إذا أردنا الآن أن نرسم صورة للشيطان كما وصفه لنا كتابنا وشعراؤنا المعاصرون، كيف تكون صورته؟
ونحن نعرف كيف كانت صورة الشيطان فى العصور الماضية، كائن وسط بين الإنسان والحيوان، أشبه ما يكون بالساتير اليونانى، وهو كائن خرافى نصفه الأعلى إنسان، والأسفل عنز بذيله وظلفه. وكان اليونانيون القدماء يحتفلون فى الربيع بعودة ديونيزوس إله الخصب والخمر والحصاد للحياة، كما كانت الأمم القديمة كلها تفعل. وفى هذه الاحتفالات كان اليونانيون يعبرون عن فرحهم، ويطلقون فيها العنان لرغباتهم، فيشربون، ويرقصون، ويغنون، وقد ارتدوا جلد العنز الذى يرمز عندهم للفحولة ويعيدهم للحياة الطبيعية.
لكن الشيطان القديم يختلف عن الساتير وإن شابهه.. فالساتير كان يرمز للإقبال على الحياة والفرح بها والانغماس فى ملذاتها.. أما الشيطان فيرمز للخطيئة والشر والجحود والحيوانية. ومن هنا صورته الكريهة الشنيعة التى نعرفها بذيله الأفعوانى، وحوافره، ونظرته اللئيمة، وابتسامته الفاجرة، وقرنيه القائمين!
هذه الصورة تغيرت فى العصور الحديثة التى تحرر فيها البشر من حكم الطغاة الذين استخدموا الدين واستخدموا رجاله الذين تاجروا به فى قهر الناس واستعبادهم واستغلالهم، زاعمين أنهم ظل الله على الأرض. هذا التحالف الذى قامت عليه النظم السياسية فى العصور المظلمة أدى بالمثقفين إلى إعادة النظر فى الأفكار والرموز والصور الدينية التى كانت شائعة فى تلك العصور، ومنها صورة الشيطان الذى شفعت له عند المثقفين كراهية رجال الدين له.
لقد رأوه ضحية لهم، واكتشفوا فيه جانبا جديرا بأن يتعاطفوا معه، وهو تمرده واستعداده للتضحية بمكانه فى السماء إيثارا للحرية التى اعتنقها البشر فى هذا العصر الحديث. ومن هنا اقترب الشيطان من الإنسان، كما اقترب الإنسان من الشيطان، ورسم له صورة جديدة تختلف عن صورته القديمة اختلافا جوهريا.
وقد حدثتكم من قبل عن شيطان الشاعر الفرنسى ڤيكتور هيجو الذى غفر الله له ذنوبه وعفا عنه. وعن شيطان الشاعر الروسى ليرمونتوف الذى وقع فى الحب. وعن شياطين الشاعر اللبنانى شفيق معلوف التى جعلها رموزا لما يعتمل فى نفوسنا من عواطف وأحاسيس، ورغبات وشهوات. واليوم أواصل فأحدثكم عن الشيطان كما نراه فى أعمال بعض الكتاب والشعراء المصريين وأولهم عباس محمود العقاد الذى خص الشيطان بعدد من أعماله الشعرية والنثرية، ومنح كثيرا من اهتمامه منذ كان صبيا يرى زملاءه فى المدرسة يتشيطنون فيحسدهم ويتمنى أن يتشيطن مثلهم. يقول فى سيرته الذاتية التى سماها «أنا»: «لم أكن من أبطال الشيطنة المدرسية، ولكنى كنت أستطيبها وأشجع عليها حين تقع فى موقعها».
وفى المجموعة الشعرية الأولى للعقاد «يقظة الصباح» التى أصدرها عام 1916 قصيدة سماها «سباق الشياطين» يصور فيها كيف دعا إبليس جنده إلى سباق يكون للفائز فيه الحق فى أن يتسلم مقاليد الجحيم، فلبى دعوته شياطين الكبرياء، والحسد، واليأس، والندم، والهوى، والكسل، والرياء، التى تبارت فى الحديث عما تأتى من شرور فكان الفوز للرياء الذى غلب شره كل شر.
لكن العقاد فى قصيدته الأولى عن الشيطان لم يقدم لنا إلا صورته القديمة التى تحرر منها حين انخرط فى الحركة الوطنية المصرية بقيادة سعد زغلول، وجند قلمه للدفاع عن الدستور والديمقراطية، وواجه طغيان الملك فؤاد الذى تحالف مع رجال الأزهر، وسجن بتهمة العيب فى الذات الملكية. عندئذ عرف العقاد معنى التمرد، واكتشف الشيطان فى صورته الجديدة، ونظم فيه قصيدته الطويلة «ترجمة شيطان» التى جعله فيها قريبا من البشر، يتمتع بما يتمتعون به من فضائل، ويعانى ما يعانونه من ضعف ونقيصة.
شيطان العقاد يحب الخمر والنساء، ويطرب للموسيقى والغناء، بل هو يعرف العفة، ويجرب الهوى العذرى، ويفكر كما يفكر الرجل العاقل الحكيم فلا يجد فرقا جوهريا بين فاجر وناسك، ولهذا يأنف من عمله ويكفر بالشر الذى كان وليا من أوليائه.
أَلْفُ جيل بعد ألفٍ غبرت
صاحبَ الآباء فيها والبنين
ورأى منها فنونا ورأت
منه فى صحبته أىَّ فنون
أتلفته مثلما أتلفَها
عجبا! لا بل علامَ العجبُ؟
أترى الشيطان يدرى ضعفَها
وهو من ذاك برئ أجنبُ؟
فاشتهى الخمر ورنات المثانى
وأحبَّ الغيد عُذرىّ الهوى!
لُعبا ينهل آنا بعد آنِ
نُهلاً منهن ينعشن القُوى
أنِفَ الشيطان من فتنتِهِ
أُمما يأنف من إهلاكها
ورأى الفاجر من زُمرتِهِ
كعفيف الذيل من نساكها
مذ رأى الشيطان عقبى شرِه
كفر المسكين بالشر العقيم
وأراها بدعة من كُفرِه
دونها الكفران بالخير العميم
هكذا أسئم الشيطان حياة الشر وكفر به، فتاب الله عليه وأدخله الجنة، وحفه فيها بالحور العين والملائكة المقربين. غير أنه سئم أيضا عيشة النعيم، ومل العبادة والتسبيح فتطلع إلى مقام الإلهية، لأنه لا يستطيع أن يرى الكمال الإلهى ولا يطلبه، ثم لا يستطيع أن يطلبه ويصبر على الحرمان منه، فجهر بالعصيان فى الجنة، ومسخه الله حجرا فهو ما يبرح يفتن العقول بجمال التماثيل وآيات الفنون.
وللعقاد كتاب عن «إبليس» ترجم فيه للشيطان، وتتبع أخباره وأسماءه وصوره فى العقائد والديانات والآداب المختلفة منذ كان الشيطان عند قدماء المصريين إلهًا للظلام والشر يسمى «أبيب» ويمثل فى صورة حية تسعى إلى أن اتخذ صورته المعروفة فى الديانات السماوية.
ولا ننسى مجموعة القصائد التى اختارها العقاد من الشعر العربى وترجمها من الشعر الأجنبى وقدمها لقرائه بعنوان: «عرائس وشياطين» إشارة إلى العرائس اللائى يوحين للشعراء الأجانب، والشياطين التى توحى للشعراء العرب، وفيها قصيدة للشاعر السعدى الشرازى شاعر الفرس يرسم فيها للشيطان صورة رائعة:
رأيت الشيطان فى حلم فيا عجبا لما رأيت!
رأيته على غير ما وهمت من صوره الشنعاء التى تخيف من ينظر إليها. قامة كفرع البانة. عينان كأعين الحور. طلعة كأنها تضىء بأشعة النعيم.
قاربته وسألت: أحقا أنت الشيطان المريد؟
فتحرك الحلم الساحر، وترفع له صوت فخور. ولاحت على طلعته كبرياء، وقال لا تصدق يا صاح أنه مثالى ذاك الذى رأيت فيما يمثلون، فإن الريشة التى ترسمنى تجرى بها يد عدو وحسود سلبتهم السماء فسلبونى الجمال!
ويظهر أن الاهتمام بالشيطان كان اهتماما مشتركا تجاوز العقاد إلى عدد كبير من الكتاب والشعراء المصريين والعرب منهم عبدالرحمن شكرى الذى ألف كتابا سماه «حديث إبليس» سخر فيه من السخرية - بلسان إبليس - من نقائص البشر ورذائلهم، حتى لقد نصحهم أن يزوجوا بناتهم للحمير والكلاب والقرود، لكى يكتسب نسلهم بالوراثة من حميد صفات هذه الحيوانات!
أما توفيق الحكيم فقد كتب حول الشيطان قصته التى سماها «الشهيد» وفيها يجعل الشيطان ضحية لقدر لا يستطيع منه فكاكا.
السؤال الأخير: كيف نقيم هذه الأعمال؟ وبأى ميزان نزنها؟ بميزان الفن؟ أم بميزان الدين؟!