وليد فكرى

كيف نقرأ التاريخ (6)

السبت، 05 أبريل 2025 07:00 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

ما زلنا مع الحديث عن قراءة التاريخ.. فأرجو من القارئ العزيز مراجعة الحلقات السابقة من هذه السلسلة..
«بم تنصحنى إذا أردتُ أن أبدأ القراءة فى التاريخ؟»
كثيرا ما أتلقى هذا السؤال من بعض المتابعين الأعزاء.. إليكم إذن بعض النصائح التى أرجو أن تكون مفيدة..
التاريخ غير مُطالَب بمجاملة أحد:
إذا أردت التاريخ فخذه كما هو بأكمله، لا تنتظر منه أن يجاملك فتبحث فيه فقط عمّا تريد من قصص تُرضى رغبتك سواء فى الشعور بـ«الكمال» عندك وعند الفئة التى تنتمى إليها، أو البحث عن «نقائص» فى تاريخ «الآخر» المختلف عنك.
اعلم أن كل شعب / أمة له ما له من إيجابيات وعليه ما عليه من سلبيات، وأن لكل أمة نقاطها المظلمة فى تاريخها، ولكى نتعامل مع أخطاء أو إخفاقات الماضى، علينا أن نواجه أنفسنا بها بشجاعة..
نحن لا نبنى النظرية أو الفكرة ثم ننتقى من التاريخ ما يؤيدها ونترك ما سواه.. بل نبحث عن المعطيات وبناء على النظر والتفكير فيها نكوّن النظرية/الفكرة
حاول أن تتعرف على من تقرأ له:
إنسانية علم التاريخ لا تأتى فقط من أن موضوعه الأساسى هو «الإنسان»، وإنما أيضا لأن من يكتبونه هم فى النهاية بشر يصيبهم ما يصيب البشر من انفعالات ويعتريهم ما يعتريهم من انحيازات وقراءة للمشهد من زواياهم الخاصة، ويقعون فى ما يقع فيه البشر من أخطاء، بل وقد تكون لهم مقاصدهم الخاصة التى ربما حادت ببعضهم عن الموضوعية أو عن الأمانة العلمية، عليك إذن أن تقرأ عمن تقرأ له من المؤرخين والباحثين لتتعرف على خلفيته الفكرية ومنطلق رؤيته للأمور، فضلا عن مدى قربه من الأحداث التى يؤرخها.
إليك بعض الأمثلة: كان العلامة عبدالرحمن بن خلدون رجل سياسة وحكم، تجول بين ممالك المغرب والأندلس وشهد حروبا ومؤامرات ووقائع خطيرة، قبل أن يستقر فى مصر المملوكية حيث تولى القضاء والتدريس، هذا يجعله أكثر فهما للموضوعات المرتبطة بالسياسة والحكم، وأعمق تحليلا للأحداث المهمة، وأبعد نظرا فى مصائر الأمم والدول
والمؤرخ تقى الدين المقريزى - الذى تتلمذ على ابن خلدون - كان قد تولى وظيفة «المحتسب» الذى يراقب الأسواق وتطبيق القوانين فى الشارع والأماكن العامة، فجعله هذا أكثر فهما لتفاصيل الحياة الاقتصادية وأثر الأحداث على معيشة الناس..
أما المؤرخ جمال الدين بن تغرى بردى - المتتلمذ على المقريزى - فكان ابنا للأمير تغرى بردى الذى شغل منصب أتابك العسكر «يعادل قائد عام الجيش حاليا»، وكان صهرا لبعض سلاطين المماليك، ما جعله أكثر قربا من دوائر الحكم وأكثر معرفة وفهما لما يجرى فى دهاليز مؤسسات الحكم ومراكز اتخاذ القرار.
الحياد أكذوبة.. ابحث عن الموضوعية:
لا يوجد شىء اسمه «كاتب محايد»، يمكنك أن تجد «شخصا صاحب موقف محايد من حالة بعينها أو بعض الحالات»، أما البحث عن كاتب محايد للتاريخ فهو أكثر عبثية من البحث عن مكعب من السكر سقط فى المحيط!
فكر معى، لو أن الكاتب قد نظر عدة آراء واختار بعضها فقد انحاز، أما إن خرج برأى جديد ففد خلق انحيازا جديدا.
ما يجب أن تبحث عنه حقا هو «الموضوعية»، وهى ألا تؤثر أفكار المؤرخ / الباحث وانحيازاته وانتماءاته فى التزام الضوابط العلمية فى تأريخه وتحليله الأحداث، وهو ما يقودنا للنصيحة التالية.
كُن كالقاضى:
فى قراءتك الأحداث وتحليلك لها كن كالقاضى على منصة القضاء، يتلقى أوراق القضية وينظر فيها ويحكم فقط بناء على ما لديه من أدلة ومعطيات.
لا يسمح القاضى لميوله ولا لانحيازاته الشخصية أو أفكاره المسبقة أن تؤثر فى قراءته أوراق القضية.
يطبق القاضى كذلك قاعدة أن «لا يحكم القاضى بعلمه»، فلا ينزه أحدا ولا يدين أحدا بناء على علمه الشخصى به، كذلك كن أنت، لا تقل: «أنا أنزه فلانا عن أن يفعل ما نُسِب إليه» ولا «أنا أصدق أن يفعل فلانا ما نُسِب إليه» بناء على أفكارك السابقة عنه، بل اجعل الأدلة هى الفيصل.
لا تبحث عن الحقيقة المطلقة:
لا أحد يمتلك كل الحقيقة.. فالحقائق التاريخية أشبه بلعبة تكوين الصور من القطع (puzzle).. الحقيقة صورة كبيرة قطعها متناثرة هنا وهناك، وتكوين الصورة يحتاج إلى صبر وأناة وتحقق وتدقيق، تجمع القطع ثم تفرزها فتستغنى عمّا لا تؤيده أدلة ولا قرائن، وما يناقض المنطق والعقل، وتنظر فى باقى القطع وتضعها الواحدة بجوار الأخرى حتى تتكون لديك الصورة التى من الوارد ألا تكون مكتملة تماما..
دائما يوجد جديد:
دائما ما أصف قراءة التاريخ بالدورة الدموية، دائمة ومستمرة ومتجددة.. فقد يستجد ما يزيل الغموض عن واقعة أو يجعلك تعيد النظر فى حالة تاريخية.. قد يظهر اكتشاف يغير من ثوابت تاريخية، وقد يتحقق تقدم علمى يسلط الضوء على منطقة تاريخية معتمة..
إليك بعض الأمثلة، كانت علاقة توت عنخ آمون بأخناتون غير محسومة حتى تطور العلم بما يكفى للتأكد من خلال فحوصات الDNA أن توت عنخ آمون هو ابن أخناتون.
مثال غيره، بقى كريستوفر كولومبوس هو أول مكتشف أوروپى لأمريكا، حتى ظهرت أدلة أثرية ووثائقية تقول أن أول من ارتاد أمريكا من الأوروبيين هما الآيسلانديان ليف إيريكسون وثورفين كارلسفنى «اللذان تم استخدام شخصيتيهما فى مسلسل الأنمى الشهير Vinland saga».
لا مشكلة فى «لا أعرف»:
مما أومن به أن متعة البحث فى التاريخ تكمن فى غوامضه ومناطقه المعتمة، فلو عرفنا كل شىء عن كل حالة تاريخية لصار الأمر مملا..
لا بأس إذن فى مرحلة ما من البحث والقراءة أن نعترف أننا «لا نعرف»، أو «لسنا على يقين»، فهذا أمر طبيعى فى مختلف العلوم-خاصة العلوم الإنسانية-علينا أن نتصالح معه، وهذا الاعتراف بعدم المعرفة يخلق الحاجة للمعرفة التى تغذى الفضول العلمى بالطاقة..
وللحديث بقية إن شاء الله فى المقال القادم من هذه السلسلة من المقالات.







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة