهو ما يبدو في حالة الشد والجذب بين واشنطن ودول أوروبا الغربية، والتي باتت تتجاوز التجارة والاقتصاد والدفاع نحو الحديث عن سيادة الحلفاء والسعي عن انتزاعها من مناطقهم الجغرافية، وهو يظهر بجلاء في طموحات الرئيس ترامب لضم كندا وجزيرة جرينلاند الخاضعة لسيادة الدنمارك، ليكونا تحت إدارة أمريكا وهو ما قد يمتد في المستقبل إلى دول أخرى.
العلاقة بين الأيديولوجيات، أصبحت بمثابة ركنا موازيا للعلاقات بين الدول نفسها، مما ساهم في إضفاء قدر كبير من التعقيد عليها، فأصبحت مؤثرة إلى حد كبير في تغيير خريطة التحالفات والخصومات على النطاق الدولي، فالأيديولوجيات المتماهية تحولت إلى سببا رئيسيا في الحروب بين أصحابها، في العديد من مناطق العالم، في ضوء تحول مفهوم الحماية والذي كان مرتبطا بالدولة وسيادتها ووحدة أراضيها نحو الإبقاء على الأيديولوجية نفسها، والتي تحولت في العديد من المشاهد الأخيرة من كونها أحد سمات الشخصية الاعتبارية للدولة أو حتى الأحزاب إلى كيان مواز تخدمه الدول والحكومات، حتى وإن كان ذلك على حساب الشعوب ومصالحهم ومفاهيم السيادة والاستقلال، وهو ما يبدو في منطقتنا في إطار العلاقة التشابكية بين حكومة بنيامين نتنياهو وحركة حماس في غزة، حيث توافقت الأيديولوجيتين المتماهيتين لكلا الطرفين على استمرار حالة الصراع، وهو ما تناولته بقدر من التفصيل في مقالي السابق.
وهنا يمكننا القول بأن الخطر الداهم الذي باتت تمثله الأيديولوجية يتجسد في طغيانها في العديد من النماذج على الدولة وعلى مصالحها، عبر الهيمنة عليها، والاستئثار بالمفاهيم الخاصة بها إلى الحد الذي تخلت فيه الحكومات عن سيادتها وحماية أراضي دولهم لصالح الأيديولوجيات الحاكمة، وهو الأمر الذي يمكن الالتفات إليه بصورة كبيرة خلال المرحلة الحالية، والتي باتت في حاجة ملحة للتحول من نهج التحالفات إلى الشراكات باعتبارها أكثر مرونة في إطار قدرتها على إدارة الخلافات الأيديولوجية بين الدول.