أحمد عبدالمعطى حجازى

الشعر لا يموت حتف أنفه!

الخميس، 12 فبراير 2009 11:09 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
يبدو أن الشعر عاد ليشغل الناس من جديد، وليطرح أسئلته التى كان يطرحها من قبل، وليثير أسئلة جديدة تنتظر من يجيب عليها.

وفى الأسبوع الماضى كانت عودة الشعر موضوعا مشتركا فى عدد من الصحف المصرية التى تحدثت إحداها عن عودة زمن الشعر، وتحدثت صحف أخرى عن مقاومة الشعر للرواية فى معرض الكتاب، حيث فرض الشعر حضوره فى عدد من دور النشر المصرية والعربية، وتصدر قوائم إصداراتها، وفى حديث هذه الصحف عن الشعر رد مباشر أو غير مباشر على الصيحة التى أطلقها بعض النقاد المصريين قبل سنوات وتنبأوا فيها بموت الشعر قائلين إن هذا العصر الذى نعيش فيه هو عصر الرواية وليس عصر الشعر، وقد تلقى الوسط الأدبى هذه الصيحة كما لو كانت خبرا لا يحتمل المناقشة وإنما يحتمل التصديق والتكذيب، وهكذا انقسم الكتاب والشعراء فريقين اثنين يتعصب أحدهما للرواية، ويتعصب الآخر للشعر، دون أن ينظر أحدهما فيما يقوله الآخر، أو يسأله عن الدلائل والوقائع التى بنى عليها رأيه وأطلق نبوءته ليفهم منه ويناقشه ويرى فيم يتفق معه وفيم يختلف، كأن الشعر لا يكون له وجود إلا فى غياب الرواية، وكأن ظهور الرواية دليل قاطع على غياب الشعر، وتلك حال نعرفها عن المصريين وخاصة فى مراحل التاريخ التى تشتد فيها وطأة الطغيان، وتضيق الصدور، وتقل فرص النشاط الوطنى الجامع، ويتراجع الرأى، ويتعصب كل فريق لما يظن أو يعتقد، ويعتبر نفسه مصدر الحقيقة، وينكر على الآخرين أن يختلفوا عنه أو يختلفوا معه، ولا يبقى عندئذ إلا الخصام والصدام.

الجبرتى يحدثنا فى «عجائب الآثار» عن الصراع الذى دار فى مصر بين القاسمية والفقارية، وهما فرقتان من المماليك المصريين اجتمعتا حول أميرين شقيقين أحدهما كان يسمى القاسم والآخر ذو الفقار، وقد سمع عنهما السلطان سليم بعد أن دخل مصر وضمها لمملكته وخشى أن ينقلب عليه المماليك بعد عودته إلى تركيا فاستدعى هذين الأميرين وطلب منهما أن يتسابقا أمامه فسبق أحدهما الآخر، وكان هذا سبباً فيما نشأ بينهما وبين الملتفين حولهما من صراع عنيف دام عدة قرون، دون أن يكون له ما يبرره، ودون أن يراجع المتصارعون أنفسهم ليكتشفوا أن هذه الحرب الدائرة بينهم فخ نصبه السلطان العثمانى للأخوين الشقيقين حتى لا يجتمعا عليه.

ونحن نعرف كيف ينقسم الفلاحون المصريون فى بعض القرى حين ينفعلون بما يرويه لهم شاعر الربابة من تغريبة بنى هلال، ومن وقائع الصراع الذى نشب بين أبى زيد الهلالى ودياب بن غانم، فيتعصب منهم فريق للأمير أبى زيد، ويتعصب فريق آخر للأمير دياب، وربما اشتعل الموقف وذهب الانفعال بالفريقين إلى تبادل التهم ورفع العصى ونشوب القتال.

ونحن نرى ما يحدث فى الملاعب والمكاتب والشوارع والحوارى بين الأهلاوية والزملكاوية، فنتذكر ما كان يحدث بين القاسمية والفقارية، وبين أنصار أبى زيد وأنصار دياب، وأنصار الشعر وأنصار الرواية!.

فإذا كان ما نشر عن الشعر فى الأسبوع الماضى يغرى بطرح القضية للمناقشة فأول ما نقوله فيها أن الحديث عن موت الشعر أو تراجعه ليس جديداً وإنما هو حديث قديم معاد طالما ردده النقاد والمفكرون الأوروبيون خلال القرنين الماضيين، وبإمكان القارئ أن يعود إلى كتاب المفكر الفرنسى بول هازار «أزمة الضمير الأوروبى» الذى يتحدث فيه عن انتقال الفكر الأوروبى من عصر النهضة إلى العصور الحديثة فيما بين نهايات القرن السابع عشر وبدايات القرن الثامن عشر، وما أصابه فى هذه المرحلة الخطيرة من تحولات وتبدلات، وقد ترجم هذا الكتاب إلى العربية جودت عثمان ونجيب المستكاوى، وصدر قبل عشرين عاما بمقدمة لطه حسين - أقول إن بوسع القارئ أن يعود لهذا الكتاب ليجد أن القسم الرابع والأخير فيه يبدأ بفصل عنوانه «زمن بلا شعر»، لأن الأوروبيين كانوا فى ذلك الزمن أكثر حاجة للنثر. كانوا يريدون أن يسلطوا الضوء على الواقع الملموس ويكشفوا ما كان ينطوى عليه من أسرار. وكانوا يطلبون الانتظام والوضوح حتى فى حياتهم العاطفية.

وإذا كان الشعر دعاء فهم لم يكونوا يريدون الدعاء «وإذا كان سعيا للوصول إلى ما يجل عن الوصف فقد كانوا ينكرون ما يجل عن الوصف، وإذا كان ترددا بين الموسيقى والمعنى فإنهم لم يعرفوا التردد ولا يريدون إلا البرهان».الزمن فى ذلك الوقت كان زمن الانتقال من الإيمان إلى الشك، ومن التخيل إلى التجريب، ومن الاستغراق فى الحلم إلى اكتشاف الواقع.

غير أن الفلسفات العقلانية، والاكتشافات العلمية، والثورات الصناعية التى تحققت فى هذا العصر وقلبت حياة الأوروبيين رأسا على عقب لم تقض على الشعر. لقد فتحت الطريق أمام الرواية التى ازدهرت فى القرن التاسع عشر، لكن ازدهار الرواية لم يؤد إلى أفول الشعر.

بالعكس، لأن الرواية كانت إضافة للغة الكتابة استفاد منها الشعر. ولأن نمو المدن واتساعها وامتلاءها بصور النشاط الإنسانى حرر الشعراء من التقاليد الكلاسيكية الصارمة، وأدخلهم تجارب جديدة، وطرح عليهم أسئلة فى الفكر والفن تبلورت فيها مواهب فيكتور هوجو، ولا مارتين، وبودلير، وفرلين، ورامبو، وبايرون، وشيلى، وكيتس، وجوته، وهولدرلين، وويتمان، وإدرجا آلان بو، ثم إن الزمن تقدم، والتحولات التى كانت محددوة فى القرن التاسع عشر اتسعت وتعمقت فى القرن العشرين، ولم يمت الشعر، بل واصل ازدهاره على أيدى من نعرفهم من كبار الشعراء الأوروبيين والأمريكيين أمثال فاليرى، وأراجون، وإليوت، وبيتس، وفروست، وبريخرت، ولوركا وسواهم.

بوسعنا إذن أن نستنتج ما يلى:
أولاً: أن ظهور فن جديد لم يكن له وجود سابق لا يؤدى بالضرورة إلى اختفاء فن آخر. ظهور الرواية ورواجها لم يؤد إلى اختفاء الشعر. وظهور السينما وازدهارها لم يتسبب فى موت المسرح.
ثانيا: أن تراجع فن من الفنون فى مرحلة من المراحل ليس دليلا على أنه لم يعد مطلوبا أو أن الحاجة إليه لم تعد قائمة. لأن النفس الإنسانية تظل هى النفس الإنسانية، وتظل أشواقها وحاجاتها هى هى. سوى أن حاجة تتراجع فى مرحلة من المراحل وتتقدم حاجة أخرى، ثم تنشأ أسباب وتجد ظروف تشتهى فيها النفس ما كانت قد زهدت فيه من قبل. وكما أن العلم لم يقض على الدين كما كان بعض المفكرين قد تنبأوا فالعلم لم يقض على الشعر.
وأخيرا: فالفرق كبير بين أن يموت الشعر حتف أنفه وهو ما لم يحدث، وأن نسعى نحن لقتله كما فعل بعض المفكرين والفلاسفة الذين ناصبوا الشعراء العداء، لأنهم كانوا يعتقدون أن الشعر نقيض العقل لأنه يعبر عن العاطفة والانفعال، وأنه نقيض الحقيقة لأنه يقوم على التخيل، وأنه نقيض الفضيلة لأن الشاعر ينفعل بكل ما يراه، ويعبر عن النزعات الرفيعة والشهوات الدنيئة، ومن هنا رأينا أفلاطون يطرد الشاعر من جمهوريته لأنه معلم وهم، ولهذا «نعمد إليه فنضع إكليلا على رأسه ونشيعه إلى حدود المدينة فننفيه منها ونحن نترنم بمديحه»!









مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة