حازم حسين

عن وحدة الساحات فى مفاوضات عُمان.. آخر أوراق الممانعة بين الفردية والخلاص العام

الأحد، 13 أبريل 2025 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

بقدر ما كان شعار "وحدة الساحات" سببًا مُباشرًا فى الفوضى الإقليمية الراهنة، يُمكن أن يصير مَخرجًا منها؛ حال تشغيله فى مسارٍ عكسى، على ما يقول أبو نواس فى قصيدته المشهورة "وداونى بالتى كانت هى الداء".. سقطَتْ البنادقُ من أيدى المُمانِعين، أو بالأحرى أُسقِطَت غَصبًا، إنما ما يزالُ بالإمكان التعويض عن مفاعيلها فى غُرَف التفاوض، وتوظيف ما تبقَّى من عناصر قوّةٍ وأدوات تأثير، لصالح الانفلات الجماعىِّ من قيود اللحظة، وتخليص الأطراف لبعضها من الفخاخ التى أوقعت نفسَها فيها بعشوائيَّةٍ حينًا، وباستخفاف فى كل الأحيان.


وصلَ وفدٌ من حركة حماس إلى القاهرة، أمسِ، بالتزامُن مع جولةِ حوارٍ واستكشاف أُولى بين الولايات المتحدة وإيران فى سلطنة عُمان. تجتهدُ مصر، ومن ورائها محورُ الاعتدال، لاستنقاذ غزَّة من مُغامرة الشيعيَّة المُسلَّحة، وتتركَّز جهود طهران على الخلاص الفردى لا العام، وانتشال نفسِها من مُستنقَعٍ قد يتسبَّب فى تقويض مشروعٍ عُمره من عُمر الجمهورية الإسلامية.


وبينما كان المأزقُ جماعيًّا، بغَضِّ النظر عن الشرارة الافتتاحيّة وبواعثها؛ فليس شرطًا أن تُدَار السياسةُ مثلما أُدِيرَ الميدانُ، ولا أن يبحث كلُّ جناحٍ عن نجاته الفرديَّة؛ طالما أنَّ التضحيات الاضطرارية واقعةٌ على الأكتاف لا محالة، وأنَّ بالإمكان الاستفادة من مجموعها المُوزَّع على كلِّ الأذرُع، فى ترشيد الكُلفة النهائية للخسائر، أو إجراء مُقاصّة بَينيَّة تُضيف لأحدهما مُقابل ما يُؤخَذُ من الآخر.


وليس القَصدُ مِمَّا فات أن تتَّصل اللعبةُ بمنطقها القديم، ولا أن يُقَدِّمَ المركزُ مصلحتَه الخاصَّةَ على الأطراف كما كان دائمًا. لقد أُوحِىَ للميليشيات الرديفة بأنها مشمولةٌ بغطاءِ الحاضنة الأُمّ، وعليه انطلق يحيى السنوار فى مُغامرته غير المحسوبة، ثمَّ لاقاه حسن نصر الله عليها تحت عنوان "الإسناد والمُشاغَلَة"، واندفع الحوثيِّون من دون حسابٍ، وتقاطعت معهم المجموعات الشيعية العراقية بحَذَر.


وإذ تكشفُ الحصيلة عن ضياعٍ على كلِّ الجبهات الثانوية؛ فإنَّ الجبهةَ الأُولى لا ينبغى أن تخوض جولةَ التسوية بأنانيَّةٍ كاملة، ولا بالإنكار الذى رُؤىَ منها طيلةَ الشهور الماضية؛ بل أن تنظُرَ للمسألة من جهة المسؤولية عن تصويب ما تسبَّبت فيه، وأن تعمل بكلِّ طاقتها على إفادة مَنْ استتبعَتْهم سابقًا، بالتنازُلات التى قد تُقدِمُ عليها خيرةً أو اضطرارًا.
وإن كان لا مفرَّ من النزول عن الشجرة؛ فليكُن سبيلاً إلى تهيئة البيئة المُناسبة لإفاقة المخدوعين من أوهام الماضى، أو على الأقلِّ التوقُّف عن نَزَق التترُّس بالضعفاء والمنكوبين، فى مُواجهةٍ غير مُتوازنة على الإطلاق.


اندلعت الحربُ بقرارٍ أيديولوجىٍّ خالص، ومن يَومِها يُحاول العُقلاء أن يُرشِّدوا فواتيرَها قدرَ الإمكان. أُبرِمَتْ هُدنتان فى غزَّة، وعادت الدولةُ اللبنانية لتقف على ساقيها بعدما كانتا مكسورتين. وإذا كان مقطوعًا بأنَّ نتنياهو يُواصل الحربَ لحساباتٍ شخصية؛ فما كان ميسورًا له النفاذ لغاياته من دون ارتباك حماس، وضبابيّة رؤاها، واشتباك قادتها فى المستويين السياسىِّ والعسكرى على البديهيات.


الانسدادُ لا يخدمُ أحدًا سوى اليمين الصهيونىِّ باندفاعته النازية، ونهَمِه لقَضْم الأرض وكَنْس البشر من أماكنهم. والمصلحةُ الفلسطينية تقتضى وقفَ المقتلة اليومَ قبل الغد؛ ولو بدَتْ التضحياتُ قاسيةً من منظور القسّاميِّين المُتخندِقين فى بَطن القطاع.


قُدِّمَتْ الذرائعُ لزعيم الليكود بوَفرةٍ وسخاء غير عاديّين، وعلى كلِّ الجبهات تقريبًا. المُحصِّلة أنَّ سلاح حماس ما غَيَّر شيئًا فى تركيبة التوازنات المُختلَّة حتى النخاع، ولا حَقَّق الحزبُ إشغالاً أو مُساندةً من أىِّ وجهٍ أو بأيّة نسبة.


كانت المُناوشاتُ مُجرّدَ هدايا مجَّانية للعدوِّ على الجانب الآخر من الجبهة، ووقودًا لا ينقطعُ عن آلته الحربية، وغبارًا يُثَارُ بهمجيَّةٍ مُؤسفة فى مجال السياسة؛ بينما يمضى الصهاينةُ بأقنعةِ التنفُّس ونظَّارات الرؤية الليلية، ويتعثَّر المُتاجرون بالقضيَّة وناسِها فيما جرّوه على الأبرياء المنكوبين من ويلاتٍ، وما تطوّعوا به من تهييجٍ لوحشٍ هائج أصلاً، ولا يحتاجُ مزيدًا من الكرم المُفرط وعطاياه السخيّة الساذجة.


وبعدما تأكَّد أنه من الصعب الاستمرار على الطريق نفسِها؛ فلا سبيلَ للإنقاذ إلَّا بالعودة على خطِّ صناعة الأزمة. أى أنْ يعملَ الغُرماء وفقَ تشكيلٍ محسوب لعبور الفِخاخ والألغام، وصولاً إلى فَضِّ الشراكة بينهم بتوافُقاتٍ ناعمة.


وهذا مِمَّا يفرضُ على القيادة المركزية للمحور أنْ تُعين أذرُعَها على الانفصال عن بعضها، وعن الجسد الرابط بينها، ثمَّ أن تكون "كبش الفداء" لها جميعًا؛ لا سيَّما أنَّ المطلوبَ منها لن يزيد أو ينقُص إنْ اضطلعت بهذا الدور الشريف، كما لن يفيدها أن تفلِتَ بنفسِها وتستبقى الآخرين فى شَبَكة الصيَّاد، وما عاد فى مُستطاعها أن تُوظِّف فوائض قُواهم الذابلة لخدمة المشروع؛ أكان من زاوية الدفاع المُتقدِّم عن الرأس، أمْ إحكام طَوق النار حول الشيطان الأصغر، بينما تُسَلّم الشُّعلةَ وبراميلَ البارود كُلَّها للشيطان الأكبر.


طار ستيف ويتكوف، مبعوث ترامب للشرق الأوسط، ما يزيدُ على خمسِ ساعاتٍ من روسيا إلى سلطنة عُمان. بحثَ مع بوتين فى محطّته الأُولى ملفَّ الحرب الأوكرانية وخطط تصفيتها، ويبحث فى الثانية مع وزير الخارجية الإيرانىِّ عباس عراقجى مشروع بلاده النووى.


وتكرارُ الوَجه فى اللقاءين يُشيرُ لقيمة الموفَد الأمريكىِّ وموثوقيته لدى سيِّد البيت الأبيض؛ لكنه قد يُؤشِّر أيضًا إلى تشابُك الموضوعات واتصالها ببعضها. يستفيدُ الروس من طهران فى صراعهم المفتوح فى أوراسيا، وتعنيهم بالتأكيد سلامة بلدٍ وقَّعوا معه اتفاقيَّةَ شراكةٍ استراتيجيَّة طازجة، أقرّها مجلسُ الدوما قبل أيام. وقد يتخادَمان فى المفاوضات على الأمرين؛ والأَوْلَى بالطَّبع أن تضع الجمهوريَّةُ الإسلامية مصالحَ حُلفائها القريبين فى مجال النظر، ومثلما تفاخرت سابقًا بالسيطرة على أربع عواصم عربيَّةٍ، بات عليها أن تُغادِرَها من دون التسبُّب فى مزيدٍ من الأذى والانتكاسات، وأن تسعى للفخر بأنها لعِبَت دورًا فى إنقاذ مَنْ كانت سببًا فى نكباتهم الثقيلة.


استُهلِكَ جدلٌ كثيف فى توصيف الطاولة العُمانية. قال ترامب إنها مُفاوضاتٌ مُباشرة، وتشدَّد خامنئى ورجالُه فى أنها غير مُباشرة. ولا معنى للشكل على الإطلاق، وما إذا كانوا فى غرفةٍ واحدة أم اثنتين، ويتحادثون لسانًا لأُذُنٍ أم من خلال وسيط، أو حتى بأوراق مكتوبةٍ كما تردَّد فى بعض التقارير.


الواقعُ أنَّ طهران ذهبت للقاء خارجَ ثوابتِها المُعلَنة، وقبل أن تُرفَعَ العقوباتُ أو تُرَشِّدَ واشنطن "ضغوطَها القصوى". ولا أرى ذلك إلَّا من قبيل الحنكة والذكاء والبراجماتيَّة المقبولة؛ لكنَّ ما يُقبَلُ منها هُنا، يُقِيمُ الحجَّة عليها بالضرورة فيما يخصُّ تصليبَ الساحات الرديفة، وتقويض خياراتها، وإجبارها على الاندفاع والتشدُّد، بينما كانت تتقلَّب من ناحيتها بين الصبر الاستراتيجى والتراجُع التكتيكى.


بُنِيَتْ نظريَّةُ "وحدة الساحات" على ثابتٍ أُصولىٍّ وحيد؛ أن تكون رصيدًا فى خزانة الجمهورية ومشروعها لتصدير الثورة الإسلامية، وحائطَ صَدٍّ مُتقَدِّمًا للدفاع عنها حصرًا؛ ولو على حساب الأذرُع نفسِها وأوطانها الأصيلة.


وما كان خَفيًّا منذ دخولها لبنان قبل أكثر من أربعة عقود، مُرورًا بإحكام سيطرتها على سوريا، وتربية طبقة واسعة من المُوالين فى غزَّة، كشفته الوقائعُ المُتلاحقة منذ "طوفان السنوار" وما ترتَّب عليه من تداعيات.


فى المُبتدا غسلَتْ يَدَيْها من هجمة حماس، ثمَّ زجَّت بالحزب من جهة لبنان، وعندما بدت المُساهمةُ شَكلانيَّةً وعاجزةً عن التأثير فعَّلَت ورقةَ الحوثى عند فوَّهة البحر الأحمر، وأخذت تُناور بمجموعات الحشد الشعبى العراقيَّة بصورةٍ مُتقطِّعة ومُتفاوتة الحجم والأثر.


أمَّا التغيُّر الذى وضعَها فى مَتن الأحداث والتطوّرات؛ فلم يَكُن بمُبادرةٍ منها، بل استدعاها نتنياهو ليضعَ البيضَ كلَّه فى سَلَّةٍ واحدة، ويخوض حربًا  مُجمَّعة وشاملة على المحور فى القلب والأطراف.


باختصارٍ؛ تقاعست صاحبةُ شعار "وحدة الساحات" عن تفعيله عمليًّا، وأخذ الصهاينةُ بزمام الأمر ليقلبوا المشروع على رُؤوس مُلّاكه والمساهمين فيه. وليست مُفارقةً عابرةً أنَّ الحرسَ الثورىَّ اضطُرَّ لتجزىء جبهاته بعد سنواتٍ من الاستعراض بها كُتلةً واحدةً، وأنَّ النازيَّةَ الصهيونية كانت أشدَّ إخلاصًا لفكرة الوحدة من الجنرال قاآنى، وريث عرش قاسم سليمانى.


واليومَ، تعودُ الأمورُ إلى نصابِها القديم: الاحتلالُ من مصلحته أن يُفَرّق بين جبهات الحرب، ليستكمل بالسياسة ما أحرزه من مُكتسبات القوَّة الغاشمة، والمُمانِعون قد تكون فُرصتهم الأكبر والأهمّ فى استعادة الشعار الذى عَبدوه بالقول وجحدوه بالممارسة؛ إنما على شرط أن يكون وسيلةً للخروج من حلبة القتال، وتحسين الأوزان النسبيَّة على طاولات الحوار.
تعرفُ حماس باليقين أنه لا بديلَ عن مُغادرة المشهد، بالضبط كما يعرف الحزب أنه لا خلاصَ للبنان قبل نزع السلاح، والإقرار بالسيادة الكاملة للدولة، رجوعًا إلى الطائف فى صورته الصافية، وليس على ما خالطه من تحريفٍ وتصحيف منذ اغتيال رفيق الحريرى حتى الآن.


والحال؛ أنهما يتشدَّدان اليومَ لاعتباراتٍ وثيقة الصِّلَة بإيران، ولو أنكروا. الضاحيةُ مُلتزمةٌ بموقفِ المُرشِد تحت سقف الولاء الدينى، والعيون فى أنفاق غزة تتطلَّع من ثقوبها الصغيرة إلى مُستقبل الحركة، وآمالها فى إعادة ترميم كيانها المُتدَاعى، وهى المهمَّة التى لن تَتِمُّ من دون حاضنةٍ تُوفِّرُ لها الدعمَ مَاليًّا ولوجستيًّا، وهُنا تضيقُ عليها الخيارات حتى تنحصِرَ فى طهران.


استبقَ "عراقجى" رحلتَه إلى مسقط بالقول إنَّ الطاولةَ محجوزةٌ حصرًا للملفِّ النووىِّ. هذا ما يسعى إليه، وسيستميتُ فى إنفاذه من دون شَكٍّ؛ لكنَّ الواقع أنَّ طموح البيت الأبيض يتخطَّاه كثيرًا، ولن يستبعد موضوع الصواريخ الباليستية، كما لن يكون نشاطُها فى الإقليم وعلاقتُها بالحرب الأوكرانية خارجَ مجال البحث.


خيارُها الراهن بين أن تُقَدِّم لواشنطن ما تتطلَّع إليه، أو أن تُغامر بالذهاب إلى بديلٍ شديد الخشونة؛ لن تكون قادرةً على التعاطى معه، ولا ضمانةَ لديها من مخاطرِه التى تبدأ بتكسيح بلدٍ هَشٍّ تمامًا فى الأمن والاقتصاد، وإلى المساس بالنظام ذاتِه فى الضربة المباشرة، أو فى تداعياتها مع شارعٍ غاضبٍ وجاهز للاشتعال.


يطمع ترامب فى أرباح التوافق؛ على ما يُسَاقُ من أروقة الإدارة الأمريكية. يُقَدِّمُ الصفقةَ على الصدام؛ لكنه لن يتنازلَ عن ثابته المُعلَن بعدم امتلاك إيران سلاحًا نوويًّا. وبحسب ما نشره موقع "أكسيوس" فإنه مُنفَتحٌ على تقديم تنازُلاتٍ للتوصُّل إلى اتفاقٍ مقبول.


هُنا؛ قد يكون بين أوراق طهران المهمَّة أن تضع عناوين غزَّة ولبنان على رأس الموضوعات النقاشية، وأن تُطالب بالعودة إلى هُدنة القطاع ببقيَّة مراحلها الثلاث، وتفعيل كامل البنود المُتَّفَق عليها مع بيروت، وصولًا إلى انسحاب الاحتلال من النقاط الخمس المُحتلَّة جنوبىَّ الليطانى، وهذا بالتحديد ما قصَدتُه من تفعيل "وحدة الساحات" على خطٍّ عكسىٍّ.


فرضَ الرئيسُ الأمريكىُّ مسارَ عُمان على تل أبيب، أو بالأحرى مرَّرَه من فوق رأس نتنياهو عندما استدعاه للبيت الأبيض خلال الأسبوع الماضى. بدا أنَّ الأخير لا يُرحِّب بالتفاوض أصلاً، وما زال مُتمسّكًا بعمليّةٍ عسكرية لتقويض المشروع النووى الإيرانى.


وسيّدُ البيت الأبيض لا يقبل بالطبيعة أن يُناطحه أحدٌ، ولا يعتبر أنه مُضطرٌّ لدعم إسرائيل كيفما يتراءى لائتلافها اليمينى الحاكم. لقد وبَّخ صديقَه "بيبى" ضِمنيًّا فى المكتب البيضاوىِّ عن سلوكه فى سوريا، وعيَّرَه بالمساعدات السنوية البالغة 4 مليارات دولار، ولم يُحقِّق له مَطلبَ الاستثناء من الرسوم الجمركية الأخيرة قبل تعليقها عن الجميع لتسعين يومًا. بعدها اضطُرّ الأخير لعَقد اجتماعٍ مع أنقرة فى أذربيجان، وتعهَّد بتعديل الميزان التجارى لصالح الولايات المتحدة، ويقترب من تهدئة غزّية دون إرادته، ويجلسُ مُنزعجًا ليُراقِبَ ما ستُسفر عنه جولةُ مسقط.


ولقاء أمس ليس ضربةً نهائية لحسم الملفّات العالقة؛ بل مُقدّمة استكشافية ضرورية لترتيب مسارٍ حوارى لن يكون قصيرًا. تنازُلات ترامب المحتملة قد تنصرف إلى نسخةِ مُحسَّنة من اتفاق 2015، الذى انسحب منه ترامب نفسُه بعد ثلاث سنوات. قد يقبلُ بترتيباتٍ ما فى نقاط التَّمَاس الإقليمية مع إيران، أو ينفتح لمُقايضةٍ معها لصالح الأوضاع المأساوية فى غزَّة، والمُعلَّقة فى لبنان.


وإثارة وفد طهران للموضوعين لن تُوظِّفَ تنازُلاتها المُحتمَلَة لخدمة ضحاياها فحسب؛ إنما ستحمل إشارةً رمزيَّة مُهمَّة لجهة تفكيك محور المُمانَعة فى صورته القديمة، وصدقها فى التوجُّه لأن تكون عاملَ تهدئةٍ لا إثارة فى الإقليم، والأهمّ أنها تحلُّ الأذرُعَ والميليشيات الرديفة من التزاماتها تجاه مشروع الشيعية المسلحة.


وبقدر الرغبة الأمريكية فى تسوية قليلة التكلفة؛ فإنها قد تلتقطُ الخيطَ من طهران، وتدفعُ فى اتجاه وقف الحرب العدوانية على غزة، وإنهاء حال السيولة والغموض فى جنوب لبنان، ما يسمحُ للأُولى بحزامِ دعمٍ أوسع يُحقِّق الإنقاذَ، ويستكمل تفعيل الخطة العربية الإسلامية لإعادة الإعمار، ويُوطِّدُ للثانية أن تفرضَ سيطرتَها على كامل أراضيها، وتستكمل مهمَّة نزع السلاح وإنفاذ القرار الأُمَمىِّ رقم 1701.


وفى المقابل؛ ستكون تلك الدَّفْعة صدمةً مُضاعَفةً لنتنياهو؛ ولن يجد بديلاً عن الرضوخ للتوافُقات الموضوعية بعدما تقتنعُ بها واشنطن، أو الصِّدام معها قبل التسليم بالنتيجة نفسِها، وبعدما تتعكّر علاقتُه بامبراطورٍ اسمه دونالد ترامب، يكره الاعتراض على إطلاقه، ولا هامشَ لديه لقبوله من تابعيه بشكلٍّ خاص.


تردَّد أنَّ الحرس الثورىَّ طالبَ ميليشيات العراق بالتثبُّت وعدم الصدام مع الأمريكيين، وأصدر خامنئى فتوىً لمَراجعِهم السياسية والعسكرية تعفيهم من المُواجهة. والحصافةُ هُنا يجبُ ألَّا تكون وَقفًا على جبهةٍ دون أُخرى، ولا بمنطقٍ نفعىٍّ يُفتِّشُ عن استبقاء ما تيسَّر من الأذرُع بعدما قُطِّعَت البقيَّة.


إعفاءُ الحزب من التزاماته ضرورةٌ لإنقاذ لبنان، وإنهاءُ آمال حماس فى تجديد الصِّلَة القديمة بمُكوِّناتها المُنشئة للأزمة، أقلُّ ما تفعله طهران لاستدراك خطاياها والاعتذار عنها. وبهذا فقط تتخلَّصُ العناوينُ الوطنية من الشوائب والشُّبهات، وتعودُ لمُقاربةِ الأمور بعقلانيَّةٍ واقعية، وتحت سقف المصلحة الآنيّة، وبعيدًا من نَزَق الاحتمالات أو الانتحار المُؤجَّل.
وإذا كانت القاهرةُ قد نجحت بمُفرَدِها فى تعطيل مشروع التهجير عمومًا، وإغلاقه من جهة حدودها بشكلٍ خاصٍّ ونهائى؛ فإنها تُواصل العمل بدأبٍ على ترويض الجنون الإسرائيلى، وترويض حماس أيضًا. والمسألةُ ذاتُها على صعيد لبنان، من خلال اللجنة الخُماسيَّة وما يخص تثبيتَ العهد الجديد، وورشة الإعمار المُرتقَبَة بعد تسوية مسائل الحرب والسلاح.
تسبَّبت "وحدةُ الساحات" فى أزمةٍ حقيقية عميقة، وزادتها فداحةً بعدما أسقطَتْ أطرافَها فى الفخ، وأجبرتهم على ألَّا يتوقّفوا عن الحَفر. والفجوةُ القائمة ستُردَمُ فى كلِّ الأحوال؛ لكنَّ تكلفة الوقت والجهد والسياسة قد تُصبح أقلَّ حال اللقاء على الحلِّ مِمَّن كانوا طرفًا فى صناعة المُشكلة.


لا أُفقَ للبرنامج النووىِّ؛ فهل يُستفَادُ بتفكيكه أو بأيَّة توافُقاتٍ أيسر عليه؟ واشنطن مع ترامب ليست كما كانت مع بايدن، وتُجارِى نتنياهو لانعدامِ البدائل، أو لأنها لم تَجِد مَنْ يُغازِلُها بمنفعةٍ أكبر.. الخطَّةُ المصرية العربية تُقَدِّمُ التهدئةَ والإعمار، ووحدة الساحات فى غُرَف مسقط المُغلَقةِ قد تستكملُ حلقةَ الحصار السياسى لمخابيل إسرائيل؛ إن أُحسِن استغلالُها بندمٍ على ما فات، وأملٍ فيما هو آتٍ. فهل تكون "وحدة الساحات" مُفيدةً لمَرَّةٍ واحدةٍ، بعد كلِّ ما صنعته من أزماتٍ لسنواتٍ طوال؟! لا سيَّما أنها تلفَظُ أنفاسَها الأخيرةَ فى كلِّ الأحوال.







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة