يختلفان فى السلوك ويتفقان على البقاء. لا فارق تقريبا بين حكومة نتنياهو وحركة حماس. وبعيدا من النزاعات المتأججة فى الميدان وداخل غرف التفاوض، فمساحة التوافق بينهما أعمق مما يبدو على السطح، وكأنهما فى حرب واحدة ضد غزة.. يريد المحتل المسعور أن يذبح القطاع من الوريد للوريد، ولا يحب للحرب أن تنتهى. كذلك المقاومة الطاهرة، غايتها النجاة الفردية وألا تنزل عن عرشها ولو فوق ركام وخراب. والمُحصّلة واحدة: طرف يوفر الذريعة ويُكبل الذبيحة، والآخر لا يتوقف عن نثر الرماد فى العيون كى لا ترى حقيقة تجار الدين والشعارات.
يقف الطرفان اليوم عند نقطة متقدمة جدا، بالقياس إلى ما كانت عليه التوازنات طيلة العقدين الماضيين. فى السابق ارتدعت حماس، ومضت تحت السقف المرسوم من تل أبيب. تقبّلت اصطفاءها من جهة اليمين الصهيونى لتكون خنجرا فى خاصرة الإجماع الفلسطينى، وارتاحت للتسليم بسلطتها على القطاع، وتمرير حقائب الدولارات المشبوهة عبر مطارات العدو ومعابره. التزمت بالسيناريو المرسوم تماما، عبر مواجهات جزئية متقطعة على فواصل زمنية مريحة، وبما لا يعطل آلية «جزّ العشب» وتقليم الأظافر بانتظام، حتى أنها وقفت غير مرّة تتفرّج على التنكيل بحركة الجهاد، وما اعتبرت نفسها طرفا ولا أن المقاومة تعنيها من قريب أو بعيد.
وزعيم الليكود الذى استثمر طويلا فى الحماسيين، يجنى اليوم ثمار ما زرعه لسنوات طوال. المؤكد أنه لم يكن ليمضى إلى السلام فى كل الأحوال، ولا يعترف بفلسطين وشعبها، أو يترك فى ذهنه هامشا للتفكير فى دولتهم المستقلة. إنما لم يكن قادرا على حلحلة الجمود النسبى بشأن الأوضاع الداخلية، وتشابكها مع التوازنات الحرجة على امتداد الإقليم. كان فى حاجة إلى ثغرة درامية، ثم إلى كاتب سيناريو فقير الموهبة ومحدود الخيال، كى يدفع الخطوط والشخصيات على الطريق المأمولة نحو صناعة تراجيديا مكتملة الأركان، وقد أهداه يحيى السنوار فوق ما يتمنّى للأسف.
قد يبدو الكلام غريبا على البعض، لكنها الحقيقة الثابتة الآن بوقائع دامغة. كان التجميد النسبى الذى رافق الصراع فى سنواته الأخيرة أفضل كثيرا لفلسطين من فتح «صندوق باندورا» بمقامرة كاملة. لا يمكن أن تتغير المعادلات بالقوة لصالح الطرف الأضعف، ولن تكون السياسة أشد إضرارا به من الحرب فى كل الأحوال. المقاومة الخشنة تتطلب أمورا آخرها وفرة السلاح والإرادة، وأهمها اكتمال السياق الحاضن محليا، وضمان ألا تنفتح مسارات جانبية غير محسوبة، تضيف للقوى وتقضم من الضعيف.
اللحظة التى عدّها السنوار مثالية للذهاب إلى المجهول، كانت المخرج الذهبى لغريمه الذى يزدهر مع الفوضى، وتأكل منه الرتابة أضعاف ما تأكله النار. تناقضاته مع الممانعة لم تخفت، وما كان مرتاحا لتطويقها له من عدة جهات، لكنه بدا عاجزا عن اختراع المواجهة المطلوبة بمبررات مقنعة، وخائفا من كلفة النزق وتداعياته المجهولة. أى أنه كان مرتدعا بالخوف من أخطاء التجربة، وصامتا باضطرار عن إحداث جلبة لا تُحمَد عقباها. يرتاح لمداولات خفية على خط التطبيع مع الرياض، وتفاجئه صفقة الأخيرة مع طهران فى بكين. وقد انصرف مختارا عن كل هذا إلى التحرش بساحته السياسية، والسعى لتفكيك دولاب الدولة وإعادة تركيبه بما يناسب رغبته فى البقاء.
بدلا من التمدد إلى الخارج، اختار أن يخوض حربا ناعمة مع الداخل. كان مشروعه للإصلاح القضائى أقرب إلى الانقلاب على الذات، ولم يكن الاستثمار فى فوضاه المتوقعة يتطلب أكثر من الصمت الوقور، والمواكبة الحثيثة، وتأمين الظروف المريحة لإذكاء الجدل وتفاعلات السياسة على طول الدولة العبرية وعرضها. تأجج الشارع فعلا، وانتفضت المعارضة، بل دخل الجيش نفسه على الخط غاضبا، بامتناع طيّارى الاحتياط عن الخدمة، أو انحياز وزير الدفاع ضد حكومته، واضطرار نتنياهو للرجوع سريعا عن إقالته. كل المؤشرات لم تكن ترجح أن ينتصر الائتلاف فى المعركة، ولا أن تظل إسرائيل بعدها كما كانت فى السابق.
عرف العجوز الليكودى الماكر منذ أبريل قبل الماضى أنه فى حاجة ماسة وعاجلة إلى الحرب. كان المجال معبأ تماما للاشتعال، إنما لم تتوافر الشرارة. وعملية الطوفان كانت طوق النجاة على اشتياق، ومن دون توقع. الخطأ الأكبر فى السابع من أكتوبر أنه أثار الضوضاء الغزية لتغطى على صوت الغضب فى تل أبيب، وأعاد إسرائيل لهويتها المعهودة، بلدا يعيش على حد السكين، يزدهر فى الفوضى، وتتجدد عافيته بالدم. وكل ما تلا ذلك كان هزيمة خالصة للفصائل ومن ورائها محور الممانعة، وربحا صافيا لائتلاف القوميين والتوراتيين وما يحملونه من أجندة مركبة: ظاهرها المعروف لا ينحرف عن غرام الصهيونية بالتوحش والإرعاب، وباطنها الخطير إعادة تعريف إسرائيل نفسها على وجه مناقض تماما لكل الخبرات السابقة معها، وبما يفرض على خصومها تحديا مزدوجا، بين لملمة شظاياهم المتطايرة أولا، ثم العكوف على دراسة الوضع المستجدّ، مجبرين على التعاطى مع نسخة محدّثة من الاحتلال، وهم الذين أخفقوا مع نسخته القديمة فى كل المحطات.
طرأت تحولات كبرى على النسيج العبرى. صارت الحكومة أكثر تجبرا من كل أسلافها، وتلعب بالتوازنات السياسية والقانونية كما لم يجرؤ أحد من قبل. يتحرك الائتلاف فى الزمان والمكان، يغادر الوزراء ويعودون، ويُقال قادة المستوى الأمنى خروجا على كل الأدبيات الراسخة. ولا يجد نتنياهو غضاضة فى تعيين رئيس جديد لجهاز الشاباك، ثم الرجوع عنه فى اليوم التالى مباشرة، بعدما تأكد أنه مع الدولة لا الفرد، وكان بين الغاضبين من مشروع الإصلاح القضائى. ويحدث ذلك بالتزامن مع تمرير الميزانية، ومع إقرار قانون يوسّع مساحة اللعب فى تعيينات القضاة.
تلقى «بيبى» صفحة قاسية فى غلاف غزة، ومن يومها يجنى الأرباح على كل الاتجاهات. تحوّلت حماس إلى شاخص هزيل يُسوّغ التصويب، ولا يقدر حتى على المناورة واتقاء الرصاص. هُدم حزب الله على رؤوس قادته، وأُخرجت إيران من سوريا لينكسر هلالها الشيعى تماما. الحوثيون فى مواجهة مرشحة للتصاعد مع الولايات المتحدة، وطهران مدعوّة للتفاوض بصيغة الإذعان، أو لتكن الحرب التى لا نجاة منها للمشروع بكامله. لحظة نشوة عابرة استشعرها السنوار فى مخبئه، لكنه جرّ بها الخراب على القضية من كل زاوية.
الأسى هنا ليس على الخطأ المبكر فى الحساب فحسب، بل ما وراء ذلك من إنكار وتضليل للذات، واستمراء لعبة الشرايين المفتوحة من جانب حماس. لسان حالهم: «منكم السيف ومنّا دمنا»، إنما ليس كما قالها درويش برومانسية تنمّ عن الصمود، بل بمؤاخاة غير منطقية بين الصلابة والموت، المقاومة والنزف المتواصل، والانتحار المجانى محمولا على معنى اعتسافى ومغلوط تماما عن الشجاعة.
يتظاهر الإسرائيليون منذ ستّة عشر شهرا لأرواح تفقد غزّة مثلها فى يوم واحد. يضيق نتنياهو بالغاضبين، لكنه يُوظّف غضبتهم ضمنيا لتمرير خياراته الحارقة. أما الحماسيون فلم يحتملوا أسبوعا واحدا من الاعتراض، ويستنكفون على من نُحِر ذووهم وتقطّعت نياط قلوبهم أن يألموا، أو يهتفوا اعتراضا، أو يطلبوا الحياة بمنطق شديد البساطة: طالما لا يصنع الموت فارقا فلا مبرر له، وطالما يعود الأسرى فرادى إلى أن يكتمل عقدهم، فلا سبب يمنع التفاوض عليهم دفعة واحدة، وطالما أن الحرب معلقة فى راية القسام فلا غضاضة فى إنزالها عن السارية، لا سيما لو تساوى العنف مع حضورهم وغيابهم، فأقلّه أن يصفو لهم وجه المظلمة.
لا تتساند سردية الحرب الإسرائيلية لجدار سوى جدران الأنفاق. من دون حماس لا يمكن إخراج المشهد على صفة المواجهة أصلا، بل سيصير عدوانا خالصا فى عُرف العدو قبل الصديق. السؤال ليس عن الأثر، بل عن إبراء الرواية أولا من التضليل والدعايات وألاعيب الذرائع. والحركة تعرف قبل غيرها أنه لا أفق لها فى غزة اليوم أو غدا. معها يتواصل القتل والدمار وخطط التهجير، ومن دونها ثمة احتمال آخر ولو كان ضعيفا. لا يمكن التذرع هنا بكلمة «لو»، خصوصا أنها تعطل ترميم النسيج الوطنى، وتقطع الطريق على البحث عن بديل فلسطينى. كل يوم ضائع لا يضيف للحماسيين شيئا، لكنه يخصم من الغزيين والقضية ومنظمة التحرير والخطة العربية للتعافى وإعادة الإعمار.
صار الأسرى مجرد ورقة للتفاوض على مستقبل الحركة، لا على حاضر القطاع ومقبل فلسطين كلها. إن صح أنها رصيد عام لا خاص، فبالإمكان نقل الولاية عليها إلى إدارة جديدة تتصل بالسلطة والحاضنة العربية، أو إلى الوسطاء، واتخاذ قرار شجاع بالتنحى عن مشهد الحُكم والتفاوض تماما، وتفكيك التنظيم لكى لا يظل طوقا فى عنق فلسطين. ليس مفهوما أن يمتدح الحماسيون تظاهرات إسرائيل ويُخوّنوا متظاهرى غزّة، ولا أن يلموا نتنياهو لأنه يصم أذنيه عن غضب الشارع، بينما لم يكتفوا من جانبهم بالصمم، وتمادوا إلى ترويع الغاضبين والتنكيل بهم والتمثيل بجثث بعضهم. كأن فلسطين ينقصها الموت، فيشتغل فصيلها الأقوى فى صناعته. ألقوا الناس من أعالى البنايات قبل عقدين، ويقتلونهم اليوم عقابا عن مجرد الكلام، ويربح جزّار تل أبيب قطعا، لأنه لا شىء يطربه قدر إزهاق الأرواح، وليس أكثر طربا من أن تزهقها النيران الصديقة.
نشرت صحيفة «يسرائيل هيوم» اليمينية المملوكة لعائلة شيلدون أديلسون، أصدقاء نتنياهو وداعميه، أن تل أبيب خاطبت واشنطن، وطالبت مصر بتفكيك بنيتها التحتية العسكرية فى سيناء، زاعمة أنها تمثل خطرا عليها وتناقض مقررات اتفاقية السلام. يمتلئ صدر النازيين الصهاينة بالنشوة، ويتطلعون لبقية الجبهات بعدما انتحرت الممانعة بغباوة تحت أقدامهم. يعرفون أنهم فشلوا فى تمرير خطة التهجير من فوق رأس الإدارة المصرية، وأنها تظل عقبة كبرى أمام مشروع الإزاحة الديموغرافية ولو لطرفٍ ثالث. يمكن أن تكون الترتيبات الأمنية ورقة إضافية لصالح فلسطين، ومخرجا من نكبتها الراهنة؛ شريطة ألا تواصل حماس اختطاف المشهد لصالح بقائها، والرهان على احتمالية النجاة بتكثيف الحرائق بدلا من إطفائها.. إسرائيل فى مرحلة انفلات كامل، ومن خلفها إدارة ترامب. التعقيدات الإقليمية الراهنة ناشئة عن الطوفان، وتصفية الأجواء يجب أن تكون حزمة واحدة. تحب حكومة تل أبيب ما يفعله الحماسيون، وآخر ما تتمنّاه منهم ولهم أن يعودوا إلى رُشدهم. الظالم معروف، والمظلوم طبعا، لكن السباق اليوم بين العقل والجنون.