يعود نتنياهو إلى البيت الأبيض للمرة الثانية فى غضون شهرين. الزيارة الأُولى وضعته فى مقدّمة ضيوف ترامب خلال ولايته الجديدة، ومنحته ما لم يكن يحلم به، لجهة تحفيز خطط التهجير، والخروج من مغامرته فى غزّة بربحٍ صافٍ، ويُعوّل على اللقاء المُرتَقَب غدًا، بحسب توقُّعات موقع أكسيوس الأمريكى، فى استثناء إسرائيل من قائمة الدول المُستهدَفَة بالرسوم الجمركية الأخيرة، وما خفى أعظمُ بالتأكيد.
رُتِّبَت الرحلةُ على عَجَلٍ. إذ جاءت الدعوة خلال اتصالٍ هاتفىٍّ ثُلاثىٍّ مع فيكتور أوربان، خلال وجود نتنياهو فى بودابست الخميس الماضى. وقد دار الحديث بشأن انسحاب المجر من بروتوكول المحكمة الجنائية الدولية.
وبينما لا تحتاج تل أبيب إلى جهدٍ كبير لتلافى التأثيرات الاقتصادية لرسوم ترامب؛ فالزيارة فى واقع الأمر تتجاوز بحثَ العلاقات التجارية على وجه التحديد، وقد لا تكون المسألةُ أكثرَ من غطاءٍ لعناوين أخرى، بعضها يتَّصل بالوضع المُعَقَّد مع حماس جنوبًا، أو بالترتيبات المطلوبة شمالاً لتثبيت الأوضاع فى سوريا ولبنان، وأغلبها يخصُّ الوقائع المُستجَدّة على خطّ طهران، من رسالة ترامب، إلى ردّ خامنئى، والجدل المُركَّب بين المفاوضات المُباشرة وغير المباشرة والحرب.
حجم التجارة البينيَّة يتخطّى 34 مليار دولار بين البلدين، ولا تُسجّل الولاياتُ المُتَّحدة عجزًا كبيرًا أمام الدولة العبرية. والأخيرة استبقت الحزمةَ الجديدة بإعلانها إلغاء الرسوم على البضائع الأمريكية. صحيحٌ أنَّ الخطوة ما تزالُ تتطلَّبُ التصديق من وزير الاقتصاد واللجنة المعنية فى الكنيست؛ لكنه إجراء شبه مفروغ منه تقريبًا.
الخدمات تُشكِّل أغلبَ الصادرات الإسرائيلية للحليف الأكبر، ولا تتضرَّر من الموقف المُتشدِّد للإدارة الجمهورية، وحتى أسوأ السيناريوهات المُتخَيَّلَة تُرتِّب أعباء أقل من المِنَح والمساعدات التى تتحصَّل عليها سنويًّا. العلاقةُ أعمق من الصيغة الرسمية التى أدرجتها ضمن قائمة الاستهداف. وإن اهتزَّت أحوالها؛ فستكون واشنطن أوّل المُبادرين بالمساندة والإنقاذ.
بين الاحتمالات، أنَّ زعيم الليكود يلعبُ دورًا ترويجيًّا لصالح ترامب. المعنى المقصود هُنا أنَّ الرجل جاد فى المواجهة، حاسمٌ فى الدفاع عن العظمة الأمريكية كما يتصوّرها، ولا يستثنى أحدًا حتى أقرب الحلفاء. والرسالة الضمنيَّة أنه لا سبيل سوى الرضوخ، وعليك أن تُذعِنَ للشروط المفروضة بإرادة فردية كاملة.
لا يكفى القبول فحسب؛ بل يتعيَّن تصويب الإجراءات الوطنية أوّلاً، ثمَّ الحج إلى كعبة الامبراطور، اعتذارًا وطلبًا للسماح، وبحثًا عن مُفاوضةٍ محسومة مُسبَقًا؛ إذ لا بديل لديه عن الانتصار فى المُواجهة، ولا يرتضى بأقل من إقرار الجميع بالهزيمة.. إنها تمثيليَّةٌ تربويَّةٌ على الأرجح، يُرَاد منها تعليم الأوروبيين وغيرهم، وتهذيبهم، ودفعهم إلى الاحتشاد على الطريق المرسومة من القطب الأعظم.
وفيما وراء المَقتَلَة التجارية المُتأجِّجة؛ فإنَّ لصورة "بيبى" الجديدة داخل المكتب البيضاوى رمزيّةً أبعد كثيرًا. الرحلة السابقة جاءت بعد أسبوعين فقط من مراسم التنصيب، وكانت الهُدنةُ المبرَمَة فى غزَّة طازجةً، واستحقاقات العبور بها إلى تهدئةٍ دائمةٍ مُعلّقةً لشهرٍ إضافىٍّ أو يزيد.
أمَّا اليوم؛ فإنه يعود بعدما أسقطَ التفاهُمات وارتدى قُفّاز الحرب من جديد. الإنجاز الوحيد لدى إدارة ترامب تآكل عَمليًّا فى الميدان، وما عاد بالإمكان الحديث عن أنه أطفأ النار، ولا أنها ما كانت لتندلع فى وجوده.
الجبهة اللبنانية مُتأرجِّحةٌ رغم التزام العهد الجديد فى بيروت، والفضاء السورى مشمولٌ باحتمالات شتّى، وكلها مزعجة. الحوثيون يتلقَّون ضرباتٍ قاسيةً، يترجَّح أن تستمر لستّة أشهر، بحسب المتواتر من داخل واشنطن؛ لكنهم ما زالوا بعيدين تماما عن الارتداع. والجمهورية الإسلامية تسعى للإفلات من الكمين المُعَدّ لها، وما تزال رافضةً للتنازُل وتقديم التضحيات المطلوبة. والتفاهم مع موسكو يتباطأ، بالنظر إلى مُقدِّماته خلال الأسابيع المنصرمة، ويتعثَّر بالقياس على وعود السيد دونالد بإنهاء التراجيديا الأوكرانية فى غضون أربعٍ وعشرين ساعة.
تبدو السياسةُ الأمريكية ارتجاليَّةً مُتخبِّطةً، لا تُرتِّبُ أوراقَها بمنطقٍ براجماتىٍّ ناضج، ولا تحتكم لاعتباراتٍ أيديولوجية واضحة. يسعى الرجلُ لتجيير المكاسب دون سداد أيَّة التزاماتٍ مُقابلة، ويُستَدرَجُ من حيث لا يدرى إلى لُعبة استنزافٍ مُفتوحة على كلِّ الجبهات. تتنازعه خطاطيفُ روسيا وأوروبا فى أوراسيا، وتترصَّده فِخاخ إيران وإسرائيل فى الشرق الأوسط؛ وعليه فى كلٍّ منهما أن يسترضى طرفًا دون أن يخسر الآخر أو يستعديه. وإن أطفأ الحريق فى جهةٍ عليه أن يُؤجِّجَه فى الثانية، وبينما يستحيلُ أن يُبرِّدهما معًا؛ فلا ضمانة من انفجارهما فى وجهه بالتزامن.
وما يعنينا فى المنطقة بالدرجة الأكبر، ألَّا تظلَّ غزَّة مَتنًا فى التصعيد، وهامشًا فى التسوية. وإذ تطوَّع السنوار فى "طوفانه" بإيقاد الشرارة لصالح أطرافٍ أُخرى فوق فلسطينية؛ فلا مُبرِّر على الإطلاق لمُواصلة اللعبة وفقَ نزعةٍ انتحاريَّة كاملة. وقد تبدّى للأعمى أنَّ محور المُمانَعة أخلَّ بالتزاماتِ الشراكة الكاملة ووحدة الساحات مع الميليشيات الرديفة، وأظهرت طهران ما كانت تكتمه عن حُلفائها جميعًا، وهو أنهم مُجرَّد دُشَم وتحصينات ضمن استراتيجية الدفاع المُتقدّم، ولا يُنتَظَر منها أن تُحارب لأجلهم فحسب؛ بل لا تضع بين خياراتها أنْ تُضحّى بأىِّ شىء على سبيل استنقاذهم، ولا أن تحلّهم من التعهُّدات الإذعانيّة التى أخذتها عليهم، عندما خطَّطت مشروعها، وحدَّدت أدوارهم فيه، وقيَّدت قدرتَهم على المناورة واستقلال القرار أيضًا.
وإذ تنقلِبُ إسرائيل على أدبيَّاتها الراسخة، أو ما كان يتوهَّمُ المُمانِعون رسوخَها؛ فإنَّ الديناميكية المفقودة لدى تيَّارات الأُصولية الإسلامية تُضيف لعدوِّهم، وتُقوِّضُ حدودَهم فى الحركة المُثمرة. تَهاوَى الجدارُ الحديدىُّ والردع الاستباقىُّ مع هجمة الغلاف؛ فتبعته ثُنائيَّةُ المعارك القصيرة وعلى أراضى الغير. تلقَّت إسرائيلُ صفعةً قاسيةً؛ لكنها ردَّت عليها بضرباتٍ قاتلة، وما زالت.
والعدوان المفتوح منذ ثمانية عشر شهرًا، لا تتوافر مُقوِّمات إيقافه؛ لأنَّ الضباعَ تزدادُ شراهةً كلَّما تراءت لها الفرائس النازفة، ولأنَّ الذرائع ما تزال فعّالة ومُتناسلة من رحم بعضها، ولا يُبدِى المأخوذون بالشعارات الفجّة وسرديَّات الوهم المُتخيَّلَة قبولاً لحقيقة أنهم عند نقطةٍ أسوأ مِمَّا كان فى كلِّ تاريخهم، وأنَّ السلاحَ يفقدُ وجاهته عندما يتعطَّل عن الفِعل، ثمّ يصيرُ لعنةً كاملةً على حامليه.
حلول نتنياهو ضيفًا على البيت الأبيض فى مناخٍ كهذا؛ لا يعنى إلَّا أنَّ الشريكَ الأمريكىَّ تخلَّى تمامًا عن صِفَة الوسيط الضامن، ويخوضُ الحربَ من مُنطَلَق الرعاية الخالصة لباقة الأهداف الصهيونية. وعليه؛ فالرهان على فاعليَّة التصلُّب فى تطويع إرادة تل أبيب، يتلبَّسُ حالَ السذاجة المفرطة، ويُغرِى صقورَ اليمين القومى والتوراتى بمواصلة غزوتهم الإفنائيَّة للقطاع تحت راية حماس.
وما يظهرُ للغزِّيين عَمليًّا أنهم مخطوفون بالقوّة لحساب الأيديولوجيا، وبينما يعجزُ سلاحُ الحركة عن حمايتهم؛ فإنَّ فاعليَّته الوحيدةَ تنحصرُ اليومَ فى كَتْم أصواتهم، وفى تغييبهم عن التداول بشأن حاضرهم ومستقبلهم. وحتى مع الزَّعم بأنَّ تنحّى الحماسيِّين لن يُوقِفَ المأساة؛ فليس لطرفٍ أنْ يستبدَّ بالقرار دون الباقين، ولا أن يتخطَّى الوقائع تحت ستارٍ من دخان الافتراضات.
انتُخِبَتْ حماس قبل نحو عقدين بأكثريةٍ بسيطة. تسمحُ السياسة بانعقاد الشرعية مع أىِّ هامشٍ من السَّبْق مهما كان ضئيلاً؛ لكنَّ المصير والمسائل الوجودية لا يُفوَّضُ فيها خارج التوافق والإجماع. والحركةُ مَدَّدت صلاحيةَ الانتخابات بعد موعدها؛ لتظلَّ قابضةً على الحُكم فى القطاع، وسحبَتْ القبولَ الرضائىَّ الناشئ عنها على اتِّخاذ قراراتٍ جوهرية بشأن الحياة والموت.
وبعيدًا من أنه لم يكن هذا ضمن الصلاحيات المُترتِّبة على مخرجات الديمقراطية التمثيلية؛ فليس لها أنْ تُواصِلَ ادّعاء المشروعيَّة والنيابة عن الجمهور الواسع؛ بعدما تكشّفت الحقائقُ، وطُعِنَت وَصفَتُها الخاصة عن المُقاومة فى مَقتَل. وعليها أن تستجيب للواقع، وأن تسمع أصواتَ الغاضبين، وتنظُرَ للمشروع التحرُّرى من زاويةٍ موضوعية ناضجة؛ باعتباره طريقًا للدفاع عن الوجود مهما كان ثقيلاً لا الفناء فى الخُطَب العصماء وإن دغدغت العواطفَ، وباعتباره تصوُّرًا عَمليًّا للتوازُن بين الجغرافيا والديموغرافيا، من حيث أنهما شرطان لازمان للتحرُّر، ولا ينوب أحدُهما عن الآخر.
لا معنى لفلسطين من دون أهلها. ليست المسألةُ أن تبقى حماس أو ترحل، إنما أنْ تقوم التجربة النضاليَّةُ على ساقين: الشعب والأرض، إلى أن تُستعَادَ الدولة الضائعة. وإزاء الانقسام الواقع أُفقيًّا وعموديًّا، واستبداد فصيلٍ مُلَوَّنٍ بالأمر من دون شراكةٍ حقيقية فى القرار، قد لا يكون العدوان على غشومته أخطرَ ما يتهدَّد القضية؛ بل شيوع الفتنة والارتياب بين مجموع المُكوَّنات الوطنية، وكُفر القاعدة الشعبية بما تجود به قرائحُ القيادات، مع الشكِّ فى صفاء الأجندة وصدق النوايا والانحيازات، وفى أنهم لا يخلطون بين الأولويات الفلسطينية والمصالح الفئوية. والمُضمَر هُنا للأسف؛ أنَّ حماس تختزلُ السياقَ بكامله فى ذاتها، ولا ترى أيَّةَ قيمة للبلد من دون الحركة، وربما تكتفى بالأخيرة عن الأُولى أصلاً.
تشابكَتْ خيوطُ الدراما، وتعقَّدت على امتداد الإقليم. لم يَكُن صائبًا بالمرَّة أن تتمَوضَع حماس ضمن جبهة الشيعيَّة المُسلَّحة، ولا خطيئةَ اليومَ أكبر من الاستمرار على الطريق؛ بعدما تبدّت نهاياتها المُرعبة، أو الامتناع عن المُراجعة والرجوع، لاستدراك ما يُمكن القبض عليه قبل أن ينفلت من بين الأصابع.
لن تكون الحركة طرفًا فى مستقبل غزَّة، وعليها العمل على إثبات أنها لا تضعُ نفسَها قبل القطاع، ولا نطاقَ سُلطتِها فيه فوقَ القضية بكاملها بشرًا وحَجرًا. وإذا كان التنازُل شرطًا مُبرمًا من جهة الاحتلال، ويلاقيه الأمريكيون عليه قولاً وفِعلاً؛ فلا معنى للتقاعس عن بحث المخارج المُمكنة، إلَّا أنَّ الحماسيين عقدوا العزمَ على اللجوء إلى "خيار شمشون" حتى النهاية.
والسعى هنا لتصوير المُطالبات المتواترة للحركة بالتنحّى، على أنها دعوة إلى الاستسلام، أو محاسبة للضحية بدلاً من الجانى؛ إنما يستمرئ لُعبةَ التضليل وتأجيج العواطف تشغيبًا على العقل والمنطق. لا خلافَ مُطلقًا على وحشيَّة إسرائيل، ولا على كَونها الطرف الباغى وسبب الأزمة من الأساس؛ لكنها تتربَّحُ من استمرار الوضع على حال الانسداد الراهنة، والبحث إنما ينصرفُ لتجنيب المنكوبين كُلفةَ المواجهة مع عدوٍّ شرسٍ مُنفلت، وليس عن الاشتباك فى تعاريف وتوصيفاتٍ ثابتة بالتاريخ والحاضر، ولا يختلف عليها عاقلٌ أو مجنون.
تحتاجُ المُقاومةُ إلى إعادة تعريف نفسِها أوّلاً، وهل من وظائفها أن تدفع المشروعَ التحرُّرىَّ للأمام، أم أن تبقى مُشهرةَ الراية على أطلاله. وأحسبُ أنَّ المُعضلة الكبرى فى الانطلاق من ثابتٍ دينىٍّ؛ بحيث لا يكون مُتاحًا الاشتباك مع الدنيا بقوانينها. تصير المواجهة فى الكَون الملموس، ويُعَلَّق تقييمها على الوقوف أمام الله، ويصحُّ لها أن تُغامر إلى ما لا نهاية، وينتفى حق الآخرين فى نقدها وتخطئة ما تنحو إليه من أفكار ومُمارسات.
حماس تعتبر فلسطين وقفًا إسلاميًّا، وتكتفى عن الواقع بالغيبيات، وعن الربح الحاضر بتعويض الله فى الآخرة. يليقُ هكذا سلوك بذئبٍ مُنفرد، أو بزاهدٍ يستوحش العالمَ ويُقيم فى البرارى والأدغال؛ لكنَّ التصدِّى لأمور العامَّة يُوجِبُ على الحاكم أنْ يأخُذَ بفِقه المصلحة، وأن يُقدِّمَ حياةَ الناس على الموت الاعتباطىِّ، ولو كان موته شخصيًّا.
السلاحُ واحدٌ من صُوَر المقاومة، وقد يكونُ الخلاصُ منه أحيانًا صورةً أَولَى وأنفعَ. والسياسةُ باعتبارها وَجهًا آخر للحرب، على ما يقول كلاوزفيتز، فإنها من وجوهِ المُقاومة أيضًا. البيولوجيا وأثرُها على التوازُن الديموغرافىِّ عاملُ بقاءٍ لا يُنكَر، وكذلك المعنويّات التى يجبُ ألَّا يُضَحَّى بها باستهانة.
مُنظّمةُ التحرير قدَّمَتْ للقضية ما لم تُقدّمه حماس، وعرفات لا يُقارَن من أىِّ وجهٍ بالسنوار أو غيره من حظيرة الأُصوليّة. وإن كانت الحركةُ تتعامى عن الخراب الذى حَلَّ بالقطاع؛ فإنَّ هتافَ الغزّيين ضدّها لا يُمكِنُ إغفاله، وينبغى أن يكون مُزعجًا لها، وأن يردّها عن الأضاليل التى حاكتها بيديها، أو حاكَها لها الآخرون من الخارج.
ما كانت المُقاومةُ قَطّ انتحارًا عشوائيًّا، وما كان الاعترافُ بالخطأ ضَعفًا، ولا التصويب نقيصة. السيِّئ أن تكون ذريعةً للعدوّ، والأسوأ أن تعرِفَ ولا تتوقَّف عن تقديم هداياك المجّانية بسخاءٍ، يستعصى على الفَهم أحيانًا، وعلى التبرير دائمًا.