هيمنت قضية غزة على زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للقاهرة، في ظل رغبة عارمة في إيجاد دور، أصبح لا غنى عنه، في ظل التحرك الأحادي من جانب الولايات المتحدة، والسعي نحو تهميش الحلفاء، وهو الأمر الذي لا يقتصر على باريس وحدها وإنما الاتحاد الأوروبي بأسره، وهو ما استثمرته الدولة المصرية عبر الحصول على دعم كبير لرؤيتها من قبل قوى مؤثرة في المجتمع الدولي، من شأنه إضفاء المزيد من الزخم لها في مواجهة الخطط التي تتبناها حكومة بنيامين نتنياهو، وعلى رأسها مخطط التهجير، ومن ثم تصفية القضية الفلسطينية، بينما تضع رهانها بالكامل على الولايات المتحدة دون غيرها في ظل تراجع ليس فقط قطاع كبير من القوى الداعمة لها، وإنما أيضا ظهور بوادر انهيار المعسكر الغربي، والذي يمثل الكتلة الأكبر، الداعمة للاحتلال، في إطار جماعي، وهو ما يعكس ثمرة مهمة لنجاحات متواترة للدبلوماسية المصرية منذ لحظة اندلاع العدوان، ارتكزت في الأساس على تعزيز الشرعية الدولية القائمة على حل الدولتين.
إلا أن استثمار الدولة المصرية للزيارة المهمة، والتي جاءت في توقيت غاية في الحساسية، لم يقتصر على تحقيق مكاسب مؤثرة للقضية على الصعيد الدبلوماسي، وإنما امتدت إلى العديد من الأبعاد الأخرى ذات الأهمية الكبيرة، أبرزها تعزيز العديد من القطاعات الأخرى، التي تشغل الداخل المصري، وعلى رأسها قطاع الاستثمار، والذي يقع تحت مظلته العديد من القطاعات الأخرى، وهو ما تجلى بوضوح في الارتقاء بمستوى العلاقات بين البلدين إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية، وهو ما ارتبط بالاتفاقيات العديدة التي وقعها الجانبين، بينما عززتها جولات السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي ونظيره الفرنسي، منذ وطأت أقدام ماكرون أرض المحروسة.
وبالنظر إلى زيارة الرئيس ماكرون إلى منطقة الجمالية وخان الخليلي، نجد أنها كانت تحمل احتفاءً بضيف مصر الكبير، ولكنها حملت رسائل، منها ما هو سياسي، عبر التأكيد على ما تحظى به البلاد من استقرار وأمن رغم ما يدور حولها من صراعات، وهو ما يقدم رسالة طمأنة للمستثمرين للقدوم بمشروعاتهم والعمل في مصر، في ظل ما توفره من بيئة مستقرة، بينما تمثل في الوقت نفسه تعزيزا لقطاع السياحة، والذي يعد أحد أهم مصادر الدخل القومي على الإطلاق، وهو ما يمثل أهمية كبيرة في ضوء ما يوفره هذا القطاع من انتعاشة اقتصادية، سواء على مستوى الاقتصاد الكلي، أو فيما يتعلق بحياة ملايين العاملين به.
زيارة خان الخليلي، وما شهدته من احتفاء شعبي من المواطنين بالرئيس الفرنسي، يمثل وجها آخر للدبلوماسية، والتي لا تقتصر في واقع الأمر على المستوى الرسمي، وهو ما يساهم بصورة كبيرة في تعزيز الروابط على المستوى الشعبي، في ضوء حالة الدفء التي ترجمتها تغريدات ماكرون، والتي يشعر بها كل من تابعها، لتتحول مصر إلى وجهة مفضلة لقطاع كبير من المواطنين سواء في فرنسا أو في الغرب الأوروبي، ناهيك عما تحظى به تلك المنطقة من ثراء ثقافي يمثل أولوية فرنسية، إذا ما وضعنا في الاعتبار أن باريس هي مقر منظمة الأمم المتحدة للتعليم والعلوم والثقافة "اليونيسكو"، والتي يترشح لها شخصية مصرية بارزة وهو الدكتور خالد العناني والذي يحظى بدعم فرنسي.
زيارة الرئيس ماكرون للخط الثالث من مترو الأنفاق، هي الأخرى استثمار دبلوماسي فيما نجحت الدولة في تحقيقه خلال السنوات الماضية من إنجازات ومشروعات عملاقة، رغم حساسية الظروف التي تمر بها منطقتها، في ضوء حالة عدم الاستقرار الاقليمي، حيث قدمت الدولة المصرية برهانا عمليا على رؤيتها القائمة على ان التنمية هي السبيل الأمثل لمجابهة كافة التحديات، وفي القلب منها التحديات الأمنية، وهو الأمر الذي يتطلب وجود إرادة سياسية حقيقية لتجاوز كل ما يطرأ من أزمات عبر مواصلة المسير في النهج التنموي.
بينما كانت زيارة العريش استكمالا للنهج الدبلوماسي الذي لا يقتصر فيه دور الدولة على المواقف السياسية التقليدية، وإنما حمل على عاتقه نهجا إنسانيا لا يقل أهمية، يبدو واضحا في حجم المساعدات العالقة والتي يرفض الاحتلال دخولها إلى غزة، ناهيك عن استقبال الجرحى والمصابين الذين استقبلتهم مصر للعلاج في مستشفياتها، في إدانة عملية، ربما لا تحتاج إلى بيانات أو خطابات، للانتهاكات التي ترتكب في القطاع، والتي لا تقتصر على قتل آلاف البشر من المدنيين بدم بارد، وإنما أيضا في ظل حرب تجويع ممنهجة يمارسها الاحتلال لإجبار سكان القطاع على ترك أراضيهم فيما يمثل جريمة إبادة جماعية مكتملة الأركان، بحسب القانون الدولي، وهو ما يمثل بعدا عمليا مهما، سبق وأن انتهجته الدولة المصرية خلال الأشهر الماضية في إطار زيارات نظمتها لكبار المسؤولين إلى منطقة رفح والتي تمثل بؤرة مهمة للأحداث وشاهد إدانة مهمة لممارسات نتنياهو وحكومته، بينما حملت تأثيرات كبيرة على مسار القضية برمتها، وهو ما بدأ خلال زيارة رئيسا وزراء بلجيكا ألكسندر دي كرو والإسباني بيدرو سانشيز ليعلنا من قلب سيناء عزمهما على الاعتراف بدولة فلسطين، وهو ما حققته مدريد فعليا بعدها بأسابيع قليلة.
وهنا يمكننا القول بأن جولات الرئيسان السيسي وماكرون تعد استمرارا للنهج القائم على استثمار الزخم الناجم عن تصاعد الدور المصري، ليس فقط على مستوى القضية التي تحظى بمركزيتها الإقليمية وإنما أيضا عبر الترويج لتجربتها بالكامل سواء في الداخل أو الخارج، وهو ما من شأنه إثرائها وبالتالي تعزيز شراكاتها الدولية بما يخدم الاستقرار الاقليمي في صورته الجمعية، خاصة وأن استقرار الدولة المصرية يمثل حصنا لأقاليمهل الجغرافية، والتي تمثل أحد المشتركات مع فرنسا عبر البحر المتوسط.