لن تنتهى حالُ الانسداد الراهنةُ إلَّا بتنحية نتنياهو، أو حماس، أو كليهما معًا. الأوَّل يستمدُّ وقودَ بقائه من أجواء الصخب والتصعيد، والثانية تنزفُ وتُكابر، وتُحَمِّل القطاعَ والقضيَّةَ الفلسطينيَّةَ بكاملها ما يفوق طاقتهما، ويغيبُ عنها، بالجهل أو الاستخفاف، أنها تُمَكِّن لعَدوِّها وسرديَّته الظالمة، وتصرفُ على المكشوف بعدما تآكلَ رصيدُها من الماضى والحاضر، وانسدَّتْ أمامَها مساراتُ المستقبل تمامًا. والمُعضلة أنها تُلاعِبُ اليمينَ الصهيونىَّ بأدواته، ومع فارق القوَّة والتحالفات، تخسرُ دومًا، وتُرَبِّحه على طول الخطّ.
ازدهرَ الغريمان فى زمن أوسلو، وتأسَّس صعودُهما على اختصام تجربة السلام الهَشَّة بخشونةٍ ظاهرة. حرَّضَ «بيبى» على رابين عَلنًا، ثمَّ رقصَ فوق دمه المسفوح فى ساحة «ملوك إسرائيل» بقلب العاصمة تل أبيب. وصوَّبت الحركةُ على عرفات ومُنظَّمة التحرير من جهةٍ غير مُباشرة، وعبر تفعيل عمليَّاتها الانتحاريَّة وراء الحدود، لخَنق السُّلطة الوليدة فى رام الله.
ربما كان بمقدور الليكود بمفرده أن ينقلبَ على المسار الجديد ويُفسِدَه، لكنَّ المهمَّة صارت أسهلَ كثيرًا بعدما لاقاه فيها شريكٌ فلسطينىٌّ، يختلفُ على الغاية ويتَّفق فى الوسائل. لم تَعُد السياسةُ موضعَ ترحيبٍ من التيَّارات الأُصوليَّة على الناحيتين، ولم يَكُن صقور الصهيونية يحلمون بأفضل من هذا على الإطلاق.
رُسِمَت ملامحُ الدراما فى وقتٍ مُبكّر، لكنَّ اكتمالها تعطَّل قليلاً بأثر كاريزما «أبوعمار» وما تبقَّى من رصيد نضالات «فتح» وشركائها. وعند نقطةٍ مُعيّنة بدا الرجلُ عَقبةً مُزدوجةً أمام المشروعين: اليمين القومى الإسرائيلى الساعى لكَنس مفاعيل زمن الحوار والترتيبات الناعمة، واليمين الدينىّ الحمساوىّ الطامع فى وراثة مكانة السلطة الوطنية ورمزيَّتها وما تحوزُه من شرعيَّةٍ نسبية.
قُتِلَ الرئيسُ المُحاصَرُ فى مُقاطعته على أيدى الأعداء، وتأجَّل دفنُه رمزيًّا لحين استكمال ترتيبات الانقلاب على مشروعه، وهو ما كان فى العام 2007.. انقطع مسارُ الرَّبط بين الضفَّة الغربية وغزَّة تطوُّعًا، وانفصل الحماسيِّون بالقطاع عن بقيَّة الجغرافيا المأمولة، لا لشىءٍ إلَّا الأيديولوجيا والمصالح الفئوية فحسب.
وَزَّعتْ إسرائيلُ طاقتَها على محورين مُتضادّين: تُنسِّقُ مع السلطة أمنيًّا وسياسيًّا، وفيما يخصُّ الأمور الاقتصادية والمالية، وتتخادَمُ مع حكومة حماس الجديدة ضِمنيًّا، ومن تحت الطاولة. الظاهر هُناك صار مَثلبةً ومنصَّةً للتصويب على منظومة رام الله، والخفىُّ هُنا يُعزِّزُ مُكتسبات الحركة ويستثمر فى تمكينها. تتقوَّى الجبهةُ الغزيَّة فتضعف أُختُها، والعكس بالعكس. والعنف يتَّخذُ هيئةَ دوراتٍ زمنيَّة مُتقطِّعة ومُتلاحقة، لكنها محسوبةٌ بدقّة، بحيث تُضيف للعاطفة ولا تأكل من فواعل الانقسام.
يُلامُ «عباس» على العلاقات المطروحة فى عرض الطريق، ولا يُؤخَذُ على منافسيه تمرير حقائب الدولارات من معابر الاحتلال، أو صمتهم على الحروب الجزئيَّة ضد حركة الجهاد وغيرها من الأهداف. علاقةٌ مُريحة وقليلة التكلفة، لكنها كانت تنخرُ البيئةَ الفلسطينية من داخلها، وتُضعِفُ مناعتَها، وتُفَخّخ فُرَص التئامها وإمكانات تلاقيها على مشروعٍ تحرُّرىٍّ جامع.
كان الاعترافُ بمُنظَّمة التحرير مُمثّلا شرعيًّا وحيدًا للشعب الفلسطينى قفزةً للأمام، لكنها ما كانت تعجب الوحوش الكاسرة فى تل أبيب، ولا الضباع المُتحفِّزة فى أدغال الأُصوليَّة الإسلامية، وقد توافقا على التصويب فى سويداء أوسلو، وكلَّما هدموا مِدماكًا منها يُباهون بصِدقِ توقُّعاتهم عن هشاشة الاتفاق وانعدام فُرَص نجاحه.
ومن يومها، تدورُ اللعبة بالآليَّة ذاتها، إبعاد الخيارات العقلانية عن الطاولة، ثمَّ التذرُّع بالجنون لاحقًا للقَدح فيها بأثرٍ رجعىٍّ. والطرح هُنا ليس غرامًا بأوسلو أو غيرها، إنما لتثبيت أنها لم تحصُل على فرصةٍ عادلةٍ، ولم يُفسَح لها هامشٌ على قدر ما أُتِيْحَ لخطابات الإلغاء المُتبادَلة، وسباقات التأجيج ونفخ النار فى كلِّ الاتجاهات.
قتلَتْ إسرائيلُ رئيسَ وزرائها لتعميد خطيئته فى عيون اليمين بالدم والترويع. وثبَّتَتْ حماس مشروعَها فى غزَّة بإلقاء خصومها الفتحاويِّين من أعالى البنايات، وسحلهم وراء السيارات فى طُرقات القطاع. وإذا كان الاقتتال مع الآخر مفهومًا فى سياق صراعٍ سياسىٍّ يُحرَّف عمدًا نحو صيغةٍ وُجوديَّة، فإنَّ قتالَ الذات وإراقةَ الدم الواحد بأيدى أبنائه ليسا خيارًا مُبرَّرًا من أىِّ وجهٍ. وقد فعله اليمينُ فى تل أبيب للانقضاض على فلسطين، وفعلته حماس أيضًا لذات السبب.
ومن هنا، تتجلّى الأزمةُ فى أعنف وجوهها وأكثرها تعقيدًا، إذ تنقسمُ المُواجهة الكُبرى على نفسها لتُنتِجَ مُواجهاتٍ أصغر، يشتبك فيها كلُّ فريقٍ داخليًّا لأجل احتكار التمثيل، وخارجيًّا لتأكيد أنه الخيارُ الأَسْلم للتعامل مع الأعداء. وبهذا، فإنه لا يتحضَّرُ للنصر على خصم الميدان فحسب، إنما يجتهد لهندسة الحلبة استباقيًّا، واستدعاء المُنافس المثالىّ من وجهة نظره، وبما يُمكِّنُه من مُواصلة مُغامراته بمعزلٍ عن نتائجها المُباشرة، ويُطيلُ له حَبْلَ المراوغة وادِّعاء الأحقيَّة فى البقاء، وفى الهيمنة الانفرادية على المشهد.
انتخَبَ نتنياهو حماسَ قبل أن ينتخِبَها الفلسطينيِّون، واشتغلَتْ الحركةُ بوعىٍ أو باندفاعٍ حدّىٍّ على ترقية زعيم الليكود فى بيئته. اختطفَتْ الجُندىَّ جلعاد شاليط فى ولاية إيهود أولمرت، لكنها علَّقَتْ صفقةَ التبادُل حتى منحَتْ نقاطَها إلى «بيبى» فى 2011، ومن جانبه أبرمَ اتفاقًا مُهينًا وقتَها لقاء أسيرٍ واحد، وأخرج لها يحيى السنوار بعد ربع القرن تقريبًا فى سجون الاحتلال.
ما كان يمنحُه كلٌّ منهما للآخر ويمنعه على سواه يُثيرُ أسئلةً لا حصرَ لها، حتى أنَّ قوّة كتائب القسَّام الحالية، أو التى كانت حتى وقوع «الطوفان»، بُنِيَت بكاملها تقريبًا فى أقلِّ من عقدين، أغلبها تحت حُكم نتنياهو وبعلمِه، وزاد أنه توسَّط لها فى الدعم المالى القطرى بنفسه، كما وسَّطَ الأمريكيِّين فى نَقل قادتها السياسيِّين من دمشق إلى الدوحة، بعدما اندلعت تظاهراتُ الشام، وانقلبت الحركةُ بانتهازيَّةٍ أيديولوجيَّةٍ صارخة على بشَّار الأسد، حليفها وراعيها وولىِّ نعمتها القديم.
فلسطينُ جزءٌ بين أجزاء فى مشروع الإخوان، عُرِفَتْ الجماعةُ منذ نشأتها على يد حسن البنا فى مدينة الإسماعيلية سنة 1928 بطموحها فى «أُستاذيَّة العالم»، وأطَّرَتْ حدودَها بالعقيدة لا الجغرافيا، واعتبرت الوطنَ حِفنةً من تُرابٍ عَفِن. والتنظيمُ لم يِكُن غائبًا بالقطع عن القضيَّة منذ بواكيرها، وما كان من صِلَةٍ للمُرشِد المُؤسِّس مع الشيخ أمين الحسينى، وللأخير مع هتلر والنازية، يُشيران إلى براجماتيَّةٍ أصيلةٍ لدى التيَّار فِكرًا وسلوكا.
فاصلُ العقود الستّة فى الميلاد عن حماس، أو نحو أربعين سنة بين الحركة والنكبة، لا يعنيان أنَّ النكهة الإسلامية المُتأخوِنَة كانت خارجَ فضاء الصراع ما بين النهر والبحر، إنما تبدَّلَتْ الأمواج، وجرت فى النهر مياهٌ، وفرضَتْ الوقائعُ أن يمتلِكَ التيَّارُ ذراعًا تُمثّله بالأصالة، وتنوبُ عنه فى بيئة التنازُع الوطنىّ أكثر مِمَّا مع العدوّ، وتجنى المنافع المُحتمَلَة بعد كامب ديفيد، وقد تحرَّرت القضيّةُ من خطابات القوميَّة العربيَّة وميراثها الثقيل.
لا أُفتِّشُ فى النوايا قطعًا، لكنَّ الراحل أحمد ياسين عندما دشَّنَ حركتَه بعدما تجاوزَ الخمسين، لم يَكُن يستعيدُ ذاكرةً ضائعةً منه فى زحام الأحداث، ولا كان يستنبِتُ تجربتَه فى المُقاومة من عَدَم. الأرجحُ أنّه كان مُكلَّفًا بمهمَّةٍ مُحدَّدة، ومَأمورًا بها من وراء الحدود. وما يُعزِّزُ التصوُّرَ السابقَ أنَّ الحماسيِّين رفضوا الانفتاح على إيران مُبكِّرًا، ما تسبَّب فى انشقاق مجموعةٍ تبلورت وصارت «حركة الجهاد الإسلامى»، ثمَّ عادوا عَمَّا كان مرفوضًا منهم، بعدما تقوَّضَ مشروعُ الإخوان فى شراكتها مع العثمانية الجديدة، وترقَّى جناحٌ داخلهم ينحازُ للجمهورية الإسلامية وأجندتها فى تذخير المذهب الدينى، إلى أن تغلَّبَ على الآخرين وألحَقَ الفصيل السُنّىَّ بأذيال المُمانَعة الشيعية المُسلَّحة.
وإذ يَعُدّ خالد مشعل أنَّ محرقة البشر والحجر فى غزَّة مُجرَّد «خسائر تكتيكية»، ويُنَظِّرُ طابورٌ من القادة لسرديَّة النصر بمعزلٍ عن حقائق الأرض، فالواقع أنهم ليسوا مُغيِّبِين أو عميانًا على الإطلاق، لكنهم ينظرون للمُواجهة من زاويةٍ مُغايرةٍ، ويُقيِّمون أثرَها وحصائلَها على ميزانٍ غير ما يعتمده الغزيّون العاديون.
لن تعدمَ الدلائلَ من ألسنةٍ حماسيَّةٍ رفيعة على أنَّ فلسطين جدارٌ فى بناء، وسرديَّةُ الوقف الإسلامى إنما تعنى فى عُمقِها السعىَ إلى معركةٍ دينيَّة واسعة المدى، تُجَدِّدُ ذاكرةَ الحروب الصليبية القديمة، ويُنتَظَرُ منها أن تفرزَ فُسطاطَ الحقِّ من فساطيط الباطل، وتنتدبُ قائدَها الذى يصعَدُ على أشلاء مُناوئيه أوّلاً، كما كان فى زمن حِطّين سابقًا.
وإذ يُوفِّرُ خطابٌ كهذا ذريعةً للعقائديين المُلتاثين فى الدولة اليهودية، فإنه لا يُحقِّقُ مناخَ التلاقى المطلوب إسلاميًّا، وقد تبلورت الهُويَّات الوطنيَّة بمنطقٍ مُفارقٍ لماضيها، وأقامت الأُصوليَّاتُ الإقليميَّةُ الحجَّةَ على نفسها، لأنها اختصمت بيئتها أوّلاً، وقبل أن تختصِمَ الغريبَ، أو تُوجِّه رصاصةً واحدة إلى صدر العدوّ.
وإزاء مُحاولات استدعاء الماضى من قبوره السحيقة، والعودة إلى أزمنة التديين والفرز الطائفى، تُرفَعُ الشعارات اللاهبةُ فى مواضع غير مُناسبة، وباستخفاف لا يُقيم وزنًا للجماهير والعقول. يطلبُ الحماسيِّون الاتحاد على قاعدةٍ قوميَّة أو أُمَميَّة، بينما لم تَبرد بعد نيرانُ تقسيمهم للبيئة الفلسطينية عمدًا وبسكاكينَ صدِئَةٍ. كأنَّ «صلاح الدين» يُنادى باجتماع العرب والمسلمين مثلاً، بعدما فرَّقَ الأيوبيِّين ونكَّل بهم جميعًا.
تستبدُّ الحركةُ بقرار «الطوفان» لحساباتٍ أيديولوجية أو تنظيميَّة، ثمَّ تُفتِّشُ عَمَّن يحتملُ عبءَ المُقامرة، وإن لم يأخذه بالتراضى فليَكُن بالمُزايدة وحروب التضليل والدعايات. تستنكفُ التضحيةَ لأجل حاضنتها الأصيلة، بينما تطلبُ منهم ومن الجميع أن يُضَحِّوا لأجل إدامتها، وإخراجها من الفخِّ على أمل تجد مُتَّسعًا للسقوط فيه لاحقًا، وبكُلفةٍ أعلى فى كلِّ مرَّةٍ عن سابقتها، وهذا مِمَّا لم يَعُد فى حاجةٍ إلى برهان.
والحال، أنَّ الأُصوليَّةَ أثبتَتْ عَمليًّا أنها تلفُّ فى دائرةٍ مفرغة، وتُدمِن تكرارَ تجاربها الفاشلة بذاكرةٍ فئرانيَّةٍ لا تستفيد من عِبَر الماضى، ولا تُوفِّر على ضحاياها تكاليفَ المُغامرات غير المحسوبة. دوّامةٌ مُركَّبةٌ من إنكار البديهيات، وتأكيد المُؤكَّد بنَزَقٍ طفولىٍّ خالص. لا حاجةَ إلى التذكير بوحشيَّة الصهاينة، ولا بأنهم يتربَّصون بالفلسطينيين وقضيَّتهم العادلة، وواجب النضال أن يُهَذِّب غريزة الافتراس فيهم، لا أنْ يُحفِّزها، أو يستفزَّ الضباع التى لم تُخلِف مع طرائدها موعدًا من قبل.
وإذا كان «السنوار» تلبَّس حجابَ الوَهْم من أخمص قدميه إلى شعرِ رأسه، وتصوَّرَ أنَّ عمليَّةً بحجم «الطوفان» لن تستجلِبَ أضعافها من القتل والتخريب، فعلامَ يستنِدُ ورثَتُه الآنَ فى افتراض أنَّ استعراضاتهم فى مواكب تسليم الأسرى، أو تشدُّدَهم فى عدم إلقاء السلاح الذى صار عاطلاً ومَعدومَ الفاعليَّة، قد تُرَتِّبُ سياقًا يختلفُ عن كلِّ ما عاينوه وعانَوه طيلةَ الشهور الماضية؟!
المُؤكَّد أنَّ نتنياهو كان يتحرَّقُ شوقًا لحَدَثٍ بحجم السابع من أكتوبر، وأنه انتفعَ منه على كلِّ المستويات، ولعلَّه المُنتفع الوحيد. والمُؤكَّد أيضًا أنَّ حماس خسرت ما كانت تتمنّاه، بل وما كان فى قبضة يدها أصلاً، ويعرفُ قادتُها يقينًا أنهم لا يُمكن أن يكونوا شريكًا مقبولاً فى مستقبل القطاع، إلَّا لو كان مناط الشراكة فى إبقائه ركامًا، وفى تثبيته على حال البيئة الطاردة لسُكَّانه، مع سدِّ أبواب الأمل فى وجوههم.
إن كان هدفُ الطوفان تأكيد وحشيَّة الاحتلال، فما كُنَّا فى حاجةٍ إليه، وإن كان استعراض قوّة الحركة فقد ثبت العكس، أمَّا لو كان رهانًا على إشعال المنطقة، أو مُقايضة الدم بالعاطفة ووَصْم العدو أخلاقيًّا، فإنه انتحارٌ مجَّانىٌّ وشديدُ الغباوة من دون شَكٍّ.. كلّما تصارع الأفيال يُسحَق العُشبُ، وما من فائدة واحدةٍ له فى صراعها أصلاً.
وبينما ينشَطُ فريقٌ فى المُصادرة على محاولات فحص الوقائع والاعتبار بها، زاعمًا أنه لا طائلَ من وراء العودة فى الزمن، ولا من تخطئة حماس وإدانة خياراتها، فالواقع أنَّ سلوكًا كهذا يستمرئ لُعبةَ التضليل، ويَحجِرُ على الفلسطينيين فى مُحاسبة المُمسكين بزمام أمرهم، وفى قَطع الطريق على إيرادهم مواردَ التهلكة بالاستخفاف نفسه لاحقًا.
التاريخُ سِلسلةٌ مُتَّصلةُ الحلقات، والنضالُ ومشاريعُ التحرُّر أيضًا، وإن كانت الأولويَّةُ لإنهاء المأساة، فلا ضمانةَ لعدم تكرارها من دون استيعابها، والوعى بمُسبِّباتها وعوامل الإخفاق القارَّة فيها. وأوَّلها أنَّ إضعاف القضية ينبعُ من داخلها قبل الخارج، بالتديين والانقسام وصراعات المحاور والأحلاف، وأنَّ إنكار البديهيات غباء، وتأكيدَ المُؤكَّد رفاهيةٌ لا يحتاجها المنكوبون، ولا تليقُ بمَنْ يدَّعون تمثيلَهم رغمًا عنهم، وباستبدادٍ وشُموليَّةٍ كامِلَيْن.
لم يَعُد خطابُ المقاومة على الطريقة الحماسيّة مُقنعًا، ولا مُبرّراتهم تلقَى أُذنًا مُصغِيَةً من منكوبى القطاع. وحتى لو كانوا صادقين، فلا معنى للتغزُّل فى الأطلال بدلاً من البكاء عليها، ولا لاستمراء التجارب التى ثبَتَ أنها تخصِمُ من أُصول القضيَّة بقدر ما تُضيِفُ لأعدائها.
ظلَّتْ الحركةُ تختصِمُ «أوسلو» حتى مع الترشُّح للانتخابات وفق مُقتضياتها، وما توقَّفَتْ عن سرديّة الوَقْف الإسلامىّ وفلسطين الكاملة من النهر للبحر، رغم أنها عدَّلت ميثاقَها فى العام 2017 لتُقرَّ بدولة على حدود يونيو 1967.
تُبدِى قبولاً للتنحِّى عن الحُكم، ويُرحِّبُ بعضُ قادتها بالانضواء تحت لواء مُنظَّمة التحرير، وأشاعت أنها ترتضى بإنفاذ إدارةٍ مَدنيّةٍ غير فصائليَّة فى القطاع، لكنها تقولُ أكثرَ مِمَّا تفعل، ويَزدَوِج خطابُها بين السرِّ والعَلَن، وتضعُ عينَها على الشعبية خارج فلسطين قبل الداخل، وعلى الأيديولوجيا قبل القضية والوطن.
والحقّ أن المُصالحة ضروريَّةٌ قبل الحرب وبعدها، والعدوان لا يمنعُ من تصويب أخطاء الحركة السابقة عليه، ولا أن تتواضع لشعبها ومُؤسَّساته القادرة على لعبِ دورٍ إنقاذىٍّ مطلوبٌ على وجه الاستعجال. إنَّ الاتّساق والموضوعية وإخلاص النوايا، تقتضى كُلّها خطابًا مُغايرًا لِمَا ترفعه الحركة، وسلوكًا بديلاً عَمَّا يتعثّر فيه قادتُها ويختلفون صراحةً وبالإيحاء.
كان نتنياهو على حرفٍ من التَّدَاعى قبل الطوفان، ربما يَعبُر أو يسقط، لكنَّ الحصافةَ وقتَها كانت تفرِضُ الاستثمارَ فى تقويض أركان ائتلافه، لا مُعاجلته بطَوقِ نجاةٍ من خارج التوقُّعات.. احتمال التحوّل داخل إسرائيل ضعيفٌ فى الظروف الطبيعية، لكنه مُستحيلٌ تمامًا فى أزمنة الاستثناء، ومع خطاباتٍ عقائديَّةٍ تُغَذِّى تيَّارات اليمين القومىِّ والتوراتىِّ، وتنتشلُ الشارعَ الهائج من لُجّة الانقسام إلى صخرة الإجماع.
تعيشُ إسرائيل على حَدِّ السكين، أو هكذا أقنعَتْ نفسَها، وتُحِبُّ أجواء الفوضى الإقليميَّة وتزدهِرُ فيها، ولديها ظهيرٌ أنجلوساكسونىٌّ قوىٌّ وغاشم، لا يَلينُ، ولن يُقَصِّر فى دعمها بكلِّ السُّبل. ويَقينُهم اليومَ أنَّ فى بقاء «حماس» مصلحةً مُباشرةً لمشروع القَضْم والابتلاع، وإعادة ترسيم المنطقة جيوسياسيًّا، ويتعيَّنُ على الحركة أنْ توليد الذرائع، وإنكار الوقائع الثقيلة، وعن تأكيد المُؤكَّد بتكثيفٍ ورتابةٍ لا ينقطعان.
عليها التوبة عن التخوين والمُزايدة، وعن تعليق خطاياها على كاهل الآخرين. وعليها أن تتحلَّى بالشجاعة المُثمِرَة لمرَّةٍ واحدة، وليست شجاعة شمشون فى هَدم المعبد على رؤوس الجميع. تتصارع الأفيال، فتنجو أو تُصاب، إنما يُسحَق العُشب دومًا تحت أقدامها.