كيف بالله لا أفرحُ به، ولا أراهنُ عليه؟ مثلما كنّا، صغارًا، نراهنُ على سانت كلوز يأتى لنا بأحلامنا الصغيرة، وألعابنا، التى يوهمنا آباؤنا أنها لن تتحقق، لنجدها وقد تحققت جميعُها فى ليلةٍ بعينها.
الفارقُ، ربما، أن سانت كلوز يفعل ولا يقول، وهو ما أرجوه منه؛ أن يفعل ما قال، وألا يكتفى بالقول، والفارق الآخر أن سانت كلوز يحقق أحلامَنا ونحن نيامٌ، بينما يجبُ أن نعملَ بجدّ وألا ننام لكى يتحققَ ما وُعدنا به اليومَ، فى خطابه التاريخى من أرض مصر.
فرحتُ بانتخابه رئيسًا لأميركا، منذ اليوم الأول. صحيحٌ أننى كنتُ أُمنّى النفسَ بفوز هيلارى كلينتون، ليس إلا لسبب خبيث فى نفسى النزّاعة إلى تأنيث العالم، لكننى بالفعل فرحتُ بأوباما على مستويات عدّة: منها لونُ بشرته، الذى يحاكى لوننا الطميىّ الفاتن، وخلاياه التى يسرى فيها عِرْقُ السُّمرةِ الأفريقيةِ، بكل إرثها وميراثها الساحر. ولكن الأهمَّ من كل ما سبق، والأخطرَ، أنه شابٌ من جيلى.
كنتُ أفرح كطفلة حينما يتولى أحدٌ من جيلى رئاسة تحرير جريدة أو مجلة، فرحت بفارس خضر رئيسًا لمجلة «الشعر»، وبطارق الطاهر رئيسًا لمجلة «الثقافة الجديدة»، وبخالد صلاح، رئيسًا لجريدة «اليوم السابع»، كأنما هذا إعلانٌ جَمعىّ بأننا، كجيل، قد نضجنا واستأهلنا أن نقولَ كلمتَنا، دون وصاية «الكبار»، الذين يتقنون قانونَ «انظرْ أمامكَ بغضب!»، إذا ما اعتبرنا أن «الأمام» هو المستقبلُ والشبابُ، فى صيغة عكسية لمسرحية جون أوزبورن «انظرْ خلفَكَ بغضب»، التى كتبها فى نهاية الخمسينيات الماضية، وما استتبعها من مدارس نقدية «عدمية» تنادى بقتل «الأب»، بمعنى دهس التراث القديم على مجمله، لأنه لم يورثنا إلا السَّلفية العقيمة والتأخر، ثم محاولة بناءِ تراثٍ جديد يصنعُه الراهنُ بأقلامٍ ومعاولَ ومباضعَ تخصُّ أبناءَ هذا الراهن.
لم أحبّ هذه النظريةَ يومًا. بل اتخذتُ الموقفَ الضدَّ المعاندَ، وأوغلتُ فى التراث بنهم الجائع، موقنةً أننى لن أفهمَ لحظتى ما لم أقف على اللحظة السابقة. وكما لم أحب النظرَ إلى الخلف بغضبٍ، يحقُّ لى أن أحنقَ على النظر إلى الأمام بغضبٍ، ليس وحسب لأننى بعضُ هذا «الأمام»، بل لأن الفكرة ذاتها عنصريةٌ ومصادِرةٌ على الجديد.
لا شكَّ أن النجاحَ مواكبٌ لتوسُّل الدماء الجديدة، أيًّا ما شابَ هذه الدماءَ الجديدةَ من جنون ونزَق ولا مألوفية. ذاك أن كلَّ فكر عظيم، كان فى بدايته محضَ جنون وغرابة، ثم سرعان ما تَثْبُت أقدامُه، إذا ما كان فكرًا حقيقيًّا وأصيلا. ليس إلا دماءً جديدة تخصُّ شابًا مثل باراك أوباما قادرةٌ على الوصول إلى تلك الفكرة البسيطة والعميقة فى آن: أننا لسنا إلا مجموعة من البشر يتشاركون هذا العالمَ فى لحظة قصيرة من عمر الزمان، وعلينا، من ثَمَّ، أن نحيا فى سلام. والسلام لن يقوم إلا على حُسن قراءة الآخر، ثم قبوله، وإن اختلف معنا.
ليس إلا دماءً جديدة تنادى بأن للمرأة الحريةَ الكاملة فى أن تلبس ما تشاء، تغطى رأسها إن أرادت، شريطةَ أن يكون هذا الغطاءُ خيارَها هى، وليس خيارَ الأب أو الأخ أو الابن أو المجتمع. ليس إلا دماءً جديدة مَن ترى فى اختلاف العقائد ثراءً يجب أن نحافظ عليه، وليس تطاحنًا وقذفًا واقتتالاً. «أنا صحٌّ وأنت بالتالى خطأ»، هذا خطابُ السَّلف النافى الآخر، أما الدمُ الجديد فلا يجدُ غرابةً فى أن يكون كلانا صحًّا، ولا مدعاة من ثَمَّ لمجرد مناقشة العقيدة.
فالأديان كلها لله الأكبر الذى خلق الكون لكل أبنائه، ليفكروا ويعمّروا ويتعايشوا ويحبوا، لا ليقتتلوا ويتناحروا ويهدموا. أما الأوطانُ فلكل الناس، مهما اختلفت ألوانهم وعقائدهم. ليس إلا دماءً جديدة ترى أن التطاحن بين أبناء العقائد المختلفة عبثٌ، فما بالنا بالتطاحن بين أبناء العقيدة الواحدة من الملل المختلفة مثلما بين السُّنة والشيعة! ليس إلا دمًا جديدًا يقرر أنه من العبث أن تفرض دولةٌ ما نظامًا سياسيًّا على دولة ما، أيًّا ما كان مركزُ الدولة الأولى أو الثانية.
وأنْ ليس من ديمقراطية واحدة، بل أن الديمقراطيات عدة، مفتاحُها الرئيس هو راحة المواطن وأمنه ورفاهيته، التى إن تحققت، فذاك دليلٌ دامغٌ، بحقه الخاص، على أنها ديمقراطيةٌ ناجحة. وليس إلا دماءً جديدة تقرُّ، باعتراف المتطهرين، أن غزو أفغانستان كان حتمًا وردةَ فعل لما فعلته طالبان والقاعدة من تقتيل ثلاثة آلاف إنسان من خلق الله من أمريكان وغير أمريكان، بينما غزو العراق لم يكن إلا خيارًا سياسيا أخرق أفرزه عقلٌ غير ناضج حَلُم بسيادة العالم، ذات طيش.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة