لا تفرح مع ترامب بإفراط، ولا تبتئس أيضا؛ فقد تنقلب المشاعر إلى الضد تماما فى لحظة واحدة. إنه رجل يُحبّ التحوّلات الصاخبة، ويستمتع بمفاجأة الآخرين، ولا ثابت لديه إلا المصلحة الذاتية، ومن مُنطلَق حسابات خاصة ضيّقة، تتضاءل فيها قِيَم الصداقة والأُلفة واحترام الشركاء، بقدر ما يتراجع القانون والأُطُر المُؤسَّسية، وتُؤخَذ المواقف بانفعالاتٍ لحظيَّة غالبًا، وتتبدّل بإرادة فرديّة دومًا، وبذات الدرجة من الخِفّة والاستعجال. الشواهدُ عديدة؛ لكنّ الأعلى فيها ما كان قبل أيَّامٍ ثلاثة مع نتنياهو فى المكتب البيضاوى.
استُدعِىَ رئيسُ الحكومة الإسرائيلية إلى البيت الأبيض على عَجَل. كان مُتوقَّعًا أن يزور واشنطن خلال عطلة عيد الفصح؛ فقُدِّمَت الزيارةُ أسبوعين تقريبا، لا لشىءٍ إلّا أنّ المُضيف أراد أن يُثَبِّت أمورًا بعَينها على مسمع الضيف، وأن يُحَوِّله من علاقةٍ خاصة إلى مَضرَبٍ للمَثَل. مكتب نتنياهو تعاطى مع المسألة من جهة الاستثنائيَّة التى ترصف الطريق بين واشنطن وتل أبيب، وتفاخر بأنه أوَّلُ زعيمٍ أجنبى يزور الامبراطور فى معقله بعد رسومه الجمركية، بينما يلهث الجميع لفَتح قنوات التفاوض معه، والبحث عن توافقاتٍ تُجنّبهم نيران الحرب التجارية المُتصاعدة.
طارَ زعيمُ الليكود إلى «بلد المحبوب» بحماسته المعهودة، تسبحُ طائرته فى الهواء، ويمتلئ صدرُه ببرودته اللطيفة على القلب. وكان يحملُ أجندةً من أربعة بنود، يُمنِّى النفسَ بالعودة مُنتصرًا فيها جميعًا: الرسوم الجديدة، التصعيد ضد إيران ومشروعها النووى، الاشتباك مع الأتراك على سوريا، وأخيرًا حرب غزَّة التى جدَّد اشتعالَها قبل أسابيع لأغراضٍ عديدة مُتداخلة، من انتزاع اعتراف حماس بالهزيمة، إلى تفعيل مُخطَّط التهجير، مرورًا بإطالة عُمر ائتلافه الحاكم، على أمل الهروب من قضايا الفساد ومسؤولية الإخفاق فى مَنع عملية السابع من 7 أكتوبر.
على الجانب الآخر؛ كان الاستدعاءُ المُعَجَّل إشارةً إلى أولويات مُغايرة، وإلى عناوين مُحدَّدة، ربما لا تحتملُ الإرجاء لحين القدوم فى سياقٍ طبيعى. أراد ترامب أن يُعَدِّل بعض مواقفه، أو يُطوّرها؛ لكنه لم يكن ليكتفى بإملاء مُستجدّاته على الحليف الطائش الصغير هاتفيًّا.
تركيبةُ الرئيس تهتمُّ بالصورة أكثر من المضمون، ولا تُقنعها مفازاتُ الغرف المغلقة والقنوات الخلفية. إنه فى معركةٍ مفتوحة مع الجميع، وكل علامة مهما بدت ضئيلةً فى مكانها، تكتسب رمزيّةً أبعد عندما تُعرَضُ على المشاع، وتتعمَّقُ دلالاتُها بالاستعراض والرسائل غير المُباشرة، وبما يقع من أثرِها فى نَفْسِ غريمٍ آخر، يُراقبُ الشاشات من بعيد، ويعرفُ يقينًا أنه مَعنىٌّ بالرسالة قَصدًا، وأنَّ ما جرى على الضيف قد يجرى عليه، فى الغياب قبل الحضور.
يُمكنُ القول إنَّ نتنياهو استُخدِمَ عَمليًّا لترويض آخرين غابوا عن الصورة، مثلما رُوِّض هو بما أُدير ضدّ الرئيس الأوكرانى فلوديمير زيلينسكى على المقعد نفسه قبل أسابيع. سلسلةٌ من الوقائع تُفضى كلُّ حلقةٍ منها لغيرها، وتحتاجُ فيها إلى أن تصنعَ أُمثولة «رأس الذئب الطائر» بطريقةٍ صاخبة، لمرَّةٍ واحدة؛ ثمّ تتكفّل المواقف المُتتابعة بترسيخها فى الوعى، وتدوير فاعليّتها من مشهدٍ لآخر؛ بما يهزمُ الضيوفَ اللاحقين استباقيًّا، ويُقوِّضُ دفاعاتهم النفسية وثباتَهم الانفعالىَّ، حتى قبل استقبال الضربة الأُولى.
المُؤكَّد أنَّ الاستعجال أوقعَ فى نَفس نتنياهو شيئًا من الريبة؛ ثمَّ تلاعب به المبعوث الأمريكى للشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، فى لقائهما الثنائى؛ لينتقل بعدها إلى عتبة البيت الأبيض مُحمّلاً بكلّ الاحتمالات، ومُتَوجّسًا منها أيضًا. صافحه الرئيسُ عند الباب؛ ثمَّ استبقه إلى الدخول. أُلغِىَ المؤتمرُ الصحفىُّ المُشترك، وربما سمعَ فى الاجتماع المُغلق ما لم يكن يُحبّ سماعه، أو ما لم يتوقّعه من الأساس. هكذا كان جاهزًا لأسئلة الصحفيين، وتعاطى معها بتحفُّظٍ ظاهر، وهدوءٍ مُصطَنَع؛ قبل أن يستولى ترامب على المشهد الختامىِّ كيفما أرادَه بالضبط، ويُطَوِّح رسائلَه المُرادَة فى كلِّ اتجاه.
يقفُ العالم على أطراف أصابعه بعد حزمة الرسوم الحمائيَّة. ردَّت الصين بنسبةٍ مُماثلة لِمَا فُرِضَ عليها؛ فضاعفَها ترامب ثلاثَ مرَّات تقريبًا. يدرسُ الأوروبيِّون آليَّات المُواجهة المُمكنة، ويبحث آخرون عن تسوياتٍ هادئة.
والرسالةُ الأُولى من الزيارة أنَّ إسرائيل على قُربِها المادىِّ والعاطفىِّ لم تُستَثن من الهجمة، وعندما سُئل ترامب عن إعفائها من الضرائب الجديدة أجاب: «ربما لا»، وزاد بأنَّ نتنياهو كان نموذجًا للتنازُلات السخيَّة، وعرضَ عليه ما لم يعرضه غيرُه، مُرحِّبًا بالمُنتجات الأمريكية دون أيّة أعباء جمركية. إنها صناعةُ النموذج، والإيحاء للباقين بأنه لا سبيلَ للتحدّى، ولا بديل عن الرضوخ، وبأنَّ المسألة تتجاوز كلَّ الاعتبارات؛ حتى مع أقرب الأقربين.
الصفعةُ الأقسى التى تلقّاها «بيبى» أتَته من حيث لا يحتسب. كان يَرُدُّ على التساؤلات بشأن الموقف من إيران، مُرجّحًا أنه لا فرصةَ للتوافق معها، وربما لا بديل عن التصعيد. فُوجئ بالسيد دونالد يقول إنه على وشك التفاوض مع طهران، ويُفضّل الوئام على الصدام، وبأنَّ اللقاء ليس قريبًا فحسب؛ بل ضُرِبَ موعدُه بالفعل من وراء ظهر تل أبيب.
وقبل أن يُفيق من الأولى، عاجله بصفعةٍ أُخرى؛ مؤكّدًا أنه لا يُحبّذ التصعيد مع أنقرة فى الشام، وعلى نتنياهو أن يكون عقلانيًّا فى مواقفه، وأن يترك له تصفية الخلافات العالقة مع الأتراك؛ كما لو أنه يُقوِّض انفلات الأجندة الصهيونية فى الجغرافية السورية.
وآخر الرباعية؛ أنَّ واشنطن راغبةٌ فى إنهاء الحرب الدائرة فى قطاع غزَّة. لم تتخلّ عن الدولة العِبريَّة قطعًا، ولم تُغيّر نظرتَها لحركة حماس والفصائل الأُصوليّة الشبيهة؛ لكنها لن تمضى أبدًا مُغمضةَ العينين وراء نتنياهو وعصابته المُتأجِّجة قوميًّا وتوراتيًّا.
سبقَ أنْ اجتمع المبعوثُ الأمريكى لشؤون الرهائن «آدم بوهلر» بالقادة الحماسيِّين فى قطر، وصرّح بعدها بأنَّ الولايات المتحدة ليست وكيلاً عن إسرائيل، ولها رؤى خاصة ومصالح حاكمة.
صحيح أنه اضطُرَّ بعدها للاستدراك على نفسه، وتردَّدت تقارير عن إقالته؛ لكنه كان عقابًا على زلَّة اللسان لا على الفكرة ومُحتواها، ومحاولةً لامتصاص غضبة جماعات الضغط، وتلافى التأثيرات الإيحائية غير المقصودة من الكلام، مع ما يُحتمَل عن هذا من تصليبٍ لمواقف الخصوم الراديكاليِّين، أو دفع غيرهم للتجرّؤ على الحليف؛ إذ يظلُّ الأهمَّ فى كلِّ الأحوال، والاستقلال عن يَمينِه الحاكم، لا يعنى مُجافاته فى الموضوعات الاستراتيجية، ولا القطيعةَ مع مصالحه العُليا.
عاد نتنياهو من واشنطن خالى الوفاض تمامًا. إخفاق كامل على صعيد العناوين الأربعة التى حملها معه، أو وضعها مُضيفه على الطاولة لتكون محور الزيارة ولقاءاتها. يسير الأمريكيّون على طريق الحوار مع الجمهورية الإسلامية خارج محاذير تل أبيب، وهم بهذا لا يرفضون مساعى التصعيد العسكرى فحسب؛ بل ربما يقبلون بسيناريو مُغاير لتجربة نزع النووى الليبى، المقبولة من جانب الصهاينة خيارًا وحيدًا للتفاوض.
وإلى ذلك، فإن عليه أن يحسب خُطاه فى الشام، وألا يذهب فى مُغامرته مع الأناضول إلى المدى الأقصى، ولا أن يطمئن إلى الضمانة الأمريكية المفتوحة إزاء أية احتمالات للصدام مع الأتراك. وسيجرى عليه فى الجمارك ما على غيره من الأصدقاء قبل الأعداء، وليس فى مقدوره مواصلة حالة المراوغة والانفلات من مُقتضيات التهدئة فى غزّة، والجلوس إلى الطاولة بذهنيّة مفتوحة على كل الخيارات، إلا أن تكون الحرب الدائمة قدرًا مفتوحًا.
يُخطِّط ترامب لزيارة المنطقة العربية مُنتصف الشهر المقبل. وليس من تفضيلاته أن يتجوّل فيها على إيقاع القذائف، ولا أن تبدو رحلته الخارجية الأولى تفصيلاً هامشيًّا فى مُقدِّماتها ونتائجها. عليه أن يحمل معه هديّة للشركاء، وقد فاز بوعود استثمارية من السعودية والإمارات بنحو 2.4 تريليون دولار، سيسعى إلى الوصول بها لـ3 تريليونات من بوّابة قطر.
لقد نجح قبل دخول البيت الأبيض فى وقف المقتلة الغزّية، وحلوله فى فضاء الإقليم ليس أقل من مراسم التنصيب. وعليه؛ فالهُدنة ضرورة وقتيّة لن يسمح لأحد بالتشغيب عليها، ولن يقبل من تابعه فى تل أبيب أقل من الخضوع الكامل له فى الحرب، كما يخضع فى السياسة والاقتصاد.
يعمل ترامب لنفسه أوّلاً؛ ثم للولايات المُتحدة بعد ذلك. يتحرّك الرجل بمنطق أنه يجب أن يكون عظيمًا؛ لأجل أن تستعيد بلاده عظمتها الضائعة. وشعار حملته الانتخابية وسياساته العملية يقتضى أن تكون «أمريكا أوّلاً»، قبل الجميع وعلى حسابهم؛ حتى لو كانت إسرائيل، وأن يكون هو أيضًا أوّلاً، قبل خامنئى ونتنياهو على السواء.
على الأرجح؛ سقط نتنياهو فى «فخ زيلينسكى» وإن بخشونة أقلّ، ومن دون توقُّع أو تحذير.. النمذجة المصنوعة تحت أضواء المكتب البيضاوى ليست نزولاً عن الأولويات، ولا تضحيةً بالصديق الإسرائيلى اللدود. كان القصدُ أن يُحمِّله رسالةً مُزدوجة: عن نفسه فيما يخص الشِدّة والحسم وانغلاق أبواب الرخاوة الارتداد، وعن الآخر فى الطاعة ووجوب وتقديم فروض الولاء والإذعان.
وبالتعميم؛ فإن على الخصوم فى مسألة الرسوم أن يتهيّبوا الامبراطور ويقتدوا بتابعه، وعلى طهران معرفة أنها حصلت على أقصى ترضية مُمكنة بفتح أبواب التفاوض، على ألا تطمع فيما يتجاوز ذلك إلى القضم من ثوابت الإدارة المُعلَنة، والمعنى نفسه لأنقرة رغم الترحيب بحضورها فى الشام، ولحماس التى يكفيها ما تُكنّه لها واشنطن، وعليها أن تُقدّم القرابين لا أن تستحثّ مزيدًا من العداوة والضغوط.
إلغاء المؤتمر جاء تاليًا لمُهاتفة مع قادة مصر وفرنسا والأردن، على هامش قمّتهم الثلاثية فى القاهرة. ربما اضطُرّ لضغط أجندته على ضوء ما اقتطعه الاتصال من وقتٍ، أو أراد أن يتلاعب بمشاعر نتنياهو ويُعمِّق تأويلاته وافتراضاته السيئة. بين الاحتمالات أنه يقترب مع الرؤية المُضادّة لمشروعه عن «ريفييرا الشرق». حُسِمَت المسألة عربيًّا إزاء التهجير، والمصالح تفرض على واشنطن مراجعة نفسها، وتعليق بعض نزوات الرئيس، أو إرجائها لأجلٍ غير مُسمَّى.
والحال؛ أن كل ما فات توقعات تحتمل الخطأ والصواب، وحتى حال صوابها قد ينقلب عليها ترامب بين لحظةٍ وأُخرى. سلوك الرجل لا ينتظم على مسار واضح، ولا تحكمُه مُحدِّدات ثابتة، وقد يتبدّل على الحليف كما على الغريم، أو أشدّ. ثمّة ثوابت قطعًا، أهمها إعلاء أمريكا فوق النظام الدولى، والقانون، والعولمة التى اخترعتها وبشّرت بها، وبين أولوياتها أمن إسرائيل وتفوّقها، وعدم اهتزاز مصالحها الحيويّة تجاه حزام أعدائها الواسع، أو حتى مع المُحايدين ومَن يرتبطون معها باتفاقات سلام. لكنه فى كلّ الأحوال لن يُوقّع لنتنياهو على بياض، ولن يُسحَب بطوق فى الرقبة كما كان بايدن سابقًا.
وفى مناخٍ كهذا يتوجب القلق، والأمل أيضًا، ويتعيّن على القوى العربية أن تحشد قواها، وأن تسعى لتحرير الصورة من استقطابها القديم، وإعادة ضبط التوازنات مع الإدارة الأمريكية بمَنطقها شديد النفعية. خرج نتنياهو مُكتئبًا من البيت الأبيض، بعد أقل من شهرين على لقاء فاز فيه بما لم يكن يحلم به.
والمنطقة بإمكانها أن تعكس الحال، وتخرج من الكآبة إلى البهجة؛ لو أحسنت الركوب على موجة ترامب. فرصة صعبة وغير مأمونة، مع رجلٍ يُدمن المُغازلات العنيفة، ويلتفّ كثعبان على القريب والغريب؛ حتى لا يُعرَف الاحتضان من الاعتصار.
استعادة التهدئة فى غزّة ستكون إشارة إيجابية، وفيما بعدها لكلّ حادث حديث؛ إنما يتعيّن على عُقلاء الإقليم أن يتضامّوا معًا، وألا يُفوّتوا مكاسب الصفقة الكبيرة الواحدة، بأطماع الأرباح الجُزئيّة الصغيرة.. والأهم؛ عليهم أن يثقوا فى أنفسهم لأقصى مدى، وألا يتجاهلوا صفعات ترامب المتوالية على وجه نتنياهو.