«أما الأحِبَّة فالبيداءُ دونهمُ/ فليت دونك بِيدًا دونها بِيدُ».. بالقول السالف، كان أبو الطيب المتنبى، شاعر العربية الأكبر، يُبرِّر سؤاله الذى ظاهره الاستفسار وباطنه الاستنكار: «عيدٌ بأيّة حالٍ عُدت يا عِيدُ/ بما مضى أم لأمرٍ فيك تجديدُ»، وفيما يتّصل بالبُعد عن الآمال والغايات، فلا يُنبئك مثل خبيرٍ تسَّاقَط عليه النارُ من كل زاوية فى السماء، وفى تكرار الأيام واختلاط بهجتها بالدم لا شاهد اليوم أفضل من غزّة وأهلها المنكوبين.
لا يختلف المشهد اليوم عَمَّا كان قبل سنةٍ تقريبًا، على الأقل فى زمن كتابة المقال قبل ساعات من استطلاع هلال شوّال. تتسارع جهود الوسطاء لمُداواة الهُدنة التى شُجَّ رأسُها بفأس نتنياهو، وكان مبعوث ترامب للشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، قد اقترح تمديدها لنحو خمسين يومًا، من انتهاء مرحلتها الأولى مطلع مارس المنقضى إلى ما بعد مواسم الأعياد انتهاء بالفصح، وقدّمت مصر مقترحًا، ويُصر النازيون الصهاينة على استكمال جريمتهم؛ والمُستجَدّ الوحيد أن منجلاً جديدًا لعزرائيل أدخله الحماسيّون على خطّ المأساة.
تفجّر الغضب فى أرجاء القطاع منتصف الأسبوع الماضى. تظاهر مئات الموجوعين فى الشمال، وتمدّدت الغضبة إلى الوسط والجنوب. لا شىء يتقدّم على المُناداة بوقف الحرب، وإدانة الاحتلال ووحشيّته علنًا وضمنيًّا، إنما لا مانع من المُجاهرة بالموقف الشعبى المكتوم إزاء الفصائل الغزية، وعلى رأسها حركة المقاومة الإسلامية «حماس»، والأخيرة لم يُعجبها أن يشكو الناس محنتهم. كأنها فوجئت أنهم بشر، يألمون وترتج قلوبهم، ولهم حقوق على من تصدّر لإدارة حياتهم، أو صادرها منهم قهرًا، ولا فارق إذ يجثون أمام أشلاء ذويهم، بين من أطلق القنبلة، ومن استدعاها بالرقص والضوضاء قصدًا أو اعتباطًا.
لم تُفوَضّ الحركة بامتلاك القطاع؛ لأن السياق القائم كان استقطاعًا للحجر والبشر، لا مُجرّد إدارة تنفيذية أو سُلطة حُكم. لقد حصلوا على أكثرية بسيطة فى انتخابات 2006، بأقل من 45% من جُملة الأصوات وبفارق لا يتعدّى ثلاث نقاط عن نسبة فتح. وبينما لا تُعبر النتائج عن اكتساح أو تسليم بالهيمنة؛ فإن العقلية الإخوانية قرأتها على خلاف معناها، وانقلبت على السلطة، واقتطعت غزّة من الجسد المهلهل والمنخول أصلاً، وسارت عمدًا ومع سبق الإصرار إلى ما صار اليوم نكبةً ثانية.
افتُتح عهدها بإلقاء الفتحاويين من أعالى البنايات، وسحلهم فى الطرقات، وبمسلسل مفتوحٍ من تصفية المُعارضين والمختلفين بدعاوى شتّى، أشدّها قسوة ووقاحة أن يُتَّهَم الناس بالخيانة والعمالة. أسَّست الحركة لحُكمها على الدم، ووطّدته بالحديد والنار. صنعت أمثولة «رأس الذئب الطائر» عَملّيا مع مُمثلى السلطة ومنظمة التحرير، ونكّلت بالعامة بلا توقُّف، حتى صار الكلام مُغامرة محفوفة بالمخاطر، والصمت سبيلاً مؤقّتًا للأمان، وارتضاء مُرًّا بالقانون المُعَمَّم على الجميع: الموت مُؤجَّل، بالاحتلال أو الاختلال، ولا أمل فى حياةٍ عادلة.
فى مناخٍ كهذا، لا يُنتظَر من الناس أن يفيضوا عن حوافّ القِدْر/ القَدَر الملغوم داخليًّا وخارجيًّا، ولا أن يُبادروا باستدعاء موتهم المحتوم قبل أوانه. وأن يقع العكس؛ فلا معنى سوى أنهم فاض بهم، وتساوت لديهم الاحتمالات، وقد انتفضوا مرّتين سابقًا، فى العام 2019، وقبل أشهر من «طوفان الأقصى». كان الشعار الثابت فيهما «بدنا نعيش»، وقد تكرَّر مؤخّرًا، وإن أُضيف إليه تصعيدٌ يُطالبُ بتنحية الحركة: «حماس برّه برّه».
وعلى حِدّة الرسالة؛ فإنها طبيعية للغاية، ومُبرّرة بالمكان والزمان والطبيعة البشرية. أمّا غير الطبيعى؛ فإن يكون ردّ الفعل من جهة الطرف المشمول بالنقد عُصابيًّا وعِصابيًّا كما جرى، فلم يخلُ من وعيدٍ ظاهر، ومن رسائل مُوزّعة على أطراف تابعة أو رديفة بمعانٍ تتدرّج فى الإرهاب، وصولاً إلى ما تردّد عن اعتداءات بدنيّة فعليّة، وعن إعدامات ميدانية بمزاعم إثبات التجسُّس على البعض. كانت الفصائل جزءًا أصيلاً من الضحايا؛ إلى أن عزلت نفسها عنهم قولاً وفعلاً، ثم تحوّلت من منكوب إلى ناكبٍ ثانٍ.
ثمّة شبه عميق بين اليمين المتطرف على الناحيتين. خُلِّقت حماس من تداعيات الانتفاضة الأولى لتحصد منافعها وتُناطح منظمة التحرير فى تمثيلها الانفرادى للقضية، وصعد زعيم الليكود الحالى على جثمان رابين. تضافر الطرفان فى إفساد أوسلو؛ رغم تربّحهما عُمليًّا منه: نتنياهو بالوصول إلى الحُكم وتحبير صورته المُتوهَّمة عن نفسه كآخر ملوك اليهود، والحماسيّون بوراثة أبنية الدولة ومؤسساتها الناشئة عن مفاعيل الاتفاق؛ رغم ما وقعت فيه من تناقضٍ صارخ جرّاء سلوكها الموصوف.
نجح عرفات بعد ثلاثة عقود من الكرّ والفر فى تجسيد الدولة الضائعة؛ ولو بظلال باهتة. عادت المقاومة المُنظّمة إلى العمل من الداخل للمرة الأولى منذ النكبة. حماس بموجب الاتفاق اعترفت بإسرائيل ضِمنيًّا عندما ترشَّحت للانتخابات، وبأثر تجارتها العقائدية ظلّت على موقفها الإلغائى. أبرمت صفقات مع تل أبيب، والتقتها فوق الطاولة وتحتها، وانتفعت من دعمها لها بكل السُّبل الخفيّة والظاهرة، وليس أدناها تمرير حقائب العمادى المُحشوّة بالدولارات عبر مطاراتها ومعابرها. اعترافٌ عملى، وإنكار ظاهرى، واستحلاب للقضية دعائيًّا وعاطفيًّا إلى آخر قطرة.
والنازى المسعور بنيامين نتنياهو لا يختلف كثيرًا. لقد تلقّف «حماس» وانتخبها شريكًا مُباشرًا فى مشروعه التأجيجى، حارب بها السلطة الوطنية وما تبقّى من أوسلو، واختصم بها خطاب الاعتدال والسياسة، وأعانها على وصل الوشائج مع الشيعية المُسلّحة، وأن تكون خنجرًا فى خاصرة الهُويّة الفلسطينية الصفية، وساحة جانبية مشبوكة بالجمهورية الإسلامية تحت شعار «وحدة الساحات». اعتبرها ذُخرًا استراتيجيًّا، وفسَّرت الأيام ما كان غامضًا فى تعابيره عنها سابقًا.
عَدوّان يتحاربان بالتصويب على الآخرين، وإبقاء المجمرة بينهما مُتّقدة؛ لأن اتّقادها يُحقُّق مصلحة كلٍّ منهما من طرفٍ خَفىّ.. حماس تُشبه نتنياهو لدرجة التطابق؛ غير أن الأخير يتفوق فى الوحشية قطعًا. كلاهما يرفض الإقرار بخطاياه السابقة، أو مراجعة الذات وبدء التصحيح. كلاهما يرفض التغيُّر أو التغيير؛ إنما الفارق أن مُمثّل الصهيونية القومية والدينية أقوى، ومصلحته فى الإشعال أكثر من الإطفاء، ومُلاقاته على نواياه تحت أى زعمٍ ليست من الحصافة إطلاقًا؛ إن لم تكن من الخِفّة والسذاجة والتآمر على الذات.
كان الحراك الأخير فرصةً للحماسيِّين أن يتوبوا لله وفلسطين، وأن يعودوا من طريقٍ أورثتهم الخيبة والخسران، ومعهم بلدٌ كامل وشعبٌ ما كان فى حاجةٍ لإهدار كل ما أُهدِر دون منفعةٍ واحدة. وبدلاً من استغلال الفرصة على الوجه الأمثل، لم تُخلف الحركة الإخوانية عادتها وتصوّراتنا القديمة عنها، وذهبت لتشويه المُعترضين ووصمهم بكل نقيصة، دون اعترافٍ واحدٍ بأنها أخطأت فى التقدير أو الممارسة، أو أنها وضعت نفسها فوق القضية، وقدمت الأيديولوجيا على الوطن.
لمرة جديدة من المرّات التى تفوق الحصر، أخفق الأُصوليون فى رؤية الفخ المنصوب. لقد سعت حكومة تل أبيب إلى تنميط القطاع ونمذجته تحت لافتة الإرهاب، واختزال ساكنيه جميعًا فى صورة الذئاب التى اقتحمت مستوطنات الغلاف وقتلت النساء والأطفال. عملية التضليل المنهجية وما رافقتها من دعايات مطبوخة بمكرٍ وتكثيف شديدين، ساعدتها على تشويه السرديّة خلال الأيام الأولى، وإشاعة سياق من البلبلة وانعدام الحسم فى الشهور التالية. الولايات المتحدة وبعض الغرب مُنحازون ومُغرضون؛ لكنهم يحتاجون طوال الوقت إلى ستار يُدارون فيه سوأتهم، وقد أمّنتها لهم «الهاسبراه» الصهيونية بما أضفته على الغزّيين من سِمة عامة مُجرّدة وشاملة للمجموع.
انتفاضة الناس لا تعنى فقط أنهم يختلفون على حماس؛ بل أنهم يختلفون عنها، فى الجيد أو الردىء لا فرق، المهم أن الكُتلة البشرية الهادرة فى القطاع ليست شيئا واحدًا، ولا يجوز اختزالها فى صِفة بعينها، وأنها مجتمع ديناميكى حىّ ومُتجدّد، ويمتلئ بتنويعات فى الرؤى والأفكار والمواقف، وتتعارك مصارينه داخل البطن وخارجه أيضًا، ما يسحب الذرائع من أيدى نتنياهو وعصابته، ومِمَّن يقفون خلفه أيضًا، ويُعيد الاعتبار لسرديّة المظلومية الفلسطينية دون تشويه من العدو الليكودى، أو ادّعاء للبأس من جهة الصديق الحمساوىّ.
كان بمقدور الحركة أن تتلطّى وراء غضبة الناس؛ لتُؤمِّن لنفسها خروجًا وقورًا وقليل الإحراج من المشهد. لو كانت صادقة فيما زعمته عن استعدادها للتنحّى وتخليص اليوم التالى من تبعات أفعالها. صحيح أنه لا شىء يُبرّر التقاعس عن إنقاذ الناس؛ إلا أنه قد يُفهَم جزئيًّا، وبمنطق الاستيعاب لا التسويغ، أن حماس تتأبّى النزول عن الشجرة كراهةً لإظهار الرخاوة أمام الاحتلال، أو الاضطرار إلى الإذعان لإرادة نتنياهو. والحلّ البسيط أن تلتمس الحجّة فى غضب الناس، وأن تُنفِذ ما تعهّدت به؛ بدلاً من المُكابرة والمُكايدة والتخوين والتنكيل.
يُثبت الموقف أن الفصيل الإخوانى يلعب بالقضية لا لصالحها. خدمة فلسطين تعنى أنها أوّلاً، وأهلها فوق كل اعتبار. وما يحدث عَمليًّا أن حماس تُقدّم نفسها على بيئتها، وتسمّعت لمحور المُمانَعة وإملاءاته، بأكثر مِمَّا انشغلت برؤية الغزيين وطموحاتهم. ويترافق مع ما فات؛ أن تُثير الغبار على التظاهرات بالدعوة للنفير داخل القطاع وخارجه، أو بإطلاق صواريخ فارغة المضمون والأثر على الاحتلال، ودفع الفصائل الرديفة ولجانها الإلكترونية إلى شنّ حربٍ دعائية سافلة على المُختلفين.
لا يختلف الموقف عَمَّا كان من حزب الله فى جنوب لبنان. أُطلِقَت الصواريخ مرّتين فى أسبوع على شمالىّ إسرائيل، فردّت الأخيرة وراء الليطانى وإلى الضاحية وأطراف بيروت. أنكر الحزبيّون صِلتهم بالأمر؛ لكن الوقائع أنه لا تتحرّك حشرة جنوبًا من دون معرفتهم. بدا الموقف محاولة للتشغيب على العهد الجديد واتّصاله باتفاق وقف إطلاق النار ومحاولات إجلاء الاحتلال عن آخر النقاط المُحتلّة، وعلى زيارة الرئيس عون لباريس ومُداولات ترسيم الحدود مع سوريا فى جِدّة السعودية. وما يحدث من حماس لا يخلو من تشغيبٍ أيضًا، أكان على فكرة حلول السلطة الوطنية فى القطاع، أم على الخطة المصرية المُحتضَنَة عربيًّا لإعادة الإعمار. وفى المحصّلة؛ تُثبت الوقائع أن الجبهات المُشتعلة ما تزال تُدار لصالح أطراف وأجندات بعيدة عنها وعن مصالحها تمامًا.
قد يسوق البعض زعمًا تبريريًّا بأن حماس حركة مقاومة، ويجب ألّا يُطلَب منها ما يُطلَب من الحكومات. والحال؛ أنها كانت حكومة بصلاحيات مُطلقة لنحو عقدين، وقد أطلقت «طوفان السنوار» بمنطق المقاومة غير المَعنيّة بشىء، لكنها تحاول قمع التظاهرات اليوم تحت راية السلطة المُسنَدَة شرعيًّا ودستوريًّا، وكلا الموقفين غير دقيق للأسف، لأن المشروع التحرُّرى مُتّسع بما يتجاوز سلاحها الملوّن أيديولوجيًّا، ولأنها ليست ذات وضعية قانونية مُستقرّة، وما تزال منظمة التحرير الممثل الشرعى الوحيد للشعب الفلسطينى. عداوة حماس لأهل غزّة لا تقل أثرا عن الاحتلال؛ بل ربما أخطر، لأنها من الداخل، وتحت ستار القِيَم المُشتركة، وتنطوى على تخوين وتكفير وحطٍّ من الكرامة، فكأنها تُسهِّل قتلهم، وتُدنّس قبورهم بعد الرحيل الغادر.
الاعتراض على الاعتراض يبدو تأميمًا للقضية، واختطافًا لها من أصحابها الأصليِّين فى مجموعهم. إنه ترخيص بالمغامرات دون أعباء؛ ولو كان اللوم. إرخاء لستارٍ عقائدى فوق قضية وطنية سياسية، وإغراء بتخليق الذرائع للأصوليّة هنا، بما يترتب عليها من ذرائع للنازية المتوحّشة هناك. هبّة الغزّيين رسالة أمل لفلسطين كلها، وفرصة ذهبية للحماسيِّين أن ينجوا بأنفسهم والوطن، وأن يُثبتوا أنهم قادرون على التصويب بعد خطأ، وعلى الرجوع بعد انحراف، وأنهم خُدِعوا أو أغرتهم الوقائع، ولم يكونوا قاصدين الخوض بأهلهم فى النار، أو رَهن مُقدّرات الملايين لخدمة مشروع صفوى أو إخوانى.. باب مفتوح للتوبة، ويجب ألا يُغلقه النادمون على خطاياهم؛ لو كانوا نادمين حقًّا!