بيشوى رمزى

القاهرة - باريس.. وزخم البعد المتوسطى

الإثنين، 07 أبريل 2025 08:16 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

تحمل زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى القاهرة العديد من الدلالات الهامة، إذا ما نظرنا إلى التوقيت، في ضوء تزامنها مع مستجدات إقليمية غاية في الصعوبة، جراء ما تمر به دول المنطقة من تطورات قابلة للانفجار، بدء من قطاع غزة، مرورا بسوريا ولبنان، والأخيرة لها أهميتها الخاصة لدى باريس، باعتبارها أحد مراكز النفوذ الفرنسي في منطقة الشرق الأوسط، ناهيك عن الأوضاع في اليمن، وهو ما يمثل انعكاسا مهما لإدراك فرنسا للأهمية التي تحظى بها الدولة المصرية، باعتبارها نقطة الانطلاق في التحول المرجو من الفوضى إلى الاستقرار، وهو الأمر الذي سبق وأن حققته قبل سنوات قليلة، عندما تمكنت من إنهاء حالة الفوضى التي ألمت بها، خلال "الربيع العربي"، لتنطلق ومن وراءها منطقتها نحو قدر كبير من الاستقرار، عبر المساهمة بدور كبير في تهدئة الصراعات البينية، عبر حزمة من المصالحات الإقليمية التي انطلقت من شراكات متعددة، ساهمت في وضع القوى المتنافسة على مائدة الحوار، وهي الشراكات التي اتسمت بتنوعها وثرائها السياسي والجغرافي، بالإضافة إلى أبعادها التنموية.

وبالنظر إلى باكورة تلك الشراكات، والتي جمعت بين مصر واليونان وقبرص، والتي دفعت بعد ذلك نحو تدشين منتدى غاز شرق المتوسط، والذي ضم في عضويته عدة دول على رأسها فرنسا، نجد أن ثمة أولوية مشتركة تتجسد في إحياء البعد "المتوسطي"، والانطلاق منه نحو إيجاد حلول للعديد من الأزمات التي قد تعصف بالعالم، وهو الأمر الذي يمثل جزءً لا يتجزأ من رؤية سبق وأن تبنتها باريس في العقد الأول من الألفية، عندما سارعت بالشراكة مع مصر نحو تحويل الشراكة الأورومتوسطية، والتي ترجع إلى عام 1995، إلى كيان متكامل تحت مسمى "الاتحاد من أجل المتوسط"، والذي حظى بقيادة مصرية فرنسية فور تدشينه، وهو ما يعكس ما تحظى به تلك الرقعة الجغرافية المتآخمة لضفتي البحر الأبيض، من ثراء يرجع إلى التأثير الكبير لدولها وقدرتها على خلق شراكات قوية من شأنها تعزيز الاستقرار والأمن والتنمية لشعوبهم.

ولعل الحديث عن إدراك باريس لأهمية تلك الرقعة الجغرافية، في ضوء مستجدات أخرى تتجاوز الإقليم الضيق القابع في جنوب المتوسط، نحو ما يعصف بالشمال من أمواج عاتية، تفوق في هيجانها البحر في أزمنة "النوات"، وهو ما يبدو في انتقال الصراع نحو أوروبا لأول مرة منذ عقود طويلة من الزمن، في ظل الأزمة الأوكرانية، وما ترتب عليها من تداعيات خطيرة مثلت تهديدا صريحا لأمن دول شمال المتوسط، بالإضافة إلى التغيير الجذري في الرؤى الأمريكية، في ضوء تخلي واشنطن عن الحلفاء، مما خلق الحاجة الملحة إلى تنويع الشراكات، والتحول إلى البحث عن مناطق جديدة، يمكن من خلالها تعزيز استقرارها لمجابهة تلك التحديات التي تبدو مختلفة تماما عن الماضي.

زيارة ماكرون للقاهرة، وما تحمله من دلالات عميقة، تزامنت مع شراكة دشنتها الدولة المصرية مع أوروبا الموحدة، تجلت في أحدث صورها مع تمرير حزمة من الدعم الأوروبي، في الأسبوع الماضي في انعكاس صريح لاعتراف قارى جماعي بأهمية تعزيز التقارب مع الدولة المصرية، وهو ما بدا كذلك في العديد من المشاهد الأخرى ربما أبرزها في قدرتها على التأثير في مواقف قوى رئيسية داخل القارة العجوز تجاه العدوان على قطاع غزة، والذي أسفر عن سلسلة من الاعترافات بدولة فلسطين، أبرزها إسبانيا والتي تعد هي الأخرى شريك متوسطي فاعل، باعتبارها وضعت حجر الأساس للشراكة الأولى في التسعينات من القرن الماضي، وهو ما يأتي في لحظة تبدو فارقة في تاريخ العالم، وتشهد مخاضا غير مسبوق للنظام الدولي، في إطار تحولات كبيرة مع صعود قوى جديدة من شأنها المشاركة في صناعة القرار العالمي، مع ارتباك كبير في طبيعة الدور الأمريكي خلال المرحلة المقبلة.

التقارب المصري الفرنسي ليس جديدا على الإطلاق، وهو الأمر الذي لا يمكننا رصده فقط في زيارات الرئيس ماكرون المتواترة للقاهرة، فقد تزامن معه العديد من المواقف المشتركة، ربما أبرزها تجربة باريس في حربها ضد الإرهاب، والتي استلهمت خلالها الرؤية المصرية التي قامت في الأساس على البعد الفكري عبر تعديل الخطاب، جنبا إلى جنب مع الملاحقة الأمنية للعناصر الإرهابية، من خلال التركيز على الخطاب الديني، وهو ما طبقه الرئيس ماكرون بحظر استيراد الأئمة الأجانب، للسيطرة على الأصوات المتعارضة مع مبادئ الجمهورية الفرنسية.

إلا أن التجارب المصرية الملهمة لا تقتصر في واقع الأمر على الحرب على الإرهاب، وإنما حملت أبعادا أخرى، منها البعد التنموي الذي انطلقت منه حالة الاستقرار في الداخل بعد فوضى العقد الماضي، ثم الشراكات المتواترة التي دشنتها والتي ساهمت في تبريد منطقتها جزئيا، في ضوء قدرتها على احتواء الصراعات الإقليمية، في مرحلة ما قبل العدوان على غزة، والذي يحمل بين أهدافه محاولة استنساخ حالة عدم الاستقرار في الشرق الأوسط، وهو ما يترجم الدعم الأوروبي ومن وراءه الفرنسي للرؤى المصرية في إدارة الأزمة في غزة وللقضية الفلسطينية برمتها، وهو ما يبدو في الدعم الكبير للخطة العربية لإعادة إعمار القطاع دون تهجير سكانه، والتي تم تمريرها خلال القمة العربية الطارئة التي عقدت في القاهرة في مارس الماضي بحضور رئيس المجلس الأوروبي أنطونيو كوستا.

الشراكة بين مصر وفرنسا، تعكس في واقع الأمر جزء لا يتجزأ من نهج الدولة، القائم على تعزيز مواقفها عبر تحقيق توافقات عابرة للقارات، عبر التقارب مع القوى الرئيسة في مختلف أقاليم العالم، مما يساهم بصورة أو بأخرى في حشد الأقاليم الجغرافية، وهو ما يبدو في الحالة الأوروبية والتي كانت باريس أحد أبرز محطاتها في رؤية القاهرة، في ضوء من تحظى به من زخم، ليس فقط في نطاق الشرق الأوسط وإنما باعتبارها قوى متوسطية مؤثرة ونقطة اتصال مهمة بين أقاليم العالم، ناهيك عما تحظى به من تأثير كأحد القوى الإسلامية والأفريقية والعربية الكبري، مما ساهم توسيع نطاق تأثيرها الجغرافي بين قارات العالم.

وهنا يمكننا أن التقارب الكبير بين القاهرة وباريس يجد منطلقاته من العديد من الظروف الدولية والإقليمية بينما تبقى جغرافيا "المتوسط" بمثابة أحد أهم المشتركات في ضوء حاجة ضفتيه إلى المزيد من التعاون والتكامل بحثا عن الاستقرار في مرحلة حساسة، باتت فيها دول الشمال في أشد الاحتياج إلى تعزيز علاقاتها بالجنوب في ظل المتغيرات الكبيرة التي تشهدها الساحة الدولية.







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة