منذ أن سمعت عن قرب إصدار كتاب الأستاذ الكبير جلال أمين «مصر والمصريون فى عصر مبارك «1981-2008» وأنا أتطلع لقراءته؛ لما يتميز به الأستاذ «أمين» من قدرة بارعة على صياغة الأفكار والنظريات العلمية بطريقة سلسة سهلة وبسيطة دون إخلال بمضمونها العلمى الراقى، ولما أوحى به عنوان الكتاب بأنه سينظر إلى عصر الرئيس مبارك نظرة بانورامية شاملة مقيِّما إيجابياتها وناقدا سلبياتها.
«الدولة الرخوة» هو عنوان الفصل الذى اختار الأستاذ «أمين» أن يؤسس عليه بقية تحليله للوضع الراهن فى مصر، مقتبسا مصطلح «الدولة الرخوة» من نظرية عالم الاجتماع الشهير «جنار ميردال» الذى قال إن الكثير من بلدان العالم الثالث تعانى من «الرخاوة» الناتجة عن الفساد وما ترتب عليه من غياب العدالة وانتشار الرشاوى، ويعلق «أمين« أنه عندما قرأ عن نظرية «الدولة الرخوة» فى نهاية الستينيات لم يكن يشعر على الإطلاق أن هذه الصفة من الممكن أن تكون بمصر وقتها، فقد كانت مصر حسب وجهة نظره «دولة قوية» خلاف لبنان فى السبعينيات التى كانت دولة رخوة، ثم قال إن نمط الحياة تغير فى مصر بما يشابه لبنان فى السنوات الأولى لحكم السادات، وبعد ثلاثين عاما أصبح الوضع فى مصر يكاد بماثل نظيره فى لبنان تماما، مستدلا على هذا بأن الزلزال الذى شهدته مصر فى 1992 والذى تعتبره اليابان «مداعبة» كاد يسقط الدولة المصرية كلها من فرط رخاوتها، وما حدث فى هذا العقد من انتشار الإرهاب والتطاول على الأقباط واستهداف السياح، ثم حكم «أمين» بأن بداية الدولة الرخوة كانت منذ 35 عاما، وبحسبة بسيطة نتبين أنه يؤرخ لرخاوة الدولة المصرية ابتداء من حرب أكتوبر، وهى الحرب الوحيدة التى انتصر فيها جيش نظامى يتبع مؤسسة الدولة على الجيش الصهيونى، فكيف يكون الانتصار أول طريق الانحدار؟
على الصعيد الخارجى بدأت الرخاوة كما يقول الكاتب منذ عصر السادات أيضا واستشرت فى عهد مبارك، منزها عصر عبدالناصر من هذه الصفة، فمن وجهة نظره أن ناصر وازن فى علاقته بين أمريكا والاتحاد السوفيتى، أما من بعده فقد انسحقوا أمام النفوذ الأمريكى والإسرائيلى، ولهذا أتساءل هل وازن عبدالناصر فعلا فى علاقاته بين أمريكا والاتحاد السوفيتى، أم انسحق هو الآخر مع الكيان الروسى وفتح لهم الأسواق، والمعسكرات، ونفذ أوامرهم التى أدت فى النهاية إلى هزيمة 67 المؤلمة؟
أما على الصعيد العربى فقد برهن أمين على قوة دولة عبدالناصر بأنها أنجزت الوحدة مع سوريا على الرغم من وجود معارضات داخلية وخارجية وكان لابد لهذه الدولة أن تواجه خصومها الخارجيين والداخليين بيد من حديد، وعلى حد قوله فإن «كانت يد النظام فى الستينيات حديدية بالفعل».
هنا تسقط ورقة التوت الأخيرة عن هذا الكتاب، فعلى الرغم من الإيحاء بالحيادية والموضوعية والتمسك بـ«اللافتات» العلمية والنظرية، إلا أن امتداح الكاتب لليد الحديدية فى عهد عبدالناصر وذمها فى العهود التالية يبدو أمرا محيرا ومربكا، فالكاتب يرى فى اليد الحديدية الباطشة المستبدة علامة على القوة، فى حين أنه يعيب فى أكثر من موضع على الاعتقالات التى تمت بعد ناصر، ما يطرح التساؤل حول المعيار الذى يطلق من خلاله الكاتب أحكامه، أم أن الكاتب يتخذ من عبدالناصر القدوة والمثال مهما ارتكب من خطايا، وأفسد فى الأرض، واستبد بشعبه؟ فلو طبقنا نفس المقياس الذى حاكم الكاتب به عصرى السادات ومبارك على العصر الناصرى، فسوف تكون النتيجة أفدح: أفليس فساد المؤسسة العسكرية فى عهد ناصر وانغماس قائدها فى الملذات وتحكم الأصاغر فيها دليل رخاوة الدولة؟ ثم أيهما أدل على رخاوة الدولة: انهيار العمارات والبيوت كما حدث فى 92 أم انهيار دولة بأكملها كما حدث فى67؟ ثم أليس عهد عبدالناصر هو أول العصور التى شهدت الاحتقانات الطائفية؟
أوليس غياب السلطة التشريعية، وذبح القضاة وإقصاء أساتذة الجامعات دليل فساد ورخاوة الدولة؟ وكيف تكون دولة ناصر التى لم تنتصر فى حرب واحدة دولة قوية؟ وتكون دولة السادات صاحبة أكبر وأهم انتصار دولة رخوة؟ أم أن فساد دولة ناصر حلال وفساد ما بعده حرام؟ وهل يجوز أن يظهر الفساد فجأة فى عصر السادات أم أن لهذا الفساد جذورا امتدت وتنامت فيما قبله؟ وهل الدولة القوية من وجهة نظر الأستاذ أمين هى التى يقوم قائدها بالظلم بالجملة عن طريق هدم أصول الدولة المدنية، والعدل بالقطاعى عن طريق الخطب الساخنة الفردية والتفاعل مع المظالم؟
بالطبع أنا لم أقصد بهذه الأسئلة رفع الظلم عن أحد أو إلصاقه بآخر، فبالكتاب الكثير من النتائج التى ترقى لمرتبة الحقائق، لكن ما ننتظره من مفكرينا الكبار أن ينظروا للظرف التاريخى بكل ملابساته، والكشف عن جذور الظواهر الاجتماعية وتجلياتها ونتائجها ومستقبلها، وليس الاجتهاد فى عرض أنصاف الحقائق التى لم تعد تغنى ولا تسمن.