من أكثر الأمراض التى تشهدها حياتنا السياسية والإعلامية ظاهرة تناقل الأفكار، حيث سرعان ما يشيع رأى ما ويجرى تناقله ويسارع الكثيرون إلى إعلان تمسكهم به انطلاقًا من أنه الموقف الصحيح والشريف، وأن ما عداه من آراء أو مواقف هى آراء غير صحيحة وغير شريفة أيضًا. إلى جانب هذه الظاهرة ثمة ظاهرة أخرى شقيقة لها هى ظاهرة «شيطنة» الأفكار والمواقف والشخصيات أيضًا دون أن نعطى أنفسنا فرصة للتفكير أو للتأمل أو حتى النظر من زاوية مختلفة للموضوع أو الشخص الذى نناقشه أو «نشيطنه».
ولعل شيئًا من هذا كله قد حدث مع د. نبيل العربى، أمين عام جامعة الدول العربية، الذى أُعلن حزنى الشخصى على ما جرى معه وقاده إلى الانسحاب المبكر من معركة لم يرها شريفة بما يكفى ليخوضها، إذ فى غضون ساعات قليلة تم تسريب أخبار مجهولة المصدر عن أن الرجل - ويا للهول - ينوى الترشح للرئاسة! ليس هذا فقط، بل سارعت الأخبار لتدين الرجل بالجرم المشهود وتعلن أنه ليس فقط ينوى الترشح للرئاسة، ولكنه أيضًا - ويا للعار - مرشح «توافقى» أيضًا!
وهنا انتفضت الدماء حارة ساخنة فى عروق شبكة الفيس بوك وتويتر لتتنقل عشرات التعليقات الساخرة والساخنة، وكلها إما تسخر من فكرة المرشح التوافقى فى العموم، سخرية بعضها ساخن وبعضها شائن، وإما تهاجم الرجل نفسه وتخوض فى سيرته وسيرة أسرته، وانتقلت موجة الشيطنة من الشبكة العنكبوتية إلى الصحافة ومقالات الرأى.
ولم يكن أمام الرجل الذى يبدو أنه نبيل حقّا سوى أن يسارع بالفرار السريع نائيًا بنفسه عن معركة غير شريفة وبيئة ملوثة، ومن وجهة نظرى فإن انسحاب الرجل لا يعنى سوى أن مصر خسرت اختيارًا جيدًا كان يمكنها أن تأخذ به أو بغيره.
ولأن المسألة عندنا لا تتعلق بشخص نبيل العربى الذى لا أعرفه، ولأن الرجل كما هو واضح سارع بالفرار من تهمة أن يكون رئيسًا توافقيّا والعياذ بالله، فإننى أسأل: من الذى قال إن الرئيس التوافقى رجس من عمل الشيطان؟ وما الفارق بين الرئيس التوافقى والرئيس غير التوافقى مادام الجميع سيحكتمون لصندوق الانتخاب؟
وما المشكلة فى أن تتفق مجموعة مختلفة من القوى السياسية على مرشح يحقق وجوده الحد الأدنى من التوافق بينها ليعبر بالبلد مرحلة انتقالية هى بطبيعتها مؤقتة؟
ألم يكن المنصف المرزوقى، رئيس تونس التى مستبشر بها وبثورتها، رئيسًا توافقيّا حيث هو سياسى يسارى دعمه حزب النهضة الإسلامى؟ أليس عبد ربه منصور الذى سيصبح رئيسًا لليمن خلال ساعات مرشحًا توافقيّا رأى الجميع أنه حل مؤقت ومناسب للمرحلة؟
لا أؤيد الرئيس التوافقى إلا بعد أن أعرف من هو، لكننى بكل تأكيد أعترض على حالة الشيطنة والتخزين التى يمارسها الجميع ضد الجميع دون أن نمنح أنفسنا فرصة واحدة للتفكير أو للتأمل وهو ما يدفع الشرفاء للهروب من ساحة المعركة مبكرين، تاركين «المزاود» لشر البقر!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة