علاقة وثيقة تربط الحب بالكره، الحياة بالموت، البسمة بالدمعة، الشوق بالجفاء، السعادة بالحزن، التواضع بالغرور، الراحة بالألم، وما بين هذه المتناقضات يقف الإنسان مشدودا بخيط وهمى سميك، يتقلب من النقيض إلى النقيض، ولا يهدأ إلى حال.
متناقضات عدة يمثلها الإنسان فتتمثله، لا يتحقق وجوده الحقيقى إلا بها، ولا يستقيم حاله إلا عليها، خطوات بعد خطوات يقطعها الإنسان، كل خطوة تأخذ من عمره وقوته ورصيده فى الحياة، التى يمضيها فى التأرجح ما بين النقيضين، الأنفس البسيطة وحدها هى التى تشعر بقيمة الفرح أو وطأة الحزن، أما العارفون الخبراء بالنفس الإنسانية وتقلباتها فلا يرون فى هذه الحالات تناقضا، يدركون أنها حالات تتكامل فيما بينها، لتشكل معنى وجود الإنسان وكينونته، لذا نجد المتصوفة على اختلاف أسمائهم ومشاربهم وجنسياتهم مدركين لهذه الحقيقة الراسخة، فنرى من يتعبد بالغوص فى النار مبتسما وسعيدا، ونرى من يمنع عن نفسه النوم والطعام والشهوة، ونرى من ينام على الصخر ولا يلبس إلا الخيش، ونسمع الحلاج صائحا «اقتلونى يا ثقاتى إن فى موتى حياتى وحياتى فى مماتى ومماتى فى حياتى» ليؤكد إدراكه بتساوى الحياة والموت، فعند العارفين لا فرق بين الأضداد، لذا كان إعجابى بتجسيد الممثل الأمريكى «ويل سميث» لشخصية «بن توماس» التى كتبت عنها العدد الماضى كبيرا، لأنه استطاع أن يصل بالشخصية إلى حالة نادرة من الصفاء والعرفانية قد لا تتأتى لصوفى عتيد، وذكرنى بميراث المتصوفة الكبير فى الاستمتاع بكل الحالات الإنسانية على تناقضها وتنافرها حتى وإن كانت مؤلمة وقاسية، فكان «بن» يجتهد ويجتهد فى إيلام نفسه وكأنه يضعها على النار لتتطهر، وفى العمليات التى أجراها ليستقطع من جسده ويهب غيره كان يجريها بلا مخدر، ليصل الألم إلى مداه، ومن ثم يتلاشى وكأنه لم يكن، ليضع مكانه ابتسامة الرضا الخافتة.
فرق كبير بين حالة استعذاب الألم الصوفى وحالة التبلد التى استبدت بالكثيرين، فلم يعودوا يتألمون ولا يشعرون، فعدم الشكوى من الألم عند الأصفياء لا تعنى عدم الشعور، لكنها تعنى الرضا والاكتمال والاستغناء، لكن حالة «التبلد» تعنى الموت بأقسى معانيه وأشدها تيبسا، فالسيد «بن» على سبيل المثال كان يتألم بشدة، لكنه الألم المكتوم، وكذلك كان يفرح بشدة، لكنه الفرح الموءود، وكأنه يمثل معنى الآية القرآنية الكريمة التى تقول «لكى لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم» إنها حالة من تعادل الأحاسيس، حالة من الزهد العام، تصيب المطمئنين الآمنين الذين لا تروعهم حادثة، ولا تغلبهم نائبة، هم فى الأبدية يسبحون، وعلى آلامهم يتعالون.
كأن شيئا فى الناموس الإنسانى يدلنا على حالة التعادلية هذه، التى لا تظهر إلا فى أعمق الحالات وأشدها تعقيدا، فى الأزمات الحالكة القاسية، أو فى الأوقات البهيجة المستبدة التى تتملك الإنسان ويشعر بها تدب فى جميع أوصاله، إن أردت التيقن من هذا الادعاء، تأمل هاتين الحالتين: الأولى شخص حدث له شىء فرًّحه فسالت على وجنتيه «دموع الفرح»، وآخر حدث له خطب عظيم فضحك بهستيرية، واسأل نفسك كيف يكون الفرح دامعا، وكيف يكون الحزن ضاحكا، لتعرف أن فى النفس الإنسانية أعماقا لم نستطع بعد الوصول إليها.
يدلنا تاريخ العارفين الأصفياء على أنه «للأسف» لا يمكن الوصول إلى هذه الحالة النقية عن طريق الألم ثم التسامى عليه، فبشكل ما قد يصبح الألم دليلا على الحياة، والفرق بين «الجلد الميت» و«الجلد الحى» هو أن الأول يشعر بالألم بينما الآخر لو قطعت منه فلن تشعر بشىء، وكلما زاد الألم وزادت القدرة على الإحساس به تحقق معنى الإنسانية بشكلها السوى الكامل الفياض، وأقسى مراحل الشعور هو الإحساس بآلام الغير وكأنها آلامك أنت، ورؤية دموع الغير وكأنها تنسال على وجهك أنت، وقتها ستجد يد الخالق العظيم تربت على كتفيك، لاقتسامك الآلام مع عباده الأصفياء، فالألم يصهر النفس، ويجعلها أقرب ما تكون إلى الله، فإن رأيت متألما فلا تجزع منه ولا تبتعد، فها هنا تسكن يد الله، فاقترب منها ولا تخف.