حازم حسين

القاهرة والصغار ومكر التاريخ.. وقائع السموّ والانحطاط فى زمن سياسى سِرُّه عَلَن

الخميس، 03 أبريل 2025 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

جرت وقائعُ الصدمة على الهواء مباشرة. الحدث نفسه قد لا يكون اختراعًا من عدم؛ لكنّ آليّة إخراجه على المشاع حملت للعالم ما لم يعهده من قبل. فى الشكل بدا المشهدُ فجًّا، عندما استعرض الرئيس الأمريكى ونائبه عضلاتهما على الضيف الأوكرانى المأزوم، وفى المضمون لا شكَّ مُطلقًا أنَّ البيت الأبيض شهد على وقائع شبيهة من قبل.


ما عاد أحدٌ مُضطرًّا لانتظار عدّة عقود من أجل الوصول إلى أحشاء السياسة الأمريكية، ومعرفة ما كان فى الماضى عندما تُرفَع السريَّة عن الوثائق، وتكون الأحداث قد فقدت وهجَها وشغفَ الناس بمعرفتها.


يبدو ترامب كارهًا للغُرَف المُغلقة، وقائدًا لثورة راديكالية على النظام الدولى القديم، لا من جهة مُؤسَّساته وتوازناتها فحسب، بل لناحية الفَضح والتعرية وإظهار الوجه الحقيقى على رأس الساعة، والتوقُّف عن استخدام مساحيق التجميل، وتمرير الأهداف الدنيّة تحت ستارٍ من المُثُل والدعايات المُنمَّقة.


ومثالاً؛ فلم تطرأ مسألةُ الاستحواذ على جزيرة جرينلاند اليوم، ولا حتى خلال الفاصل الأوَّل من الحقبة الترامبيَّة قبل أربع سنواتٍ. كانت موضوعًا دائمًا بين محاور الأجندة الأمريكية منذ منتصف القرن التاسع عشر على الأقل.


وضعَ الرئيس الخامس للولايات المتحدة، جيمس مونرو، محاور مبدئه الشهير بشأن السيطرة على نصف العالم الغربىِّ، ثمّ أخذ فى التشكُّل عَمليًّا عبر حقبةٍ طويلة من اللعب فى الجغرافيا، بالشراء أو الانتزاع الخشن.


المُستجَدّ الوحيدُ أنَّ الإدارة القائمة تُجاهر بما كان طَىَّ الكتمان، وداخل قنوات التفاوض والضغط الخفيَّة عن العيون. ويعلمُ الرئيسُ أنّه يُفجّر ما تتعذَّر السيطرة عليه مُستقبلاً؛ إذ من آثار ذلك أن يُبرِّر لغريميه فى روسيا والصين طموحاتهما تجاه أوكرانيا وتايوان، ويدفع الريح فى أشرعة إسرائيل باتجاه ابتلاع فلسطين والإجهاز على القضية. إنه بازار لعرض السلع على المارة فى الطرقات، والمجاهرة دفعةً واحدة بما كان يتطلَّبُ أعمارًا وإداراتٍ عِدّة لتمريره بالقطعة.


نعيشُ ما يُشبه التحوّلَ الشاملَ فى العلاقات وتمثُّلاتها الخَفيَّة والظاهرة. وما جرى خلال شهرين تقريبًا من نقل راية الحُكم فى واشنطن، يُبشِّر بمستقبلٍ تنفتح فيه الكواليس على مقاعد الجمهور، ويُعرَضُ مطبخ الدراما الدوليَّة على الآكلين فى توقيته الفِعلىّ.


تُصاغُ المواقف وتتعدَّل تحت أضواء التصوير الساطعة، وما دُبِّر بليلٍ يُفاجَأ أصحابُه بأنه يستبِقُ معهم فى استقبال ضوء النهار. فاجأ ترامب الجميع، بمن فيهم نتنياهو، بإعلان خطّته لاستقطاع غزة من أجل مشروعٍ عقارىٍّ يُجسِّدُ الريفييرا الفرنسية على ساحل المذبحة، وفوجئ الأخيرُ بفريقه الأمنىِّ فى «الشاباك» يُديرُ تحقيقًا عن طوفان الأقصى، مُعترفًا بمسؤوليته عن التقصير، ومُطالِبًا المستوى السياسىَّ بحَظِّه من الاعتراف، وكانت محنته الأكبر مع فضيحة الفساد فى مكتبه، وتورُّط اثنين من أقرب مُساعديه فى قضية رشوةٍ لصالح إحدى الدول الإقليمية.


احتاجت إسرائيلُ شهورًا بعد الخروج من هزيمتها أمام مصر فى حرب أكتوبر 1973 لتستعيد توازُنَها، وتتوصَّلَ إلى أسباب الإخفاق، بحسب ما أفضت إليه تحقيقات لجنة أجرانات.


أُدِينَ آحادُ القادة، واستُبعِدَ قليلون منهم، وما تزال بقيَّة التفاصيل مُكوَّمةً فى عُهدة النسيان وخزائنه السريَّة إلى اليوم. خمسةُ عقودٍ كاملةٌ ما نجحت فى هَتك الحُجُب، بينما تتفجّرُ الأسرارُ اليومَ دون جهدٍ مقصود، وخارج أيَّة قدرةٍ على الصمت وحراسة كهوف تل أبيب المُظلِمَة.


كأنه أثرُ الفراشة على شاطئ الأطلسى البعيد، ينفخُ ترامب هناك فتتولَّدُ الأعاصير هنا، والكوكب الذى صار قريةً كونيَّةً صغيرة، لن يعود كبيرًا ومَستورًا بالكِبَر لمُجرَّد أن أنبياء العولمة ينقلبون عليها. والخيارُ بين أن تكون صادقًا بالأصل والسَّوِيَّة، أو أن تكون قويًّا بما يكفى لمُواصلة الكذب، والدفاع عنه، والنجاة من تكاليفه عندما يُفتضَحُ رغمًا عنك.


للرئيس السيسى جملةٌ ذائعة للغاية، جوهرها أنَّ الدولة المصرية تُمارس سياسةً شريفة فى زمنٍ عَزّ فيه الشرف. ربما يختلفُ البعضُ معها وعليها؛ انطلاقًا من أنَّ السياسة غايتها المصلحة لا القِيَم المُجرّدة، أو لرغبةٍ مُضمَرة لدى البعض فى التشبُّه بمن يكرهونهم، ومُناطحتهم فى ألاعيب التلوّن والخداع والرقص على كل الحبال.


وسواء كُنتَ مُتّفقًا أو مُختلفًا؛ فالواقع أنَّ القاهرة تُجاهر بمعتقداتها عَلنًا، وتقف على حدودها بصلابةٍ ظاهرة، وليست فى ثوبها بُقعةٌ تُوصَم بها، ولا ثُقبٌ يتوصَّل منه الأعداء إلى أىِّ قدرٍ من التناقض بين ما تُظهِرُ وتُبطِن.


وعليه؛ ينكشفُ الجميعُ من حولها، وتتبدَّل الخطاباتُ باستخفافٍ حِينًا، وبانخداعِ الكَذوب فى ذاكرته الصدئة أحيانًا، وما يزالُ خطابُها على نغمةٍ واحدة، وما تقولُه لسانًا لأُذنٍ، لا تخشى الإفصاحَ عنه على رؤوس الأشهاد، كما لا يستطيعُ أصدقاؤها قبل أعدائها التربُّح منه، ولا ادَّعاء بطولاتٍ وهميَّةً على حساب صَمتِه الوَقور.


تتَّصل فضيحةُ الدولة العِبريَّة الراهنة بمصر من جهةٍ عضوية للغاية؛ إذ الخُلاصةُ أنَّ طرفًا من خارج إسرائيل، دفع لطرفٍ داخلها، من أجل إبراز دوره فى الملفّ الفلسطينى، والحَطّ من أدوار القاهرة. أخذت المسألةُ مسارًا قانونيًّا بالتحقيق وتوقيف المُتَّهمين، وتفجّر الجدلُ على كل المستويات.


إعلامُ المُرتشين أثار القضيَّةَ من كلِّ جوانبها، وإعلام الراشى صَمَّ أُذنيه وأخرسَ لسانَه عنها تمامًا؛ ولو كان الموقف معكوسًا لنالوا من مصر بالشُّبهات كما يفعلون دومًا. اضطرّ القاضى الصهيونىُّ إلى تقديم إحاطةٍ مُوجَزةٍ لوَضع الأُمور فى نصابها، وإغلاق باب التلاعب من جهة المنصَّات اليمينية الداعمة لنتنياهو وحكومته.


وزبدةُ الحكاية، أنَّ شركةَ علاقاتٍ عامة أمريكية تكفّلت بالصفقة، ومرّرت الأموال من قناة رجلِ أعمالٍ إسرائيلىٍّ يُقيم فى دولة إقليمية، وأنَّ الاتهامات الواردة فى القضية «موثوقة» بما يكفى للادِّعاء على المُتَّهمين.


رأيتُ بين ما مَرَّ علىَّ من المطالعة الواسعة عبر كلِّ الوسائل والمنصّات، استغرابَ بعض المصريِّين من صمت الدولة عن الأمر، أو عدم مُقاربته رسميًّا ولا إعلاميًّا بأيّة صورةٍ ملموسة.


والحقّ؛ أنَّ الترفُّع عن المسألة أقربُ إلى سياسة الإدارة المصرية ومواقفها المُعلَنَة، ويُعبِّر عن اتِّساقٍ عميق بين القول والفعل؛ إذ لم يكن القَصدُ على الإطلاق أن تربحَ القاهرةُ نقاطًا على حساب الآخرين، ولو كانت مُستحَقَّة، ولم تنشَغِل فى أيَّة محطَّةٍ سابقة بالدفاع عن نفسها.


ويعود ذلك فى اعتقادى إلى سَببَين مُترابطين: الأوَّل والأهم أنَّ مصر لا تعتبرُ نفسَها مُتَّهمةً بشىء أصلاً، وليست على رأسها «بطحة» لتُنكرَها أو تُداويها، والثانى أنها تنشغِلُ بالغايات بينما يستغرقُ غيرُها فى الوسائل، فتنصرف إلى المضمون ويبقون هُم أسرى للشكل.


إنها تتدخَّل لاعتباراتٍ موضوعية، ويتدخَّلون بحساباتٍ شخصية. النجاح فى عُرفِها أن يتحقَّق المأمول من أيَّة سكَّةٍ مُمكنة، ومُرَاد الآخرين أن يُحمَدوا بما لم يفعلوا، وأن تتردَّد أسماؤهم؛ ولو على كومةٍ من خراب، ولو لم يفعل الترداد شيئا يُذكَر، أو تسبَّب حتى فى إبقاء المأساة على حالها الأليمة.


ما تعرَّضَ بلدٌ فى الدنيا خلال العقدين الأخيرين لمِثلِ ما تعرَّضت له مصر. شُنَّتْ حربٌ شعواء عليها بعد ثورة 30 يونيو، ودُفِعَت ملياراتُ الدولارات بغَرض تشويهها وتقويض إرادتها. خاضت المعاركَ اضطرارًا فيما كان وُجوديًّا منها، وترفَّعَتْ عن صغائر الأمور، ومَنْ يُحرِّكونها من صغار البشر والبلدان.


عبرَتْ الفِّخاخَ؛ لأنها استندت لإجماعٍ شعبىٍّ صادق، وتكسَّرت النِّصالُ على النِّصالِ؛ لأن أصحابها كانوا فى الجانب الخاطئ. ولا اعتذار أقوى من أنَّ الذين ناصبوها العداء، انقلبوا على أعقابهم لاحقًا؛ ولو انطوَتْ قلوبهم فى السِّرِّ على حقدها الدفين.


لن يسعَدَ الطامحون فى انتفاضةٍ مصريَّةٍ على المُؤامرة الأخيرة، أو غيرها من المُؤامرات، مفضوحةً أو ما تزال فى قنواتها الخلفيَّة. يعرفُ الكِبارُ الحقيقيون أحجامَهم وقيمتهم، ويعرفون أقدارَهم، ويُسدِّدون تكاليفَها راضين. الاحتيالُ لعبةُ الضعفاء وصِغار الأقدار والنفوس، ولَسْتَ مُضطرًّا للردِّ على الصغير فى لعبِه وضوضائه.


تُرتِّب القاهرة أولويّاتها على نحوٍ ناضج، مُتعالٍ، يكره التجارة عمومًا، ويحتقرها إن اتّصلت بأرواح الأبرياء ومُقدّراتهم.. ما كانت فلسطينُ قَطّ مضمارًا لاستعراض القُوّة، ولا وسيلةً للانتفاع على حساب المنكوبين، أو هكذا على الأقل تتعامل مصر، وستظلّ رغم كلّ التشغيب والمُنغّصات.


المُزعِجُ حَقًّا أنْ تكونَ اللعبةُ أكبرَ وأفدحَ مِمَّا بدَتْ عليه. أى أنْ يكونَ الفريقُ مقسومًا بالتساوى على جانبَى الصراع. ثبَتَ عَمليًّا أنَّ «الطوفان» كان خطيئةً مُكتملة الأركان، ومُقامرةً أضرّت بالقضيّةَ وناسَها فوق احتمالهم، وقدَّمتْ للاحتلال أضعافَ ما كان يحلُم به فى أىِّ منامٍ وردىٍّ.


حماس كانت مشروعًا مُشتركًا لعِدَّة أطرافٍ، فضلاً على استثمار نتنياهو فيها لتعزيز الانقسام وتسييد سرديَّة غياب الشريك. ولاءُ الحركة كان مُوزَّعًا على وِجهَتَين، وقادتها أيضًا: محور الممانَعة بأجندته الشيعية، وتيّار الإخوان برُعاته والمُمسكين بمقاليد قراره.


وإذا افترضنا أنَّ عملية الغلاف كانت تُبشِّرُ بمنافع لكليهما، ثمَّ أفضَتْ إلى رِبحٍ صافٍ لليمين القومىِّ والتوراتىِّ فى تل أبيب، فإنَّ الشكوك تتكثَّفُ بشأن الدافع الذى حفّز «السنوار» على إطلاق الشرارة، وما إذا كان وطنيًّا خالصًا، أم أيديولوجيًّا محكومًا بلعبة المحاور والأحلاف.


بوضوحٍ أكبر؛ إذا كان أحدُ الأطراف قد دفعَ رشاوى لمسؤولين إسرائيليين من أجل إدارة تداعيات الحرب، فما الضمانة لأنه، هو أو غيره، لم يدفَع للحركة من أجل افتتاحها أصلاً. وهل كانت مُماطلةُ مُفاوضيها طيلةَ الشهور الماضية بريئةً أم بإملاءٍ ما، وهل المُكابرة فى الاعتراف بالخطأ والاعتذار عنه، وفى التعالى على غضبة الغزِّيين ووَصْم تظاهُراتهم الأخيرة، ناشئة عن ذِهنيَّةٍ أُصوليَّة مُعتلَّة، أم عن عقليَّةٍ وظيفيَّة مُستَتْبَعَة.


والقرينةُ هُنا؛ أنَّ الحماسيين تقبَّلوا فى بعض المحطَّات ما كانوا يرفضونه فى السابق، وبدَّلوا مواقفهم بين العواصم، وما قِيْل فى القاهرة لجهة الخروج من مشهد اليوم التالى، ناقَضَه أسامة حمدان وآخرون من منصّاتٍ بديلة.. كلُّ الاحتمالات واردة، والشكُّ فى الضمائر والتوجُّهات أخطرُ ما يُؤذى فلسطين، ويمسّ مصالح أهلها، ويُعرّضُ بقضيَّتهم العادلة.


قبل خمسة قرون تقريبًا، عرف السلطان المملوكىُّ قانصوه الغورى، أنَّ سليم الأوَّل يحشدُ جيوشَه لمُحاربة الدولة الصفوية، ويضعُ الشام بين قائمة أطماعه. استعدَّ الفارس العجوز كما يليقُ بمعركةٍ مصيرية، وكاد أن يفتك بالغريم الجائع فى معركة مرج دابق، لولا أنَّ العثمانيين كانوا قد سبقوه بالخديعة والانحطاط قبل الحرب إلى شَقِّ صفوفه من الداخل.


اشتروا ولاء «خاير بك»، الذى كان واليًا على حلب، وصار قائدًا لجناح المَيسَرة، وانشقَّ فى الميدان عن قائده بعدما أشاع مَوتَه. عاقبه المصريِّون بتخليد اسمه فى سجلّات العار باعتباره «خائن بك»، ودارت الأيامُ دورتَها الكاملة؛ لترحل الامبراطوريَّةُ الساقطةُ عن وجه العالم مشمولةً بعارٍ جديد، وقد كانت لها يَدٌ لا تُنكَر فى مأساة فلسطين.


رمزيَّةُ الحكاية وثيقةُ الصِّلة بالفضيحة الإسرائيلية الحالية. مصرُ اليومَ فى طليعةِ مهمَّةٍ لاستنقاذ قضية العرب الكُبرى، ويتعيَّن على الجميع أن يكونوا ظهيرًا لها، أو على الأقل ألّا يتمثّلوا وضاعةَ «خائر بك»؛ إذ الطعنة التى يُسدِّدونها تمسُّ الحقوق العادلة لشعبٍ منكوب، وتمسُّهم هُم شخصيًّا، وتُؤثِّر على وجودهم ومصالحهم الحيوية راهنًا ومُستقبلاً، وفى كلِّ الأحوال لن ترفعَهم فوق مصر، ولن تمنحَهم ما سلبته منهم الجغرافيا والتاريخ. يشترى المالُ ولاءَ المَعروضين للبيع؛ لكنه لا يُعوِّضُ هزال الهزيل، ولا يَعصِمُ من مَكر الأيَّام.







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة