يسرى فودة

الإيرانيون يصنعون التاريخ مرةً أخرى ونحن نتفرج

الجمعة، 10 يوليو 2009 12:04 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
معظم الحكومات العربية لا تستريح للجمهورية الإسلامية الإيرانية، لكنها فى الوقت نفسه لا تستريح لفكرة خلعها عن طريق صحوة شعبية يمكن لأثرها أن يقفز فوق الحدود، وهو ما يمكن أن يساهم فى تفسير رد فعل السيد جمال مبارك عندما فوجئ بسؤال حول رأيه فى تداعيات الانتخابات الإيرانية، فكانت إجابته العفوية ابتسامة ونفساً عميقاً وكلمتين: «سؤال سخن». وبالمقابل نجد معظم الشعوب العربية مفتونة بنموذج أتى قبل ثلاثين عاماً على ظهر أشرطة الكاسيت وبين يديه مصحف كى يقُضّ حتى هذه اللحظة مضاجع الإسرائيليين والأمريكان والحكومات العربية، لكنها فى الوقت نفسه لا تتمنى أن تعيش تحت رحمة نظام عقائدى مماثل، يأكل ما بقى لدينا من حريات مدنية ويجرنا إلى الوراء باسم المقاومة والصمود. هكذا وحّدتنا إيران مع حكامنا.. ولكن فقط فى البلبلة وقلة الحيلة.

يبدو أن الإيرانيين طوروا خلال العقود الثلاثة الأخيرة عادة تلفت النظر فى علاقتهم بالأمريكان: كلما انتخب هؤلاء رئيساً معتدلاً ظهر فى طهران رئيس يميل هو أيضاً إلى الاعتدال، وكلما انتخبوا رئيساً متشدداً ظهر فى طهران رئيس أكثر تشدداً. ويبدو أيضاً إذا صحت مزاعم المرشحين الخاسرين فى الانتخابات أن آيات الله المحافظين فى الجمهورية الإسلامية قرروا فجأةً كسر هذه العادة.

الحسابات الأولية تشير إلى أن نهج الرئيس الأمريكى المعتدل، باراك أوباما، أفزع المرشد الأعلى فى الجمهورية الإسلامية بصورة تشبه تلك التى وضع بها خطابه فى القاهرة رئيس الوزراء الإسرائيلى فى موقف المدافع الملتصق ظهره بالحائط، سوى أن الحالة الإيرانية أكثر تعقيداً. فبغض النظر عن التصريحات الرسمية، يدرك الإيرانيون أن أوباما، صاحب الشعبية المرعبة، يسير فى طريق من شأنها فى النهاية إضعاف الموقف الإيرانى داخلياً وإقليمياً وعالمياً. ربما كان الرئيس الأمريكى الجديد المختلف على علم بما يمكن لسياسة جديدة مختلفة أن تُحدثه داخل إيران وربما لم يكن، وحتى تتأكد محاولة جادة للتحليل الموضوعى من ذلك، لابد من منحه حق شبهة العلم إلى أن يثبت عكس ذلك. لهذا المدخل لدى المرشد الأعلى فى الجمهورية الإسلامية وصف أكثر بساطة: «مؤامرة».

فأولاً، يقع الإيرانيون فى حيرة بين رغبتهم فى إبعاد الفيل الأمريكى عن حدودهم مع العراق، وبين خسارتهم ورقة ضغط شديدة التأثير عندما يحدث هذا. يدرك الأمريكيون أن محاشمهم ستبقى فى أيدى رعاة الجمهورية الإسلامية طالما بقى جنودهم فى العراق، وهو سبب من أسباب أخرى يدعو الرئيس الأمريكى إلى ضرورة الانسحاب فى أقرب فرصة ممكنة، دون حتى أن يترك قاعدة عسكرية واحدة وراءه مثلما أعلن فى القاهرة.

وهو أيضاً سبب من بين أسباب أخرى يدعو مصادر مقربة من مطابخ الاستخبارات إلى استنتاج أن واشنطن لا تستطيع أن تسمح لتل أبيب إذا سمحت لها بتوجيه ضربة جراحية إلى البرنامج النووى الإيرانى قبل اكتمال عملية الانسحاب. وهذا بدوره هو أقوى الأسباب الحقيقية وراء عصبية رئيس الوزراء الإسرائيلى تجاه اليوم وقلق المرشد الأعلى فى الجمهورية الإسلامية من الغد.

وثانياً، مثلما تأثر تنظيم القاعدة سلباً برحيل بوش وتشينى ورامسفيلد، استشعر المحافظون فى إيران بوادر خطر جديد، يتمثل فى هدوء الجبهة الخارجية بعد تبنى أوباما نهجاً جديداً يعمد على الأقل إلى تأجيل المواجهة فى إطار إعادة ترتيب الأولويات. ولأن بعض القواعد فى السياسة لا تتغير باختلاف الأزمنة أو الأمكنة، فقد أدركت طهران أن من شأن هدوء الجبهة الخارجية تحفيز جدل داخلى ربما تكون فى غنى عنه.

من أجل هذا لم يكن رد فعلها على خطاب أوباما التصالحى بارداً وحسب بل هجوماً حاداً على نفق أمريكى جديد لم تكن القيادة الإيرانية مستعدة لوضع قدميها على أعتابه بما يتطلبه هذا من تطوير آلة مختلفة تناسب دهليزاً مختلفاً لا تعرف تماماً إلى أين سيؤدى فى النهاية.

ثالثاً، تجد السياسة الخارجية الإيرانية اليوم نفسها ضحية نجاحها خلال السنوات القليلة الماضية فى تعاملها بمهارة مع معطيات الموقفين الإقليمى والعالمى. وقد بلغ هذا النجاح ذروته، ليس فقط فى قدرة طهران على امتصاص هوجة الإدارة الأمريكية السابقة، بل أيضاً فى تحويل هذه الهوجة إلى طاقة تخدم أهدافها.

فمن ناحية استخدمت طهران ذلك فى تهميش الأصوات المعتدلة والإصلاحية داخلياً أمام خطر خارجى أهوج. ومن ناحية ثانية رفعت سقف تطلعات حلفائها التقليديين فى المنطقة، وعلى رأسهم حزب الله، وأرسلت سيلاً من الرسائل القوية ليس فقط إلى إسرائيل، بل أيضاً إلى مركز القوة العربية فى القاهرة والرياض المتحالفتين مع واشنطن.

ومن ناحية ثالثة أدارت الملف النووى فى ظل هذه الظروف بمزيج من الترهيب والترغيب بأسلوب يصلح أن يكون محل دراسة لطلاب مبادئ علم السياسة، لكنه فى الوقت نفسه أسلوب عجز عن تطوير نفسه أمام تراجع الخطر الخارجى الأهوج.

رابعاً، رغم أنهم تدربوا لسنوات طويلة على احتواء الخطر الداخلى المتمثل فى دعوات الإصلاح والانفتاح والتحرر المدنى بأساليب مختلفة ضمنت بقاء غطاء محكم فوق فوهة البئر حتى صارت تلك ممارسة روتينية، فإن من الواضح أن المحافظين فى طهران فوجئوا قبل أشهر قليلة بحركة غير عادية للبخار داخل البئر بدأت تشكل زخماً متصاعداً يهدد بنسف الغطاء والخروج إلى السطح.

كانت حقيقة ذهاب جورج بوش الصغير فى حد ذاتها كافية لتشجيع البخار على البدء مرة أخرى فى الدوران، لكنّ ما ضاعف من إيقاع هذا الدوران هو حقيقة اتجاه الشعب الأمريكى على نطاق واسع إلى انتخاب شخص فى خصال باراك أوباما، وأنه عندما بدأ فى التنصل من «افتكاسات» سلفه وطرح سياسات معتدلة، عجزت طهران عن الانتقال معه من لعبة الملاكمة البسيطة إلى لعبة الشطرنج المعقدة، رغم أن الفرس هم الذين اخترعوها.

كان هذا خياراً استراتيجياً لا يبدو معه الآن- ونحن ننظر إلى الوراء- أن طهران كانت تدرك مدى تأثيره على بئر البخار.

على هذه الخلفية لم يستطع آية الله خامنئى، مع الدائرة المباشرة للمحافظين، سوى أن يرى فى استمرار المواجهة مع الأمريكيين وحلفائهم سبيلاً يبدو مضموناً للبقاء، ومن ثم كان لابد من إعادة «انتخاب» محمود أحمدى-نجاد. لكن مجرد الاستمرار لم يكن ليكفى على ضوء المعطيات الجديدة، فكان لابد أيضاً من المبالغة فى الفعل، وفى رد الفعل على أمل استثارة الطرف الآخر نحو العودة إلى مربع اللعبة المعتادة.

لم يكن خطاب أوباما فى القاهرة مرفوضاً من الناحية الموضوعية وحسب، بل اتجهت القيادة الإيرانية أيضاً إلى شخصنة الأمور وإلى استخدام كلمات قوية علها تستثير الخارج وتخيف الداخل، ثم انتقلت الكلمات إلى أفعال فتخلى المرشد الأعلى عن توازنه عندما انحاز إلى أحد طرفى النزاع الداخلى واتهم الطرف الخارجى بالتآمر واصطاد البريطانيين فى إطار ذلك، من أجل مشهد دبلوماسى غير دبلوماسى.

فى الوقت نفسه، يخوض جانب لا يستهان به من الشعب الإيرانى معركة مع حكومته لفرض إرادته بما يرى فيه صالحه وصالح وطنه، ويدفع فى سبيل ذلك أعز ما يملك. يحدث هذا للمرة الثانية فى غضون ثلاثين عاماً لا أكثر.
العرب؟ يتفرجون!







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة