إثارة الجدل، أصبح بمثابة النهج الذي يتبناه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في إدارة العلاقات الدولية، وهو ما يبدو في سياسات عدة، تبدو متعارضة مع الرؤى الأمريكية التقليدية، عبر حالة إعادة هيكلة كاملة، تتبادل فيها الأدوار بين الحلفاء الخصوم، والمنافسين، في ضوء التقارب الكبير مع روسيا، مقابل ترويض ما يسمى دول المعسكر الغربي، الذي حظى بدعم واشنطن لعقود طويلة، وتحديدا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وهو ما يمثل انعكاسا صريحا لرؤية عالمية تبدو مختلفة، لدى الإدارة الحالية، في ظل مرحلة مخاض يمر بها النظام الدولي، جراء صعود قوى جديدة باتت قادرة على منافسة ومزاحمة الولايات المتحدة على قمة العالم، على غرار الصين، والتي كانت هدفا لترامب نفسه، خلال ولايته الأولى، بالإضافة إلى روسيا، والتي تحولت من خانة "العدو المباشر" إلى منافس يمكن الوصول إلى شراكات معه.
إعادة الهيكلة الأمريكية لعملية إدارة تحالفاتها وخصوماتها الدولية، ربما تطرح العديد من الاستنتاجات التي يمكن البناء عليها، حول رؤية ترامب للنظام العالمي المرتبك، والذي يبدو مختلفا عما وصلت إليه مراكز الأبحاث السياسية، والمحللين المتخصصين في الشؤون الدولية، خلال أكثر من عقود ثلاثة، وتحديدا منذ نهاية الحرب الباردة، وطموحه المستقبلي ربما أبرزها أن الحلفاء، وليس الخصوم، هم السبب الرئيسي في تراجع الدور الأمريكي، بينما تبقى مسألة الهيمنة الأحادية، والتي وصفت بها الحالة الدولية في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي، ليست حقيقية من وجهة نظر البيت الأبيض في ظل إدارته الحالية، خاصة بعد ما تكبدته من واشنطن من خسائر كبيرة في إطار ما قدمته من مزايا لصالح الحلفاء، سواء في أوروبا الغربية أو كندا، فيما يتعلق بالتجارة والأمن والاقتصاد، وغيرها، مما دفع الرئيس ترامب نحو إطلاق حملة شعواء لاستعادة حقوق بلاده ممن ينظر إليهم كـ"مغتصبين".
الرئيس ترامب لا يبدو مقتنعا أن الحقبة الدولية المنقضية شهدت "هيمنة أمريكية أحادية مطلقة"، وإنما يرى أنها "هيمنة غربية بقيادة أمريكية"، في إطار قيادة واشنطن لدول "المعسكر الغربي"، حتى أن كافة التحركات الأمريكية تجاه أيا من القضايا الدولية، ارتبطت بصورة كبيرة بمباركة الحلفاء، حتى وإن كانت مباركة شكلية، إلا أنها "مدفوعة الثمن"، وهو الأمر الذي ينتقص كثيرا من وجهة نظره من الهيمنة الأمريكية، مما دفعه، خاصة خلال ولايته الأولى، نحو الانسحاب من العديد من الاتفاقات الدولية، منها على سبيل المثال الاتفاق النووي مع إيران، والذي ضم دولا أخرى، وهي الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن بالإضافة إلى ألمانيا، ساعيا في المقابل إلى اتفاق أمريكي – إيراني، وهو الأمر الذي مازال محلا للبحث والتفاوض، بالإضافة إلى انسحابه من اتفاقية باريس المناخية، وكذلك تلويحه بالانسحاب من الناتو، وغيرها من الخطوات التي حملت قدرا كبيرا من التصعيد تجاه دائرة الحلفاء.
الإدارة الأمريكية الحالية ترى أن الثمن الذي تدفعه، مقابل القيادة الممنوحة لها، لا يقتصر على الأموال والتجارة والأمن، وإنما أيضا على صعيد علاقاتها الدولية، وهو ما يبدو في استعداء روسيا، والذي حمل في جزء كبير منه استرضاءً للغرب في أوروبا، والموقف كذلك من كوريا الشمالية والذي جاء لاسترضاء الحلفاء الآسيويين، وغيرهم.
السرد السابق يكشف حقيقة مفادها أن بقاء التحالف مع الغرب يقوض مفهوم الهيمنة المطلقة لواشنطن على النظام العالمي، لصالح الغرب، بل ويكلفها كثيرا في الداخل، خاصة مع الأوضاع الاقتصادية الصعبة، وبالتالي فتبقى الحاجة الملحة إلى تعزيز قبضة أمريكا بالانتقال نحو "الهيمنة الأحادية" عبر إخضاع جميع أطراف المعادلة الدولية، وإجبارهم على الدوران في فلكها دون مقابل، في إطار يحمل نهجا ديكتاتوريا، ربما ليس جديدا على السياسة الأمريكية الدولية، إلا أنه كان يقتصر في الماضي، على الخصوم والمارقين، عبر التشدق بمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، بينما أصبح يطال الجميع، بل ويضع الحلفاء المقربين أولوية قصوى.
الاختلاف الجذري بين رؤية الرئيس ترامب وأسلافه، تتجلى في رؤيته المغايرة وتقييمه المختلف للدور الأمريكي على المستوى الدولي، ففي الوقت الذي سعت فيه الإدارات السابقة نحو الحفاظ على الحالة الدولية وبالتبعية القيادة الأمريكية للعالم، يرى هو أن الهيمنة القائمة شكلية، وأن شرعيتها ليست ذاتية نابعة من قوة أمريكا، ولكنها تأتي من المعسكر الغربي، والذي تقوم فيه الولايات المتحدة بالدور الأكبر للإبقاء عليه، على حساب خزانتها وجنودها ومعداتها العسكرية واقتصادها وحتى صناعتها التي تأثرت بالواردات القادمة من الخارج دون رسوم، وبالتالي فإن الهدف الذي تسعى واشنطن إلى تحقيقه في عهد الرئيس ترامب، هو تغيير دفة النظام الدولي من هيمنة الغرب "بقيادة أمريكا" إلى هيمنة أمريكية أحادية مطلقة، تستلهم شرعيتها من نفسها باعتبارها القوى الأكبر والأكثر تأثيرا في العالم.
ولتحقيق هذه الرؤية، يرى ترامب أن الحلفاء هم نقطة الانطلاق، من خلال سياسات تقوم في الأساس على ترويضهم، بينما يبقى التقارب مع الخصوم، سبيلا مهما للحوار، من أجل الوصول إلى توافقات حول القضايا الخلافية، في إطار ما أسماه الرئيس الأمريكي "صناعة السلام"، إلا أنه تقارب مرهون بالاحتفاظ بالتوازن في المواقف الأمريكية الدولية، وليس "شيكا على بياض" تمنحه لهم واشنطن، وهو ما يبدو على سبيل المثال في هجوم ترامب الأخير على الرئيس فلاديمير بوتين، والتهديد بفرض رسوم جمركية على موسكو لتقويض صادراتها من النفط بسبب ما اعتبره مماطلة، بشأن الأزمة الأوكرانية، وللتشكيك في شرعية الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنيسكي.
وهنا يمكننا القول بأن الرئيس الأمريكي يريد تغيير شكل الهيمنة الأمريكية، لتصبح ذاتية، تستلهم شرعيتها من نفسها، وليست نابعة من قيادة معسكر بعينه، خاصة وأنه يؤمن بقوة أمريكا وقدرتها على فرض قبضتها، وهو ما يمثل اختلافا جذريا عن أسلافه في البيت الأبيض، أو حتى نظرائه في العالم، والطامحين إلى عالم متعدد الأقطاب، يمكن من خلاله تحقيق قدر من التوازن المفقود خلال العقود الماضية، وهو الأمر الذي يحاول ترامب تلبيته عبر إضفاء مزيد من التوازن على مواقفه من القضايا الدولية خلال أيامه الأولى في البيت الأبيض.