فى الأسبوع الماضى حدثتكم عن السيرة الجديدة التى وضعها الشعراء المحدثون للشيطان، هذا الكائن المخيف المثير الذى كان رمزاً للشر المطلق، فأصبح على أيدى الشعراء المحدثين رمزاً للثورة والتمرد والتحدى، وأخذ من الإنسان بقدر ما أعطاه.
وفى هذا الأسبوع أواصل حديثى لنرى معاً كيف تعرض الشعراء لهذا الرمز الدينى، وكيف أعطوا أنفسهم الحق فى تأويله وتفسيره فى قصائد جديدة جمعت بين فنهم العصرى ووعيهم الثورى وإيمانهم العميق الراسخ بحرية التفكير والتعبير والإبداع، ومن هذا المنطلق تحدثوا عن الشيطان، ونظروا إليه بعيون عصرهم الذى حطم فيه الإنسان أغلاله، وثار على مضطهديه، فرأوا فى الشيطان ما يمكن أن يشبه العصر ويرمز إليه.
لقد كان فى سيرته القديمة عدواً للإنسان يدفعه للخطأ ويضله عن سواء السبيل ويلقى به فى المهالك، فأصبح هو نفسه إنساناً أو قريباً من الإنسان يفتن بالنساء الجميلات، ويقع فى الحب، وينجب ملائكة تقود البشر فى طريق الحرية، وهذا هو الفرق بين الشيطان القديم والشيطان الجديد.
الشيطان القديم شيطان كلاسيكى، شرير صريح، كاره وفاسق ومنحط كما يصفه الدكتور محمد عنانى فى ترجمته القيمة لملحمة ملتون «الفردوس المفقود»، وربما تذكر مجده القديم فى الملأ الأعلى عندما كان قريباً من الخالق وهاله ما صار إليه فسحقه ألم مأساوى عنيف.
أما الشيطان الجديد فهو شيطان رومانتيكى غنائى، ظهر فى العصر الرومانتيكى على أيدى الشعراء الرومانتيكيين فى اللغات المختلفة ليرمز إلى الافتتان بالجمال، ويتزعم نضال البشر فى سبيل الحرية، وتلك هى صورته الجديدة كما نراها عند الشعراء الأوروبيين من أمثال فيكتور هيجو، ووليم بليك، وليرمونتوف، فكيف نرى صورة الشيطان عند الشعراء العرب من أمثال العقاد، وشفيق المعلوف، وأمل دنقل؟.
لابد أن نعود إلى الوراء لنلقى نظرة على الشيطان فى الشعر العربى القديم لنعرف ما الذى ورثناه من تراثنا القومى وما الذى اقتبسناه من الشعراء الأجانب المعاصرين.
وأول ما نلاحظه أن الشيطان فى الشعر العربى القديم هو رسول الشعر، وهو حامل الوحى من مصدره فى وادى عبقر إلى الشعراء الذين يتبع كلاً منهم شيطان خاص به، فأول شرط من شروط الشعر الجيد أن يكون إبداعاً غير مسبوق وخلقاً جديداً لا ينقل عن غيره ولا يحاكيه.
هكذا تعددت شياطين الشعراء وعرفنا هذه الشياطين بأسمائها، كما عرفنا الشعراء بأسمائهم، مسحل شيطان الأعشى، وجهنام شيطان ابن قطين، وعمرو شيطان المخبل، وسنقناق شيطان بشار بن برد.
وكان الأعشى يحس وهو ينظم قصيدته بأنه ليس وحده الذى يقترح الكلام ويصطاد القوافى، وإنما يشاركه شيطانه:
شريكان فيما بيننا من هوادة
صفيان إنسى وجن موفق
يقول فلا أعيا بقول يقوله
كفانى لا عى ولا هو أخرق
وشياطين الشعراء لم يكونوا كلهم ذكورا، وإنما كانت فيهم الذكور والإناث:
إنى وكل شاعر من البشر
شيطانة أنثى، وشيطانى ذكر!
والشاعر فى هذا البيت، وهو أبوالنجم، يميز بين شعر قوى وشعر ضعيف، والشاعر القوى فى نظره لا يكون شيطانه إلا ذكراً، ومن هنا وصفهم للشاعر المجيد بالفحولة، أما الشاعر الضعيف فشيطانه أو شيطانته أنثى، وفى هذا يختلف العرب القدماء عن اليونانيين القدماء الذين كانوا يرون أن الفتيات الجميلات هن وحدهن رسولات الوحى اللائى يلهمن الشعراء والفنانين روائع الأعمال، وقد سمى اليونانيون كلا من هؤلاء الملهمات «موز»، MUSE، ومن هذا الاسم اشتقوا اسم الموسيقى Musique، ومنه أيضاً اشتق اسم المتحف Muse، وباستطاعتنا أن نقول إن القوة والمتانة والإحكام هى القيم الأساسية للفن عند العرب، أما عند اليونانيين فالجمال واللطف والفتنة هى القيم الأساسية.
والشعراء العرب يتبادلون المواقع مع الشياطين، مرة يكون الشاعر هو التابع الذى يسير وراء الشيطان وينتظر وحيه، وتلك هى المرحلة التى يتحسس فيها الشاعر طريقه حتى ينضج، فعندئذ يتغير مكانه ويصبح هو السابق المتقدم والشيطان حارسا تابعا:
وكنت فتى من جند إبليس فارتقت
بى الحال حتى صار إبليس من جندى!
والحقيقة أن إبليس فى هذا البيت ليس أستاذ فن فحسب، وإنما هو أيضاً أستاذ فتك وخلاعة، ومن هنا سماه الشاعر إبليس، فإبليس هنا هو رسول الشر والشعر معاً.
والشعر عند العرب والفن عامة مرتبط بالشر أو بالنوازع والأشواق والحاجات والرغبات التى يمكن أن تقود الإنسان إلى الشر، الحب الذى يمكن أن يصل إلى حد الجنون، والحرية التى لا يستطيع معها الإنسان أن يمتثل لكل ما تفرضه عليه الجماعة من أعراف وقوانين، والإبداع الذى لابد فيه من الانطلاق والمخالفة.
وفى المجتمع البدوى حيث يذوب الفرد فى القبيلة، ويلتزم بقوانينها وإلا صار خليعاً طريداً مهدر الدم معرضاً للهلاك ، فى هذا المجتمع تصبح هذه النزعات وهذه الحاجات خطراً داهماً وشراً مستطيراً، وإذا كان الشعر هو ثمرة الحب والإبداع والحرية فالشعر شر كما كان يرى العرب القدماء، ويظهر أنه مازال شراً بالنسبة للمتطرفين والمتزمتين الذين يعيشون معنا فى هذه الأيام، وفى هذا يقول الأصمعى عباراته المشهورة عن طرق الشعر الشريرة «طريق الشعر إذا أدخلته فى باب الخير لان، ألا ترى أن حسان بن ثابت كان علا فى الجاهلية والإسلام فلما دخل شعره فى باب الخير من مراثى النبى «صلى الله عليه وسلم»، وحمزة، وجعفر رضوان الله عليهم وغيرهم، لان شعره، وطريق الشعر هو طريق شعر الفحول مثل امرئ القيس، وزهير، والنابغة من صفات الديار والرحل والهجاء والمديح والتشبيه بالنساء وصفة الخمر والخيل والحروب والافتخار فإذا أدخلته فى باب الخير لان.
وما أنت يا إبليس بالمرء أبتغى
رضاهُ، ولا يقتادنى بزمام!