تقدمت علينا فلسطين يوما فى استقبال عيد الفطر؛ لكنها من دون شك تتأخر عنا فى استشعار بهجته الكاملة. عندما اجتمعت دار الإفتاء فى المسجد الأقصى عقب صلاة المغرب ليوم السبت، فرض الفلك ومقتضيات الرؤية الشرعية شرطهما فى التقديم والتأخير بين بيئات الإسلام على اتساعها. لا فضل للسابق ولا نقيصة فى اللاحق؛ غير أن صدفة التتابع تحمل ضمن معانيها ما يشير إلى نسبية الحقائق واتصالها فى آن، وإلى تداخل الذاتى والموضوعى، واندماجهما فى سبيكة واحدة.
يُطلّ الهلال على الخارطة من زوايا عدة، وقد يُغمّ علينا هنا ما يبين هناك، والعكس. هو الشهر ذاته إنما بتفاوت فى العدّة، والحدث الواحد مقسوما على اثنين، ولا تبدل الأيام وتفاوتات الأبصار والمشاعر فى حقيقة أننا نتوصل للوجهة نفسها من طرق شتّى. نتحد فى الثابت الأعلى، بقدر ما نتفرق حواليه شعوبا وقبائل.
وفى الدين الواحد، كما بين الأديان المختلفة والمتمايزة عن بعضها، يقع الاختلاف ناعما أو خشنا، وقد يتطور إلى خلاف أو قطيعة؛ لكنه لا يمس المضغة المشتركة فى نفوس البشر جميعا. يعرف القاتل من أعماقه أنه جانٍ، مثلما يتعرّف الضحية على مظلمته وظالميه؛ ولو حالت بينهم أطنان من الحشود والدعايات.. وعيدُ مصر اليوم، وفى فلسطين التاريخية أمس، ليس مجرد مناسبة روحية تُتمم طقسا تعبديا فحسب؛ بل فرقان بين نبى وبغى، وبين طاقة الخير التى يخرج بها الناس من ليالى رمضان، إزاء خصوم يتفننون فى استزراع الشرّ واستعجال حصاده. إنه فاصل عريض بين محبة الحياة والذوبان فيها، والذين يُشهرون الموت فى وجوه الآخرين؛ وما ربحوا رغم أكوام الجثث.
ما كان الصوم عذابا مجانيا، ولا هكذا أراد الله من الفريضة التى اقتطعها لنفسه من جملة عمل ابن آدم. فلسفة الإسلام فيه تتخطى التجويع، بل وما يُساق عن الرغبة فى مُعايرة جهاز الإحساس لدى الغنى والفقير. عمليا ليس الانقطاع عن المطعم والمشرب صيدلية طبية ناجعة، وقد يُحمل على الإعلال أكثر من التداوى. إنه فى جوهره الصافى تدليل على الاقتناع والإذعان، وعلى ترك ما نشتهى ابتغاءً لمرضاة من نُحب. تربية للنفس على مشقة، وبرهان على الزهد عن مقدرةٍ لا عَوَز. تقبّلَ اللهُ من الجميع صالح الأعمال؛ إنما تمام الأُمثولة المقصودة هنا أن تكون قادرا على اقتراف الضد وتُجافيه. القيم لا تَرسُخ من دون أن تُمتَحَن، وكذلك الطاعات.
ما تفرّق بين غزة ورام الله، جُمع بنعومة على لسان مفتى القدس، وربما لم يتفق الطرفان على شىء طوال الشهور الأخيرة إلا التسليم بنتاج الرؤية الشرعية لهلال شوّال. العمائم هنا تنوب عن الاجتماع الفلسطينى، لكنها تستمد شرعيتها العملية من مرافق الدولة القائمة، أى من السلطة الوطنية وظهيرها فى منظمة التحرير. من المحتمل أنه يتعذر على حماس انتداب عمائمها الخاصة وإقناع العامة بها، أو أنها ارتضت أن تنضوى تحت راية الجهاز الروحى الرسمى. المحصلة أن الوفاق قريب للغاية لو خلصت النوايا؛ ولعله الحرج من التنازع أمام الله، ما يعنى أن القضية فى حاجة لاستيعابها من منظور عقائدى، لا على معنى التديين كما تفعل الفصائل الأصولية، بل من منطلق أنه «حيثما كانت المصلحة فثمّ شرع الله».
ما كان شىء أحب للغزيين من إقامة شعائرهم فى بحبوحة من السكينة والخشوع. وقد عاينوا قبسا من حياتهم الطبيعية طوال ثلاثة أسابيع تقريبا فى رمضان، قبل أن ينقلب الوحش النازى المسعور بنيامين نتنياهو على الهدنة كما كان متوقعا، ويُحيل هدوءها المتوتر جحيما وتجويعا إجباريا. ابتهج الأبرياء المنكوبون بالطوفان ساعات قبل ستّة عشر شهرا، ومن يومها يُسددون تكاليفه بحسابات مضاعَفة. والحماسيون يُكابرون فى الاعتراف بالخطأ، وتسرقهم سردية النصر الزائف من التصويب. يتمردون على ضغوط الاحتلال، ثم يعودون لقبول ما كانوا يرفضونه بعدما تُزهَق مزيد من الأرواح. ولو مددنا الخط على استقامته؛ فقد لا تُشطَب الحركة فعلا؛ لكنها ستزداد ضعفا فى كل يوم عن سابقه، وسيتآكل أسراها بالموت أو الصفقات القسرية، ولن تكون النقطة النهائية أفضل من أية محطة سابقة.
صام الفلسطينيون تسعة وعشرين يوما فحسب؛ إنما يُجزون عن الشهر الفضيل بما لا يقل عنّا فى مصر وأى بلد تأخّرت إشراقة هلاله. والحكمة أن فى النقص تماما قد لا نراه بأنفسنا، وتنوب السماء عنّا فى الأهلّة؛ بينما يقع العبء فى معاش الناس على السياسة والكياسة. والحال؛ أن الوقوف على عدّة المأساة اليوم يُبدى لنا بعض ما كان خافيا؛ فكأن السنوار استعجل بطوفانه الهلال فى غير أوانه، وإدارة التداعيات من جهة خلفائه أقرب للإصرار على صيام الشهر بتقويم مُتخيَّل، بينما تقطع الوقائع بأنه استنفد كل ممكنات فائدته منذ الضربة الأولى، وكان على أصحابه تقديم كل ما يقود لإنهائه منذ سنة على الأقل.
عرف المصريون مبكرا ما جهله أشقاؤهم الطيبون. لا شىء أخطر من تديين الفضاء الوطنى، ثم اختزال الدين فى تيار ولون أيديولوجى بعينه. كانت خطيئة حماس الكبرى فى الانقلاب قبل نحو عقدين، وفى مزج المقاومة مع طموح السلطة والحكم، والجمع بين السلاح والسياسة تحت عمامة واحدة، والأفدح أنها عابرة لبيئتها وقوميتها، وتلعب ضمن أجندة إقليمية لا تنظر لفلسطين إلا باعتبارها ساحة بين ساحات، وليست «الساحة» بالتعريف والحصر، والغاية دون نظير أو شريك.
دفعنا ثمنا باهظا للخلاص من مؤامرة الإخوان بعد 25 يناير. اندملت الجراح، وما تزال روائح الدم حاضرة فى كل ذكرى شهيد أو دمعة يتيم. وما كانت القضية الفلسطينية فى حاجة لشىء أكثر من ثورة استباقية بيضاء، ترد الفصائل الأصولية عن انحرافها لتصب فى صالح المشروع التحررى بوعى ومنطق، أو تُحيد آثارها الجانبية على البشر والحجر، وقد صار جاثما بثقله على أنفاس القطاع حاضرا ومستقبلا. ما تغيّر العدو عمّا عرفناه سابقا؛ وإن حدث فلمزيد من الوحشية والانفلات. حماس قايضت المتاح بالمستحيل، وخاضت المقامرة بمعلومها الزهيد على مجهول الصهاينة العتيد، ودائم الوفرة والتجدد، لا سيما مع انحياز أنجلوساكسونى لا يتزحزح، وكلما انتُزع منه يتضخم ويزداد. والثورة الغزية التى استبقت العيد بأيام قلائل، تشبه الاستفاقة المتأخرة، وتُلقى طوق نجاة للقضية وناسها، وللحماسيين فيهم قبل غيرهم من المنافسين أو المحايدين.
اعتاد الرئيس السيسى فى السنوات الماضية أن يستقبل عيد الفطر فى معية أبناء الشهداء. يؤدى سنّة الصلاة ثم يتناول الإفطار معهم، ويقضى وقتا ظاهره تطييب الخواطر والحنوّ على مَن أكل اليُتم قلوبهم الغضة، وجوهره إبقاء الذاكرة حيّة ومتجددة، وحراسة السردية لكى لا يتسرب جراد النسيان إلى الحقل من ثغوره المفتوحة، وفى زحمة الأيام وعاديّاتها. كانت لمسةً إنسانية، ثم صارت عادة، ومع التكرار اتخذت صفة الطقس المُكمّل للعيد وبهجته. يُرَد بعض جميل الأبطال الراحلين فى أبنائهم، ونُعاين الكُلفة التى دفعوها دون صخب أو خطابة، ونستشعر مقدار ما حُقِن من دمٍ بفضل المبادرة ودقة التوقيت، ونجاعة التصدى للواجبات.
فى الأهلّة، يقول أهل الاختصاص إن شرط تحقق الرؤية الشرعية أن يُولَد الهلال قبل خمس عشرة ساعة من الغروب، وأن يبقى لنحو عشرين دقيقة بعد زوال الشمس. أى أن الفاصل بين العيد فى القدس والقاهرة دقائق لا غير. ربما لو كان الطوفان قبل السابع من أكتوبر أو بعده لاختلف الأثر، أو لو غيّرت حماس من نظرتها وإيقاعها فى التجاوب مع الأحداث، أو تطلعت للسماء من رام الله بدلا عن طهران، أو تقبّلت من منظمة التحرير عُشر ما ابتلعته من محور الممانَعة بشعبويّته وادعاءاته وخذلانه المُوجِع.
وقفت مصر وقفة جادة، بقدر ما تحتمله الظروف والتوازنات فى الإقليم والعالم، وصح العزم لدى الغزيين أنفسهم؛ حتى أنهم طالبوا بولايتها على ملف الأسرى والتهدئة، بينما كانوا يهتفون بخروج الحماسيين من مشهدهم اليومى. ولا معنى هنا إلا أنهم استطلعوا من الأنفاق هلالا غير ما يرجوه المذبوحون على السطح من الوريد إلى الوريد، ولا قيمة لتصورهم التلفيقى عن الجهاد بينما لا يرضاه المعنيون المباشرون به، ولا يحفظ لهم النفس ولا المال، أما الدين فالحمد لله أنه فى عهدة الإفتائيين المقدسيين، وليس فى متناول محمد السنوار والقساميين فى خنادقهم، ولا خليل الحيّة وشركائه فى فنادقهم.
يحتاج يتامى غزة لمن يُصلى العيد إلى جوارهم، لا من يضيف مزيدا من ذويهم إلى لائحة الشهداء. كانت فلسطين وستظل، والمقاومة تأججت قبل حماس ولن تنطفئ بعدها، وتمام الشرف والفضيلة أن يستنقذ المسؤول من يقعون فى نطاق مسؤوليته ولو بالرجوع للوراء خطوة أو عشرًا. لا معنى للوطن من دون أهله، ولا قيمة لأية طُهرانية تنطلق من القتال بلحم الأطفال، أو تعدّهم وغيرهم «خسائر تكتيكية» كما تبجّح خالد مشعل.
وحدة العيد تحتاج للتعميم على وجه السرعة. لا يصح أن تكون القضية واحدة والتقاويم مختلفة ومتنازعة. على السلطة أن تقرّ بعوارها وتنهض بعبء الضبط والهيكلة، وعلى فصائل غزّة أن تخلى الملعب بعدما آخذت فرصتها كاملة. يجب ألا يأتى العيد المقبل وأسباب المشكلة الداخلية على حالها، والذرائع تُهدى للنازيين الصهاينة بعشوائية واعتباط. قد لا تتوقف الحرب فى كل الأحوال؛ إنما لن يكون إكمالها فى غياب دعايات حماس بالسهولة التى عليها اليوم، وكذلك ما بعدها من مخططات تضييع اليوم التالى وقضم الأرض وكنس الغزيين من وطنهم الصغير، طمعا فى الشطب مرّة وللأبد على الوطن الكبير.
وفى شأن الوحدة؛ فليس بعيدا من الحالة أننا تفرّقنا على أكثر من شعبة فى العيد. دول احتفلت أمس وغيرها اليوم، وفريق ثالث يستطلعون الهلال مساء الأحد، وقد يحتفلون جميعا معنا اليوم، أو يتأخر بعضهم للثلاثاء. وبعيدا من جدل الحسابات الفلكية والرؤية الشرعية؛ فالواقع أن أغلب الدول الإسلامية تشترك فى جزء من الليل، ويصح فقها وعقلا أن تتّحد فى الأهلّة والمواقيت. ولست أعرف سرّ الافتراق فيما يمكن اللقاء عليه، وذلك من خلال مرصد شرعى جامع، وليكن من خلال منظمة التعاون الإسلامى أو غيرها من الفعاليات المشتركة، على أن يتوسل بالأدوات العلمية والشرعية، ويحقق الانسجام الممكن والمطلوب؛ لا سيما أنه لا يفتئت على الدين، ويحقق منفعة عمومية، لعل أهمها تأليف القلوب وتعميق الرابطة الروحية بين مجتمعاتنا على تنوّع الرؤى واختلاف المذاهب.
وختاما؛ فلا أحد من ذوى الضمائر الحية بإمكانه القفز على النكبة الماثلة فى عموم فلسطين. قد لا يُستساغ العيد بمعناه الفَرِح، ولا تكتمل بهجته بينما يقيم الغزيون فى عهدة الجوع صوما وإفطارا. عاطفة صادقة ووجيعة واجبة؛ إنما الأعياد جُعِلت أعراسا للدين والدنيا معا، وبمقدار ما يصمد الفلسطينيون رغم المعاناة والإرعاب والتقتيل وكىّ الوعى؛ فإنهم يخلّقون أعيادهم من بين موتٍ وطلل، يثأرون من دموية عدوّهم، ويُقيمون الحجّة على القريب قبل البعيد. العيد واحد ومعانيه شتّى، والحمائم تراقص الملائكة فى سماواته ولو تكالبت الشياطين على الأرض وناسها.
فارق التوقيت بين الشيخ محمد حسين فى الأقصى، والمفتى نظير عياد فى مقر دار الإفتاء بالدرَّاسة، كان مجرد دقائق فى زمن الرؤية، وساعة فى موعد الإعلان، ويوما فى الاحتفال، لكن الأكيد أن القلوب هنا وهناك على تقويم واحد، ولا هلال يطابق القدس وعموم فلسطين أكثر من هلال القاهرة، ومن عاطفة المصريين وعزمهم ومحبّتهم للأشقاء الفلسطينيين على طول المسافة بين النهر والبحر.