على مدى خمسة أسابيع نشرت «اليوم السابع» حلقات من شهادات المفكر الإسلامى «جمال البنا» وتعد هذه «الأسرار» وثيقة تاريخية مهمة، يبحر البنا خلالها فى عالمه ومجتمعه، شاهدا على العصور التى عاشها ومبينا انتقالاتها وانحرافاتها، ولأهمية هذه الوثيقة تهافتت على نشرها دور النشر الكبرى، ما دفع «البنا» إلى تنقيحها وزيادتها بأسرار جديدة يكشف عنها للمرة الأولى وتنير طريق الباحثين فى الكشف عن شخصه وعصره.
وكعادة شهادات «الكبار» أتت مقالات جمال البنا حاملة العديد من المفاجآت، أهمها ما أدلى به عن أسرته التى كانت متناغمة متحابة، كل واحد فيها له اهتماماته الخاصة وهواياته المحببة، فأبوه كان يصلح الساعات ويهوى قراءة الروايات، أما أخوه عبدالباسط فكان يكتب الأغانى لكبار المطربين آنذاك أمثال عبدالمطلب، الذى كتب له أغنية «شفت حبيبى وفرحت معاه» أما أخوه «حسن» فقد أسس أكبر جماعة إسلامية فى عصره، إلا أنه لم يكن يضيق على أخيه الذى كان يتركه حرا فى سلوكياته وآرائه، دون ترهيب من شىء أو ترغيب فى شىء آخر، وكان حينما يدلى بتحفظاته على فكر الإخــوان يسمع ويبتسم ولا يعقب، كل هذا التراحم والمحبة الأخوية من حسن البنا لأخيه الأصغر تبرز ما كان يتمتع به مؤسس جماعة الإخوان من رحابة فكرية يفتقدها «إخوان اليومين دول»، فليس بعيدا أن يطبق حسن البنا نفس طريقته التى اتبعها تجاه أخيه مع خصومه أو أتباعه، بدليل أنه سمى جماعته باسم «الإخوان» أى أنه من الجائز كان يعاملهم مثلما كان يعامل أخاه، خلاف ما تقوم به الجماعة الآن من نفى الآخر غالبا واحتقاره أحيانا.
لعل أهم ما أوضحه البنا فى هذه الأوراق هو علاقة الإخوان المسلمين بأفراد الجمعية الشرعية التى اندمج أعضاؤها فى «الجماعة» منذ بدايتها، وهذا يؤكد قوة ومتانة العلاقة التى بدأت ولم تنتهِ إلى الآن وهذا ما يظهر جليا فى كون الجمعية الشرعية هى المؤسسة التى ترعى أشبال الإخوان وتمدهم دوما بالمجندين الجدد، ومن أبرز الأشخاص الذين كانوا ينتمون للجمعية وانضموا للجماعة وأشار إليه البنا، توفيق أحمد الذى كان يذهب معه إلى السينما بطريقة سرية وكان يتولى سكرتارية وإدارة دار الإخوان، وكذلك الشيخ خالد محمد خالد. ما يضاعف الإعجاب بشخصية جمال البنا التى اتضح الكثير من جوانبها الخفية فى هذه الذكريات، هو ذكره لعلاقاته النسائية، بلا تحرج أو مداراة، بل قوله إن هذه العلاقات تعد ثمرة لفترة ما بعد المعتقل، ويشير إلى هذه العلاقات بتعارفه على السيدة بهيجة البكرى التى كانت تعقد صالونا يأتى إليه كبار البلد وعليته، حتى إنها توسطت إليه عند عبد الحكيم عامر بعد قيام الثورة ليتمكن من زيارة السجون المصرية التى كان أول ما طالب بتحسين أوضاعها وإلغاء، وعدم احتساب السابقة الأولى، ووصف البنا محبة الناس لهذه السيدة بقوله إنها كانت تداعب الشيخ الباقورى، وتحتضنه كأم وكان الجميع يحبونها ويقبلون يدها وينادونها «تانت بيللى».
ومن أهم الأحداث التى يضيفها البنا لمشروع الكتاب وقائع مقابلته للرئيس الراحل محمد نجيب، ومعاونه آنذاك جمال عبدالناصر، وعلى حد قوله يذكر البنا أنه ذهب لمقابلة نجيب وعبدالناصر، بعد أن أعادا التحقيق فى قضية اغتيال حسن البنا ليشكرهما، فكان نجيب صريحًا بسيطـًا مهذبًا أما ناصر فظل يتفحصه بعينيه كالأفعى.. ثم سأله: هل أنت شيوعى؟ وكان السر فى هذا السؤال هو تأليفه كتاباً يسمى «ترشيد النهضة» وذلك بعد قيام حركة يوليو بأسابيع، وإهداءه هذا الكتاب «للأبطال محمد نجيب وإخوانه لكى يظلوا أبطالاً وحتى لا يكون الفجر الكاذب» إلا أن هذا الكتاب حمل أسباب إقصائه السريع، لأنه قال إن الثورة ليست ثورة، إنما هى انقلاب عسكرى، فما كان من الضباط إلا أن صادروا هذا الكتاب ووصفوه بالـ«شيوعى» لأنه أورد مقولة لمؤسس الشيوعية «كارل ماركس»، كما يكشف البنا عن أسرار مقابلته لـ«محمد حسنين هيكل» وعلاقته بالإخوان وأسرار زيارته لهم هو ومحمد التابعى، وعلاقته بالمراسلين العسكريين الذى علموه الإنجليزية فى مقابلته لهم بأحد البارات المشهورة.
كانت الكتابة هى المهنة التى اختارها البنا وأخلص لها ومن أجلها كان يسهر الليال للاطلاع والاحتشاد، ويبين البنا حبه لهذه المهنة واعتزازه بها فى سرده لموقفه، حينما بدأ العمل فى الخمسينيات بالبطاقات الشخصية فكتب بخانة المهنة «كاتب ومؤلف» وهى المهنة التى ظلت فى كل جوازات سفره حتى الآن.