هذه هى الرسالة التى بدأت بها حديثى فى العدد الماضى، ثم استطردت منها لغيرها من الموضوعات، التى استغرقت معظم الحديث الذى انتهى ولم أقل شيئاً، مع أنها كانت موضوعه الأول، وها أنا أعود إليها اليوم لأقدم نصها، ثم أعلق على ما جاء فيه.
وأود قبل كل شىء أن أوضح أن هذه الرسالة لم تنشر من قبل، لا مفردة، ولا ضمن «أوراق طه حسين ومراسلاته» التى قام بدراستها والإشراف على نشرها الأستاذان أحمد زكريا الشلق، ومحمد صابر عرب، وصدرت عن دار الكتب والوثائق القومية فى جزءين، يضمان حوالى أربعمائة ورقة ورسالة مما كتبه لطه حسين أصدقاؤه، و زملاؤه، وطلابه، ومريدوه وغيرهم من رؤساء الدول، والعلماء، والزعماء السياسيين، وما كتبه طه حسين لهؤلاء.
ولعل السبب فى عدم نشر هذه الرسالة من قبل، أنها اكتشفت متأخرة عن غيرها، فلم يتمكن القائمان على نشر أوراق طه حسين من وضعها فى أحد الجزءين اللذين صدرا بالفعل، لكن الدكتور صابر عرب آثرنى مشكوراً بنسخة مصورة منها، وجد من المفيد أن يطلعنى عليها، وها أنا أقدمها بدورى للقراء الأعزاء، مع ما يتيسر لى من تعليق على ما جاء فيها، وهو كثير يحتاج لشرح طويل.
كل ما جاء فى هذه الرسالة حتى ما يبدو أمورا شخصية، يتصل بمرحلة شديدة الخصوبة فى تاريخنا الحديث، وهى التى تلت ثورة 1919 وكانت ثمرة من ثمارها، ففى تلك المرحلة ألغيت الحماية البريطانية، ونالت مصر استقلالاً لم يكن كاملاً، لكنه كان خطوة واسعة نحو الاستقلال الكامل، وأعلن الدستور الديمقراطى، ونشأت الأحزاب، وقام النظام النيابى، وازدهرت الصحافة، واتسع المجال أمام التعليم المدنى، واشتد عوده بالجامعة المصرية، وأخذ يحل شيئاً فشيئاً محل التعليم التقليدى، وبدا كأن الأمة المصرية تنهض من جديد، وتسترد حقوقها المهدرة، وتدافع عن كيانها فى وجة الأجانب الغزاة والحكام الطغاة.
مرحلة طالما شوهها الذين كتبوا عنها بعد استيلاء الضباط على السلطة جهلاً أو نفاقاً أو هما معاً، فلم يروا فيها إلا السلبيات التى لم تكن مسئولة عنها، لأنها إرثنا الفادح من عصور الظلام والطغيان، التى رزحنا تحتها منذ فقدنا استقلالنا فى القرون التى سبقت ميلاد المسيح، ولانزال نعانى من آثارها حتى الآن، فإذا قارنا بين ما نحن فيه اليوم، وما كنا فيه فى تلك السنوات، التى نلنا فيها استقلالنا بعد ثورة 1919 ظهر لنا وجهها الحقيقى، المتمثل فيما ذكرته من صور النهضة التى لا نستطيع أن نتمثلها أو نقدرها حق قدرها، وهى وقائع متناثرة ومجالات متباعدة منفصلة، وإنما نعرف قيمتها ونشهد روعتها حين نراها روحاً فتية، وراية خضراء تنبض فى كل شىء، وتتجسد فى السياسة، والثقافة، والأدب، والفن، والفكر، والمجتمع.
العشرينيات التى كتبت فيها هذه الرسالة، ليست طغيان الملك فؤاد، وإنما هى زعامة سعد زغلول، الذى كان مضطراً لأن يوعز لبعض أنصاره بأن يهتفوا للملك أيضاً، لأن الجماهير التى كانت تحتشد لسعد وتهتف بحياته، لم تكن تعبأ بالملك الجالس بجانبه فى العربة المكشوفة السائرة بهما فى الطريق لافتتاح البرلمان.
طغيان الملك فؤاد من طغيان سليم الأول، وقراقوش، والحاكم بأمر الله، أما زعامة سعد فانبعاث جديد للفلاحين المصريين، الذين عادوا أمة من جديد.
والعشرينيات ليست الشيخ الخضر حسين، ولا الشيخ شاكر، ولا الشيخ بخيت، الذين وقفوا إلى جانب الملك، وأعلنوا الحرب على حرية الفكر وعلى الديمقراطية، وإنما العشرينيات هى أحمد لطفى السيد، وطه حسين، والعقاد، وعلى عبدالرازق، ومحمد حسين هيكل.
والعشرينيات ليست هى القوى الرجعية التى قاومت تعليم المرأة وخروجها للحياة، وإنما هى هدى شعراوى، التى نزعت الحجاب، وهى سهير القلماوى التى دخلت الجامعة.
والعشرينيات ليست نواب الرجعية، الذين صفقوا لوزير المعارف فى حكومة صدقى، حين أغلق معهد التمثيل، من أمثال حافظ رمضان، وعبدالعزيز الصوفانى، وأبو سحلى، ولكن العشرينيات هى شوقى، وعبدالوهاب، وأم كلثوم، ومختار ومحمود سعيد والأمير يوسف كمال والأمير عمر طوسون.
والسؤال الذى يلح علىّ الآن هو أى الوجهين يذكرنا أكثر بأيامنا الراهنة؟
والحديث فى العشرينيات يطول، فوراء كل تاريخ من تواريخها، وكل اسم ظهر فيها، قصة تروى، ودرس يستفاد، وسوف أتوقف الآن عن الحديث لنقرأ معاً رسالة الشيخ على عبدالرازق، لصديقه طه حسين، ثم نعود للحديث عنهما وعنها فى الأسبوع القادم.