حين نبحث فى النظم السياسية التى قامت باسم الإسلام فى هذا العصر أو فى العصور الماضية، عما يمكن أن يكون منتميا حقا للإسلام أو مستمدا منه أو معبرا عنه، لا نجد إلا هذا الشعار الذى يرفعه دعاة الدولة الدينية، وهو «الحكم بما أنزل الله!»، وحين نسأل أصحاب هذا الشعار عما يعنيه الحكم بما أنزل الله، نجدهم يتحدثون عن تطبيق الشريعة، فإن سألنا عن المقصود بتطبيق الشريعة، قالوا: إقامة الحدود. نعم، فالنظام الإسلامى لا يعنى عند المروجين له إلا قطع يد السارق، ورجم الزانى، وجلد السكران!
لا يوجد نظام سياسى خاص بالإسلام، فليس فى القرآن الكريم أو فى السنة النبوية، أى تحديد لما يكون عليه الحكم. لأن مسألة الحكم لم تكن مطروحة على المسلمين الأوائل لسببين:
الأول: أن الإسلام دين، والحكم بالنسبة له كما هو بالنسبة لأى دين آخر مسألة دنيوية، يختلف فيها الناس وتتطور من زمان لزمان ومن مكان لآخر، والكلمة التى ميز فيها الرسول الكريم بين أمور الدنيا وأمور الدين، فقال «أنتم أعلم بأمور دنياكم»، هى الكلمة التى ميز فيها المسيح عليه السلام بين حقوق الله وحقوق الدولة، فقال «دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله».
أما السبب الآخر الذى حال بين الإسلام وبين أن تكون له نظرية فى الحكم ،فهو أنه ظهر فى مجتمع بدوى، لا يعرف الجماعة القومية المستقرة التى تحتاج لدولة تنظم شئونها على النحو الذى عرفته أثينا فى عهد صولون، أو روما فى عهود القناصل أو عهود القياصرة.
من هنا كان الإسلام عقيدة دينية، لها أركانها التى لم تتحدث عن أى نظام سياسى. لا الملكية، ولا الجمهورية، لا حكم الشعب، ولا حكم النخبة، ولا حكم الفرد. فإذا كان العرب المسلمون قد فتحوا ما حولهم من البلاد وحكموها، فقد اقتبسوا نظمهم السياسية من النظم التى وجدوها فى البلاد المفتوحة. وإذا كانوا قد خلطوا فى الدول التى أقاموها بين السياسة والدين، وزعموا أنهم ظل الله على الأرض، كما كان يقول الخلفاء العباسيون، فليس فى الإسلام ما يصدق دعواهم، التى يرفعها كل الطغاة حين يغتصبون السلطة، زاعمين أنهم لا يستمدونها من مصدر بشرى أو من قانون وضعى، وإنما يستمدونها من مصدر فوق الجميع.
وكما لا يوجد فى الإسلام نظام سياسى، لا يوجد فيه أيضا نظام اقتصادى. لأن النظم الاقتصادية ليست عقائد، وإنما هى مصالح وأوضاع مادية، واجتماعية تتغير وتتطور. اقتصاد الحقل غير اقتصاد المصنع، والقطاع الذى يمكن أن يكون ملكا خاصا، غير القطاع الذى يمكن أن يصبح ملكية عامة. فإذا كان للدين أو للفلسفة أن يهتما بالاقتصاد، فاهتمامهما به ينصب على القيم، التى يجب أن تراعى فى النشاط الاقتصادى وفى أى نشاط آخر، ومنها التعاون، والتضامن، والتوزيع العادل للثروة، وعدم استغلال الآخرين.
فإذا لم يكن فى الإسلام نظام سياسى أو نظام اقتصادى، تقوم على أساسه الدولة، وتحقق أهدافه، فعلى أى أساس تقوم؟ وما هى الوظيفة الدينية التى يمكن أن تؤديها؟
الإجابة التى يقدمها لنا من يزعمون أن الإسلام دين ودولة، هى كما ذكرنا تطبيق الشريعة.
وتطبيق الشريعة لا يعنى إلا إقامة الحدود: قطع يد السارق، ورجم الزانى، وجلد السكران!
والذى لاشك فيه، أن هذه العقوبات البدنية موجودة فى القرآن الكريم. لكن الذى لاشك فيه أيضا، أن تطبيقها صعب، ويكاد يكون مستحيلا، وإلا فكيف نطبق مثلا حد الزانى، إذا كان يشترط لتطبيقه اعتراف الزانى اعترافا صريحا متكررا فى أربعة مجالس مختلفة، أو أن يشهد عليه أربعة رجال، يرون ما حدث رأى العين، وتتفق شهاداتهم وإجاباتهم اتفاقا تاما، وإلا حوكموا هم بتهمة القذف؟ وكيف نطبق حد السرقة إذا كانت مما يشترك السارق فى ملكيته، أو تمت فى العلن، أو أن يكون السارق محتاجا، أو يكون صاحب الشىء المسروق مجهولا؟ فإذا انتهينا لشارب الخمر، فليس له عقوبة منصوص عليها فى القرآن الكريم، ولهذا اختلف الفقهاء فى تحديدها.
هكذا نرى أن إقامة الحدود بالشروط الإسلامية وحدها ،أمر يبلغ حد الاستحالة، فما بالك إذا أضيفت إلى هذه الشروط الإسلامية الموروثة شروط العصر، الذى نعيش فيه، ونرى إجماع البشر فيه على رفض العقوبة البدنية وإدانتها واعتبارها انتقاما من الجانى، لا يصلحه ولا يحمى المجتمع منه؟
فضلا عن حقيقة أخرى يجهلها الكثيرون ،الذين يعتقدون أن هذه العقوبات البدنية لا توجد إلا فى الإسلام، فليس من حقنا أن نعارضها لأنها سمة من سماته، التى تميزه عن غيره من الديانات والعقائد، هذا الاعتقاد يستغله ويشجعه دعاة الدولة الدينية فى الترويج لدولتهم، التى يجب أن تقوم حتى تطبق الشريعة وتقيم الحدود. لكن الحقيقة ليست كذلك، فالعقوبات البدنية قديمة قدم الحياة البشرية، والمسلمون لم يكونوا أول من قطع يد السارق أو رجم الزانى، وإنما كانت هذه العقوبات معمولا بها قبل الإسلام بآلاف السنين، وظلت معمولا بها بعد الإسلام فى مجتمعات كثيرة. وقد أشرت إلى ذلك فى مقالتى السابقة، وباستطاعتى أن أضيف الكثير.
فى مصر القديمة كان الموت عقوبة القاتل، الذى كان عليه أن يقتل نفسه أو يوضع على الخازوق. وكانت الخيانة عقوبتها قطع اللسان. أما تزوير العقود والأختام، فكانت عقوبته قطع اليد. وكان على المرأة التى تقتل طفلها أن تحمل جثته على ذراعيها ثلاثة أيام كاملة. وكانت عقوبة المختلس من الموظفين والجنود المكلفين بجمع الضرائب من الفلاحين، أن يجلد مائة جلدة. وكان من العقوبات الأخرى، جدع الأنف، وصلم الأذن، والنفى إلى المدن الواقعة على الحدود.
وفى العراق القديم، كان القانون المعمول به هو العين بالعين، والسن بالسن، ولكن العراقيين القدماء، كانوا يفرقون بين السادة والعبيد. فإذا فض رجل بكارة فتاة شريفة عوقب بالموت، أما إذا فض بكارة جارية مملوكة لرجل شريف، فالعقوبة غرامة مالية.
وكما كان القصاص قانونا معمولا به فى العراق القديم، كان معمولا به أيضا فى المجتمع اليهودى القديم. فالرجم كان هو الطريقة المتبعة فى الإعدام.. وكان المحكوم عليه بالموت، يساق خارج المخيم أو خارج المدينة فيرجمه الشهود بالحجارة الأولى، ثم ينهال عليه الآخرون حتى يموت. وكان الجلد بالسياط عقوبة أخرى لدى اليهود، لكنه لم يكن يزيد على أربعين جلدة كما جاء فى سفر التثنية.
ليس صحيحا إذن أن العقوبات البدنية مقصورة على الإسلام، أو أن الإسلام يتميز بها عن غيره من الديانات. فضلا عن أن تطبيقها بالغ الصعوبة، لأسباب فى الفقه الإسلامى وفى القوانين والأعراف الدولية. فكيف نفسر إذن وجود هذه الجماعات، التى تدعو لإقامة الحدود؟ وكيف نفسر ما تلقاه هذه الدعوة من تجاوب لدى بعض المصريين؟
ليس هناك إلا تفسير واحد، هو أننا نمر بأزمة روحية ومادية خانقة، لا نجد منها مخرجا، إلا العنف الذى نوقعه بأنفسنا وبالآخرين، إننا نكرر الآن ما كان يحدث فى المجتمعات القديمة، التى كانت تقاوم المجاعات والهزائم بتقديم الضحايا البشرية!