فى مصر، فى ميدان هادئ بإحدى المناطق الراقية تلمح من بعيد كتلة سوداء ساكنة تقترب، فتبدأ أن تشك أن روحا بشرية قد تكون مستترة تحت هذه الكتلة.
وإذا قادك حب استطلاعك لإزالة شكك، فغياب الزحام والسيارات يسَّهل عليك المهمة الصغيرة.. وسط سكون الثوب الأسود، وجه سيدة عجوز زاد الزمن ابتسامتها نوراً دون أن ينحر كثيراً فى جمال ملامحها، الست «قوت» من (...) البعيدة عن القاهرة تروى لك بكلمات قليلة هادئة كيف ربَّت ابنتيها فى شقة متواضعة أجّرها لها رجل طيب ثم منحها إياها، تتعجب لماذا تترك «قوت» شقتها وتقضى نهار الجمعة من كل أسبوع على الرصيف فى ميدان هادئ.. تسألك بابتسامة صغيرة تلقائية ساخرة: «يعنى هاكل من الحيطان»؟ «البنتين متجوزين اتنين جدعان بس فُقرا غلابة.. مانيش عاوزه أزوِّد همّهم، كتَّر خيرهم الناس دول كُلِّتهم.. واحد جاب لى البطانية دى النهارده، ومستورة الحمد لله وواحد تانى الله يكرمه اشترى لى البخاخة دى علشان تعب صدرى، دى أهم حاجة، دى بـ 120 جنيه، من غيرها أموت وقبل ما بتخلص بيكون حد تانى اشتراها لى، وربنا بيكرم». ولا تتوقف «قوت» عن الدعاء لكل الناس إلا عندما تسألها «إيه اللى جابك القاهرة»؟ يبدأ صوتها يخفت وهى تنظر بعيداً «من 18 سنة كنا عايشين حلوين فى مِلكى فى...(إحدى المحافظات) قال لى جوزى نبيعه ونشترى عربية نسترزق منها. باعه.. وماشوفتوش تانى»، وتستكمل عيناها بدموع مترغرغة دون أن تسيل، ما شح به لسانها، تصمت وتعود سريعاً لابتسامتها فى محاولة منها ألا تَسلبها ابتسامتها مرةً أخرى، تبتسم أنت أيضاً وتسألها «نِفسك فى إيه يا ست قوت؟» «مستورة، الحمدلله» فتُلِّح: «يعنى عايزه إيه من الدنيا.. من مصر؟» «مش عايزه حاجة.. أنا باحلم بس بعُمرة، مش عايزه فلوس.. الناس غلابة كتير بتقطَّع بعض على اللقمة.. أنا الحمدلله.. أهُه فى الخمس دقايق دول يِجى أربع عربيات وقفوا وساعدونى».. كلمات الست «قوت»، دون أن تدرى العجوز، تُذَكِّرك فى عمق عقلك وقلبك بكلمات قد تعلمها ولكن قد يغيب جوهرها عن وجدانك أحياناً: «فقدت حذائى فلعنت الدنيا، ثم أبصرت رجلاً مبتور الساقين فحمدت ربى».
تستودع «قوت القلوب» التى فقدت حذاءها منذ زمن بعيد متمنياً لو منحتها ما تحلم به، وتسير فى شوارع مصر بابتسامة منحتك هى إيّاها.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة