فقهاء التنوير الحلقة 3
الإمام زيد بن على زين العابدين.. قاهر الفتن وموحد الأمم.. حارب متطرفى الشيعة وكان يذهب إلى من يدعون ألوهية الإمام على ويجادلهم أمام أنصارهم ليكشف كذبهم وهاجم العلماء الذين ينافقون الحاكم
الإثنين، 23 يوليو 2012 01:27 م
رسوم أحمد خلف
بقلم وائل السمرى - رسوم : أحمد خلف
رجل قال لصاحبه فى يوم من الأيام: أما ترى هذه الثريا؟ أترى أحدا ينالها؟ فرد صاحبه: لا، فقال: «والله لوددت أن يدى ملتصقة بها فأقع إلى الأرض فأنقطع قطعة قطعة وأن الله يجمع بين أمة محمد».. هذا الرجل هو الإمام زيد بن على زين العابدين بن الحسين بن على ابن أبى طالب رضى الله عنهم أجمعين، وكما ظهر جليا فى الاقتباس السابق فإنه عاش حياته مدافعا عن وحدة المسلمين متمنيا أن الموت فى سبيل هذا الغرض بأن يصعد إلى أعالى السماء وينزل على الأرض فيتقطع جسده قطعة قطعة فى مقابل أن يجمع الله بين أمة سيد الخلق، وأن يسود المسلمين الود والوئام والخير والسلام، وما أحوجنا اليوم لدعوة كهذى من رجل كهذا، متفقه فى الدين، عالم بالدنيا، صادق القلب، صافى النفس، تصدق أقواله أفعاله، وتصدق أفعاله أقواله، يعيش من أجل مبدأ، ويفنى فى سبيله رافع الرأس.
يقول الإمام زيد وكأنه يحدثنا واضعا معيارا للحكم على الناس واختبار مدى صدقهم: «من جاءك عنى بأمر أنكره قَلبُك، وكان مبايناً لما عهدته مِنِّى، ولم تفقهه عَنِّى، ولم تره فى كتاب الله عز وجل جائزاً، فأنا منه برىء، وإن رأيت ذلك فى كتاب الله عز وجل جائزاً، وللحق مُمَاثِلاً، وعهدت مثله ونظيره منى، ورأيته أشبه بما عهدته عنى، فاقبله فإن الحق من أهله ابتدأ وإلى أهله يرجع» وللحق فقد كان الإمام يضرب فى كل يوم مثلا للصدق مع النفس والله والناس، وبرغم اشتغاله بالسياسة وانشغاله بها لكنه لم يتلوث بقذارتها ولم يخالف رأيا قاله بدعوى أن السياسة تتطلب التلون، وهذا ما جعل الإمام أبو حنيفة يقول عنه «ما رأيت فى زمنه أفقه منه ولا أعلم ولا أسرع جواباً ولا أبين قولاً، لقد كان منقطع القرين».
وبرغم أن الإمام زيد بن على زين العابدين يعد من أئمة الشيعة وأعلامها، لكن قلما تجد فقيها شيعيا يجمع عليه فضله ومحبته واحترامه كل أهل السنة مثلما تجد الإمام زيد، فقد كان قريبا من قلوب كل المؤمنين، يؤمن بأن الحق أحق أن يتبع، ولا يخوض مع الخائضين الذين يشعلون النيران بين أبناء الدين الواحد والشريعة الواحدة والعقيدة الواحدة، بل من الممكن أن نقول إنه من القلائل الذين أدركوا خطورة تفرق المسلمين وسعى جاهدا لتقريب عباد الله من الله، مندفعا بلا تردد لمحاربة التعصب والتخلف والجهل، وتنقية علوم الدين مما فعله الطغيان والكتمان بها، من استشراء الآراء الدخيلة على دين الله، مثل الادعاء بأن الإمام على كرم الله وجهه نبى أو إله، أو أن نبى الله محمد عليه الصلاة والسلام عاد مثلما عاد نبى الله عيسى ابن مريم، أو أن الإمام على لم يمت ولكنه رفع إلى الله!!
حارب الإمام زيد بن على زين العابدين كل هذه الأفكار المتطرفة وكان يذهب إلى معتنقيها ويجادلهم ويحاججهم أمام أنصارهم، دافعا عن آل البيت هذه الشبهات المغرضة، ومصلحا بين أطياف المسلمين ليجمعهم تحت لواء الحق الذى لا يعطى عصمة لمخلوق، وأننا اليوم إذ نعرض لحياة هذا الإمام وآرائه نقف مثلما وقف رضى الله عنه أمام حاملى ألوية التعصب المذهبى الذى وصفه الإمام محمد أبو زهرة فى مطلع كتابه الرائد فى شرح وتعريف المذهب الزيدى بأنه يشبه تعصب الجاهلية، فمن يطالع فقه هذا الإمام وآراءه ومواقفه سيتأكد أن هذا الدين دين واحد، لا فرق عند طلاب الحق بين شيعى وسنى، فكل يبغى وجه الله.
وللإمام زيد العديد من الآراء التى لو تمسك المسلمون بها آن ذاك لوفرنا على أنفسنا مئات السنين من التناحر المذهبى، وخطونا بأوطاننا خطوات بعد خطوات فى طريق التقدم والنهضة والعدل، فمع تأكيد الإمام على أفضلية الإمام على ومنزلته التى لا ينازعه فيها منازع لم ير أن تولى الصحابيين الجليلين أبوبكر وعمر مخالفة لشرع الله أو ظلم لابن أبى طالب، معللا ذلك بأن مصلحة المسلمين آنذاك كان تتطلب إمامة أبوبكر ومن بعده عمر لإقرار الدولة الإسلامية ولاتفاق الناس عليهما، حتى إن بعض المغرضين كانوا يستفزونه ليهاجم الصحابيين الجليلين، لكنه كان يأبى، ويذكر أن قوما أتوا إليه ليبايعوه فأرادوا أن يستميلوه إليهم فى هجاء أبى بكر وعمر فسألوه عن رأيه فيهما فقال: «ما سمعت أحداً من آبائى تبرّأ منهما، ولا يقول فيهما إلاّ خيراً» ولم يثنه عن رأيه هذا تفرق هؤلاء المتعصبين عنه، بل إنه يروى عنه أنه كان يقول: كان أبوبكر رضى الله عنه إمام الشاكرين ثم يتلو قول الله «وسيجزى الله الشاكرين» ثم يقول البراءة من أبى بكر هى البراءة من على.
ولعله من المفارقات الصارخة أن يتشابه رأى أحد أهم وأكبر أئمة الشيعة مع رأى الإمام أحمد ابن حنبل فى مسألة أحقية الإمام على بالخلافة، بل إن الإمام ابن حنبل كان يرى أن الخلافة الشرعية هى للإمام على، وأن الأمويين اغتصبوا الملك منه وعلى هذا كان يرى أن حكم الأمويين كان حكما غير شرعى، وهذا ما نادى به الإمام زيد الذى وضع شروطا عادلة ومتطورة إذا ما قسناها بمفاهيم عصرها للإمامة، فكان يرى أن الخليفة لا يكون خليفة لرسول الله وأميرا للمؤمنين وإماما للأمة إلا إذا توفرت له شروط ثلاثة، الأول: الشورى، أى ألا ينفرد بالرأى ويستبد فى الحكم، والثانى هو: المبايعة، أى أن يختاره الناس بإرادة حرة غير مكرهين ولا خائفين أو تحت الإغراء، فهذا كله يعطل حرية الإرادة التى لا تصح البيعة أو الاختيار إلا بها، والثالث هو العدل: فيقيم الخليفة المجتمع على قواعد الشرع، ويحقق المساواة بين الناس فى الحقوق والواجبات والفرص، ولا يحكم بهواه، بل يكون معيار المفاضلة بين الأفراد هو ما يقدمون من عمل حسن، كما أنه نفى مبدأ توريث الحكم الذى عانى منه المسلمون قرونا عديدة، وكان يرى أن من حق المسلمين أن يختاروا حاكمهم دون اعتبار الوراثة أساسا.
هذه الآراء العاقلة الموزونة المتسامحة المتصالحة الجامعة لقلوب الناس أشعلت حقد الخليفة الأموى الذى كان يذكى التعصب ضد آل البيت ويأمر الناس بسبهم على المنابر وفى المجالس، كما أزعج الخليفة الأموى آراء الإمام زيد الفقهية، ودعوته الدائمة إلى إعمال العقل وتفضيل مصلحة المسلمين، وساءه أن فقهاء عصره وقراءه وحفظة كتاب الله والمحدثين قد تجمعوا حول الإمام زيد ليشكلوا نواة ثورية مثقفة راسخة، تجهز للانقلاب على الظلم والانتصار للفقراء والمحرومين.
ويذكر الكاتب الكبير عبد الرحمن الشرقاوى فى كتابه الرائع «الأئمة التسعة» والذى أدعو وزير التربية والتعليم أن يقرره على طلابنا أن الخليفة هشام بن عبدالملك شعر بأن هذا الرجل يهز عرشه ويكاد يدكه دكا» خاصة أن شروط الإمامة التى وضعها الإمام زيد لم تكن لتنطبق عليه، فحكمه كحكم أسلافه لا يقوم على الشورى بأصولها الشرعية، والبيعة لم تصح شرعا لأحد منهم لأنها ليست نتيجة إرادة حرة بل هى بيعة إكراه تحت ضغط القهر أو الإغراء، ثم إنه لا يجرى العدالة كما فرضتها الشريعة!
ويذكر الشرقاوى أن الخليفة الأموى أمر واليه فى العراق أن ينكل بالإمام زيد، فاستدعى الوالى الإمام وأراد أن ينال من هيبته فسلط عليه أحد الأراذل ليسبه ويسب آباءه، مدعيا أنه أفضل منه فانتفض من بين القوم عبدالله بن واقد بن عبدالله بن عمر بن الخطاب بكل حمية جده الأكبر عمر بن الخطاب وانقض على من يسب الإمام قائلا: «كذبت والله.. لهو خير منك نفسا وأبا وأما» وأخذ حفيد عمر بن الخطاب كفا من حصى فضرب به الأرض وهو يقول للوالى: «والله ما لنا على هذا صبر».
لعلنا نعرف الآن لماذا تختفى آراء مثل هذا الإمام الجليل ولا يظهر لنا من آراء أئمة آل البيت إلا كل ما ينفر، فلم تزل تلك العادة القميئة قائمة، ألا وهى عادة أن يشعل الملوك والسلاطين نار الفرقة بين أبناء الدين الواحد والحلم الواحد ليتدرعوا بدرع التعصب ويصوروا أنفسهم وكأنهم حامون حمى الإسلام وشريعته، وليس من مصلحة حكامنا الآن أن يظهر إلى النور فكر رجل رشيد وفقيه مثل الإمام زيد أو من على شاكلته، فهو لم يكتف بإعلان الحرب بالسيف على الحكام الظالمين، ولكنه سعى جاهدا أن يظهر زيف ما يتكئون عليه من أسس واهية، ففى الوقت الذى كان الخلفاء يحاربون إعمال العقل وإرساء مبدأ العمل لصالح الشعب كان الإمام زيد يحث الناس على الاجتهاد فى أمور الدين والدنيا فاتحا باب الاجتهاد على مصراعيه، وفى الوقت الذى كان الحكام يدعون أنهم قضاء الله وقدره كان الإمام زيد يقول للناس أنهم أحرار فيما يسلكون ويتحملون نتيجة أفعالهم من غير أن ينقص ذلك الإيمان بالقضاء والقدر، فقد روى عن عمر ابن الخطاب رضى الله عنه أنه سأل سارقا لماذا تسرق؟ فرد عليه قائلا: قضاء الله وقدره فقطع عمر يده جزاء لسرقته، وجلده جزاء على ادعائه أن معصيته قضاء وقدر.
ولأن الإمام كان يعرف أن فساد هذه الأمة يبدأ من فساد علمائها فخاطبهم قائلا: إنما تصلح الأمور على أيدى العلماء، وتفسد بهم إذا باعوا أمر الله ونهيه بمعاونة الظالمين الجائرين» كما كان يعيب عليهم السكوت عن الحق وتمجيد الحكام والتمتع بالتدنى إلى بلاطهم قائلا: مكنتم الظلمة من الظلم، وزينتم لهم الجور، وشددتم لهم ملكهم بالمعاونة والمقاربة، فهذا حالكم، فيا علماء السوء، محوتم كتاب الله محواً، وضربتم وجه الدين ضرباً».
ولعل أروع ما نختم به هذه التذكرة بإمام الإنصاف زيد بن على زين العابدين هو أن نردد معه دعاءه المحبب: اللَهُـمَّ إنى أسألك سُلُوّاً عن الدنيا، وبغضاً لها ولأهلها، فإنَّ خَـيْـرَها زَهِيْدٌ، وشرَّها عتيدٌ، وجَمْعَها يَنْفَدُ، وصَفْوَها يَرْنَقُ، وجديدَها يَخْلَقُ، وخيرَها يَنْكَدُ، وما فات منها حَسْرَةٌ، وما أُصِيْبَ منها فِتْنَةٌ، إلا من نالته منك عِصْمَةٌ، أسألك اللَهُـمَّ العِصْمَةَ منها، ولا تجعلنا ممن رضى بها، واطمأن إليها، فإِنها مَنْ أمنها خانَتْهُ، ومن اطمأن إليها فَجَعَتْهُ، فلم يُقِمْ فى الذى كان فيه منها، ولم يَظْعَنْ به عنها.
◄فقهاء التنوير: عمر بن الخطاب.. «العقل» أساس الملك .. سار على هدى الرسول القائل: استفتِ قلبك.. وكان دائم إعمال العقل سريع إبداء الرأى فأيده الله من فوق سبع سماوات
◄فقهاء التنوير: الإمام على بن أبى طالب.. مدينة العلم وراية العدل .. اعتبر العقل أصل الدين وعماد الدنيا وهو القائل: رأس الفضائل وينبوع الأدب هو العقل الذى جعله الله تعالى للدين أصلاً وللدنيا عمادا
◄الإمام زيد بن على زين العابدين.. قاهر الفتن وموحد الأمم.. حارب متطرفى الشيعة وكان يذهب إلى من يدعون ألوهية الإمام على ويجادلهم أمام أنصارهم ليكشف كذبهم وهاجم العلماء الذين ينافقون الحاكم
◄الإمام جعفر الصادق.. معلم الأئمة..اشتهر عنه حب صحابة رسول الله أجمعين وكان يقول «من لا يعرف فضل أبى بكر وعمر فقد جهل السنة»
◄الإمام الأعظم أبوحنيفة النعمان.. محرر المرأة وفقيه الحرية والاستقلال.. كان من أوائل الداعين إلى المساواة بين الرجل والمرأة وأفتى بأن من حقها تولى القضاء وتزويج نفسها بنفسها دون ولى
◄الإمام مالك.. فقيه المدينة وراعى مصلحة المسلمين..رغم علمه الغزير كان يكثر من الرد على أسئلة الناس قائلا: لا أدرى.. وكان يقول مستنكرا: إنى بشر أخطئ وأرجع وتكتبون كل ما أقوله!
◄الإمام المصرى الليث بن سعد.. راوى أحاديث الجمال والمحبة.. اشتكى للخليفة من أحد ولاة مصر الذين أمروا بهدم بعض الكنائس فعزله الخليفة عن الولاية وأمر بإعادة بناء الكنائس القديمة وإضافة كنائس جديدة
◄وائل السمرى يكتب : فقهاء التنوير.. الإمام أحمد بن حنبل.. ظلموه حيا وأساءوا له ميتا.. انفرد برواية حديث شرب معاوية بن أبى سفيان الخمر بعد تحريمها ولم يكن يخشى فى الحق لومة لائم
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
رجل قال لصاحبه فى يوم من الأيام: أما ترى هذه الثريا؟ أترى أحدا ينالها؟ فرد صاحبه: لا، فقال: «والله لوددت أن يدى ملتصقة بها فأقع إلى الأرض فأنقطع قطعة قطعة وأن الله يجمع بين أمة محمد».. هذا الرجل هو الإمام زيد بن على زين العابدين بن الحسين بن على ابن أبى طالب رضى الله عنهم أجمعين، وكما ظهر جليا فى الاقتباس السابق فإنه عاش حياته مدافعا عن وحدة المسلمين متمنيا أن الموت فى سبيل هذا الغرض بأن يصعد إلى أعالى السماء وينزل على الأرض فيتقطع جسده قطعة قطعة فى مقابل أن يجمع الله بين أمة سيد الخلق، وأن يسود المسلمين الود والوئام والخير والسلام، وما أحوجنا اليوم لدعوة كهذى من رجل كهذا، متفقه فى الدين، عالم بالدنيا، صادق القلب، صافى النفس، تصدق أقواله أفعاله، وتصدق أفعاله أقواله، يعيش من أجل مبدأ، ويفنى فى سبيله رافع الرأس.
يقول الإمام زيد وكأنه يحدثنا واضعا معيارا للحكم على الناس واختبار مدى صدقهم: «من جاءك عنى بأمر أنكره قَلبُك، وكان مبايناً لما عهدته مِنِّى، ولم تفقهه عَنِّى، ولم تره فى كتاب الله عز وجل جائزاً، فأنا منه برىء، وإن رأيت ذلك فى كتاب الله عز وجل جائزاً، وللحق مُمَاثِلاً، وعهدت مثله ونظيره منى، ورأيته أشبه بما عهدته عنى، فاقبله فإن الحق من أهله ابتدأ وإلى أهله يرجع» وللحق فقد كان الإمام يضرب فى كل يوم مثلا للصدق مع النفس والله والناس، وبرغم اشتغاله بالسياسة وانشغاله بها لكنه لم يتلوث بقذارتها ولم يخالف رأيا قاله بدعوى أن السياسة تتطلب التلون، وهذا ما جعل الإمام أبو حنيفة يقول عنه «ما رأيت فى زمنه أفقه منه ولا أعلم ولا أسرع جواباً ولا أبين قولاً، لقد كان منقطع القرين».
وبرغم أن الإمام زيد بن على زين العابدين يعد من أئمة الشيعة وأعلامها، لكن قلما تجد فقيها شيعيا يجمع عليه فضله ومحبته واحترامه كل أهل السنة مثلما تجد الإمام زيد، فقد كان قريبا من قلوب كل المؤمنين، يؤمن بأن الحق أحق أن يتبع، ولا يخوض مع الخائضين الذين يشعلون النيران بين أبناء الدين الواحد والشريعة الواحدة والعقيدة الواحدة، بل من الممكن أن نقول إنه من القلائل الذين أدركوا خطورة تفرق المسلمين وسعى جاهدا لتقريب عباد الله من الله، مندفعا بلا تردد لمحاربة التعصب والتخلف والجهل، وتنقية علوم الدين مما فعله الطغيان والكتمان بها، من استشراء الآراء الدخيلة على دين الله، مثل الادعاء بأن الإمام على كرم الله وجهه نبى أو إله، أو أن نبى الله محمد عليه الصلاة والسلام عاد مثلما عاد نبى الله عيسى ابن مريم، أو أن الإمام على لم يمت ولكنه رفع إلى الله!!
حارب الإمام زيد بن على زين العابدين كل هذه الأفكار المتطرفة وكان يذهب إلى معتنقيها ويجادلهم ويحاججهم أمام أنصارهم، دافعا عن آل البيت هذه الشبهات المغرضة، ومصلحا بين أطياف المسلمين ليجمعهم تحت لواء الحق الذى لا يعطى عصمة لمخلوق، وأننا اليوم إذ نعرض لحياة هذا الإمام وآرائه نقف مثلما وقف رضى الله عنه أمام حاملى ألوية التعصب المذهبى الذى وصفه الإمام محمد أبو زهرة فى مطلع كتابه الرائد فى شرح وتعريف المذهب الزيدى بأنه يشبه تعصب الجاهلية، فمن يطالع فقه هذا الإمام وآراءه ومواقفه سيتأكد أن هذا الدين دين واحد، لا فرق عند طلاب الحق بين شيعى وسنى، فكل يبغى وجه الله.
وللإمام زيد العديد من الآراء التى لو تمسك المسلمون بها آن ذاك لوفرنا على أنفسنا مئات السنين من التناحر المذهبى، وخطونا بأوطاننا خطوات بعد خطوات فى طريق التقدم والنهضة والعدل، فمع تأكيد الإمام على أفضلية الإمام على ومنزلته التى لا ينازعه فيها منازع لم ير أن تولى الصحابيين الجليلين أبوبكر وعمر مخالفة لشرع الله أو ظلم لابن أبى طالب، معللا ذلك بأن مصلحة المسلمين آنذاك كان تتطلب إمامة أبوبكر ومن بعده عمر لإقرار الدولة الإسلامية ولاتفاق الناس عليهما، حتى إن بعض المغرضين كانوا يستفزونه ليهاجم الصحابيين الجليلين، لكنه كان يأبى، ويذكر أن قوما أتوا إليه ليبايعوه فأرادوا أن يستميلوه إليهم فى هجاء أبى بكر وعمر فسألوه عن رأيه فيهما فقال: «ما سمعت أحداً من آبائى تبرّأ منهما، ولا يقول فيهما إلاّ خيراً» ولم يثنه عن رأيه هذا تفرق هؤلاء المتعصبين عنه، بل إنه يروى عنه أنه كان يقول: كان أبوبكر رضى الله عنه إمام الشاكرين ثم يتلو قول الله «وسيجزى الله الشاكرين» ثم يقول البراءة من أبى بكر هى البراءة من على.
ولعله من المفارقات الصارخة أن يتشابه رأى أحد أهم وأكبر أئمة الشيعة مع رأى الإمام أحمد ابن حنبل فى مسألة أحقية الإمام على بالخلافة، بل إن الإمام ابن حنبل كان يرى أن الخلافة الشرعية هى للإمام على، وأن الأمويين اغتصبوا الملك منه وعلى هذا كان يرى أن حكم الأمويين كان حكما غير شرعى، وهذا ما نادى به الإمام زيد الذى وضع شروطا عادلة ومتطورة إذا ما قسناها بمفاهيم عصرها للإمامة، فكان يرى أن الخليفة لا يكون خليفة لرسول الله وأميرا للمؤمنين وإماما للأمة إلا إذا توفرت له شروط ثلاثة، الأول: الشورى، أى ألا ينفرد بالرأى ويستبد فى الحكم، والثانى هو: المبايعة، أى أن يختاره الناس بإرادة حرة غير مكرهين ولا خائفين أو تحت الإغراء، فهذا كله يعطل حرية الإرادة التى لا تصح البيعة أو الاختيار إلا بها، والثالث هو العدل: فيقيم الخليفة المجتمع على قواعد الشرع، ويحقق المساواة بين الناس فى الحقوق والواجبات والفرص، ولا يحكم بهواه، بل يكون معيار المفاضلة بين الأفراد هو ما يقدمون من عمل حسن، كما أنه نفى مبدأ توريث الحكم الذى عانى منه المسلمون قرونا عديدة، وكان يرى أن من حق المسلمين أن يختاروا حاكمهم دون اعتبار الوراثة أساسا.
هذه الآراء العاقلة الموزونة المتسامحة المتصالحة الجامعة لقلوب الناس أشعلت حقد الخليفة الأموى الذى كان يذكى التعصب ضد آل البيت ويأمر الناس بسبهم على المنابر وفى المجالس، كما أزعج الخليفة الأموى آراء الإمام زيد الفقهية، ودعوته الدائمة إلى إعمال العقل وتفضيل مصلحة المسلمين، وساءه أن فقهاء عصره وقراءه وحفظة كتاب الله والمحدثين قد تجمعوا حول الإمام زيد ليشكلوا نواة ثورية مثقفة راسخة، تجهز للانقلاب على الظلم والانتصار للفقراء والمحرومين.
ويذكر الكاتب الكبير عبد الرحمن الشرقاوى فى كتابه الرائع «الأئمة التسعة» والذى أدعو وزير التربية والتعليم أن يقرره على طلابنا أن الخليفة هشام بن عبدالملك شعر بأن هذا الرجل يهز عرشه ويكاد يدكه دكا» خاصة أن شروط الإمامة التى وضعها الإمام زيد لم تكن لتنطبق عليه، فحكمه كحكم أسلافه لا يقوم على الشورى بأصولها الشرعية، والبيعة لم تصح شرعا لأحد منهم لأنها ليست نتيجة إرادة حرة بل هى بيعة إكراه تحت ضغط القهر أو الإغراء، ثم إنه لا يجرى العدالة كما فرضتها الشريعة!
ويذكر الشرقاوى أن الخليفة الأموى أمر واليه فى العراق أن ينكل بالإمام زيد، فاستدعى الوالى الإمام وأراد أن ينال من هيبته فسلط عليه أحد الأراذل ليسبه ويسب آباءه، مدعيا أنه أفضل منه فانتفض من بين القوم عبدالله بن واقد بن عبدالله بن عمر بن الخطاب بكل حمية جده الأكبر عمر بن الخطاب وانقض على من يسب الإمام قائلا: «كذبت والله.. لهو خير منك نفسا وأبا وأما» وأخذ حفيد عمر بن الخطاب كفا من حصى فضرب به الأرض وهو يقول للوالى: «والله ما لنا على هذا صبر».
لعلنا نعرف الآن لماذا تختفى آراء مثل هذا الإمام الجليل ولا يظهر لنا من آراء أئمة آل البيت إلا كل ما ينفر، فلم تزل تلك العادة القميئة قائمة، ألا وهى عادة أن يشعل الملوك والسلاطين نار الفرقة بين أبناء الدين الواحد والحلم الواحد ليتدرعوا بدرع التعصب ويصوروا أنفسهم وكأنهم حامون حمى الإسلام وشريعته، وليس من مصلحة حكامنا الآن أن يظهر إلى النور فكر رجل رشيد وفقيه مثل الإمام زيد أو من على شاكلته، فهو لم يكتف بإعلان الحرب بالسيف على الحكام الظالمين، ولكنه سعى جاهدا أن يظهر زيف ما يتكئون عليه من أسس واهية، ففى الوقت الذى كان الخلفاء يحاربون إعمال العقل وإرساء مبدأ العمل لصالح الشعب كان الإمام زيد يحث الناس على الاجتهاد فى أمور الدين والدنيا فاتحا باب الاجتهاد على مصراعيه، وفى الوقت الذى كان الحكام يدعون أنهم قضاء الله وقدره كان الإمام زيد يقول للناس أنهم أحرار فيما يسلكون ويتحملون نتيجة أفعالهم من غير أن ينقص ذلك الإيمان بالقضاء والقدر، فقد روى عن عمر ابن الخطاب رضى الله عنه أنه سأل سارقا لماذا تسرق؟ فرد عليه قائلا: قضاء الله وقدره فقطع عمر يده جزاء لسرقته، وجلده جزاء على ادعائه أن معصيته قضاء وقدر.
ولأن الإمام كان يعرف أن فساد هذه الأمة يبدأ من فساد علمائها فخاطبهم قائلا: إنما تصلح الأمور على أيدى العلماء، وتفسد بهم إذا باعوا أمر الله ونهيه بمعاونة الظالمين الجائرين» كما كان يعيب عليهم السكوت عن الحق وتمجيد الحكام والتمتع بالتدنى إلى بلاطهم قائلا: مكنتم الظلمة من الظلم، وزينتم لهم الجور، وشددتم لهم ملكهم بالمعاونة والمقاربة، فهذا حالكم، فيا علماء السوء، محوتم كتاب الله محواً، وضربتم وجه الدين ضرباً».
ولعل أروع ما نختم به هذه التذكرة بإمام الإنصاف زيد بن على زين العابدين هو أن نردد معه دعاءه المحبب: اللَهُـمَّ إنى أسألك سُلُوّاً عن الدنيا، وبغضاً لها ولأهلها، فإنَّ خَـيْـرَها زَهِيْدٌ، وشرَّها عتيدٌ، وجَمْعَها يَنْفَدُ، وصَفْوَها يَرْنَقُ، وجديدَها يَخْلَقُ، وخيرَها يَنْكَدُ، وما فات منها حَسْرَةٌ، وما أُصِيْبَ منها فِتْنَةٌ، إلا من نالته منك عِصْمَةٌ، أسألك اللَهُـمَّ العِصْمَةَ منها، ولا تجعلنا ممن رضى بها، واطمأن إليها، فإِنها مَنْ أمنها خانَتْهُ، ومن اطمأن إليها فَجَعَتْهُ، فلم يُقِمْ فى الذى كان فيه منها، ولم يَظْعَنْ به عنها.
◄فقهاء التنوير: عمر بن الخطاب.. «العقل» أساس الملك .. سار على هدى الرسول القائل: استفتِ قلبك.. وكان دائم إعمال العقل سريع إبداء الرأى فأيده الله من فوق سبع سماوات
◄فقهاء التنوير: الإمام على بن أبى طالب.. مدينة العلم وراية العدل .. اعتبر العقل أصل الدين وعماد الدنيا وهو القائل: رأس الفضائل وينبوع الأدب هو العقل الذى جعله الله تعالى للدين أصلاً وللدنيا عمادا
◄الإمام زيد بن على زين العابدين.. قاهر الفتن وموحد الأمم.. حارب متطرفى الشيعة وكان يذهب إلى من يدعون ألوهية الإمام على ويجادلهم أمام أنصارهم ليكشف كذبهم وهاجم العلماء الذين ينافقون الحاكم
◄الإمام جعفر الصادق.. معلم الأئمة..اشتهر عنه حب صحابة رسول الله أجمعين وكان يقول «من لا يعرف فضل أبى بكر وعمر فقد جهل السنة»
◄الإمام الأعظم أبوحنيفة النعمان.. محرر المرأة وفقيه الحرية والاستقلال.. كان من أوائل الداعين إلى المساواة بين الرجل والمرأة وأفتى بأن من حقها تولى القضاء وتزويج نفسها بنفسها دون ولى
◄الإمام مالك.. فقيه المدينة وراعى مصلحة المسلمين..رغم علمه الغزير كان يكثر من الرد على أسئلة الناس قائلا: لا أدرى.. وكان يقول مستنكرا: إنى بشر أخطئ وأرجع وتكتبون كل ما أقوله!
◄الإمام المصرى الليث بن سعد.. راوى أحاديث الجمال والمحبة.. اشتكى للخليفة من أحد ولاة مصر الذين أمروا بهدم بعض الكنائس فعزله الخليفة عن الولاية وأمر بإعادة بناء الكنائس القديمة وإضافة كنائس جديدة
◄وائل السمرى يكتب : فقهاء التنوير.. الإمام أحمد بن حنبل.. ظلموه حيا وأساءوا له ميتا.. انفرد برواية حديث شرب معاوية بن أبى سفيان الخمر بعد تحريمها ولم يكن يخشى فى الحق لومة لائم
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة