أول درس يتعلمه طالب الإعلام فى عالمنا العربى هو أن يكون موضوعيا ومحايدا، وأن ينحى آراءه جانبا وهو يطرح أى قضية أو موضوع للمناقشة فى أى وسيلة إعلامية سواء كانت مسموعة أو مقروءة أو مرئية.. والموضوعية هنا ليست مفهوما خياليا لا يمكن تحقيقه، ولكنها مفهوما ماديا يمكن الوقوف عند محدداته ومؤشراته لمن أراد، ومن ثم تكمن الصعوبة الحقيقية فى قضية الموضوعية فى الرغبة الجادة من الإعلامى أو الوسيلة التى يعمل بها فى السعى نحو تحقيقها.
التحيزات الشخصية للإعلاميين تمثل أحد أهم العقبات فى طريق الموضوعية، حيث يعمل الإعلاميون فى سياق سياسى مضطرب ومتباين يمور بخلافات وصراعات كبيرة بين أطراف متناحرة، يحشد كل منها جميع أسلحته من أجل كسب أرضية جماهيرية لأفكاره ومعتقداته ومصالحه الحزبية، ومن بين أهم هذه الأسلحة الإعلام، وفى القلب منه الإعلاميون القائمون بعملية الاتصال الذين يحولهم العمل الإعلامى إلى نجوم ساطعة لكل منهم مريدوه وعشاقه وجماهيره الذين يعتقدون ويؤمنون فيما يقول، حتى أن الأمر يصل ببعضهم إلى درجة من "التوحد" المرضى بينهم وبين الإعلامى الذى يحرص على متابعته ويصدقون أفكاره، ولذا فإن ظهور مثل هذه التحيزات الشخصية للإعلاميين على أدائهم المهنى يؤثر كثيرا فى أراء وسلوكيات المتلقين، ويحولهم إلى نسخ مكررة من بعضهم البعض.. فعندما يظهر الإعلامى تحيزه لصالح طرف ما ضد طرف آخر، فهو فى هذه الحالة لا يخاطب فقط جمهوره من المؤيدين الذين قد لا يكونوا فى حاجة فعلية إلى هذا الخطاب الإعلامى المتحيز، ولكنه يسعى وراء معارضيه، محاولا تغيير أفكارهم أو على الأقل تحييدها.
ثانى هذه العوائق هى اللغة الإعلامية نفسها، والتى تمتلك العديد من التكنيكات اللغوية التى يتم توظيفها فى العمل الإعلامى، وبخاصة فى القضايا السياسية مثل: إعادة تسمية القضية بغير مسماها الحقيقى، أو إلصاق صفة سلبية أو إيجابية بهذا المسمى على غير حقيقته، أو استخدام التعبيرات البلاغية بأشكالها وصورها المختلفة، والجمل الإنشائية مثل الجمل التعجبية والاستفهامية، فضلا عن الأرقام التى يمكنها أن تصبح فيروساً يؤدى إلى تشويه وتدمير الحقائق والمعلومات التى تحتويها، كما أن استخدام المفردات والألفاظ القوية أو الضعيفة فى غير مكانها يساهم بدوره فى تقوية أو تخفيف الأثر الناجم عن تلقى الحدث السياسى فى صورته الإعلامية.. وبطبيعة الحال لكل من هذه التكنيكات اللغوية دلالته التى تستقر فى نفس وذهن المتلقى، وتؤثر فى سلوكياته وتصرفاته وقراراته.. ولذا ينبه المتخصصون فى الإعلام السياسى المتلقين عند تناول القضايا الصحفية السياسية، إلى أن العلاقة بين اللغة والسياسة، يقودها الإعلام، فبين الحدث السياسى واللغة التى تعبر عنه، مؤسسة إعلامية هى الصحيفة أو القناة التلفزيونية أو المحطة الإذاعية أو شبكة الإنترنت، تحكمها اتجاهاتها وأيديولوجياتها وأهدافها وسياستها التحريرية، ومن خلال هذه المؤسسة وقنواتها يمر الحدث السياسى، ويعاد تشكيله وفقًا لأهداف هذه المؤسسة، ليخرج للقارئ وقد صيغ لغويًا وفقًا لهذه الأهداف".
أى أن الإعلام هنا "يتوسل بإمكانات اللغة وقدراتها التعبيرية.. هروبًا من بعض المآزق السياسية أو المسئولية الإعلامية حينًا، وتشكيلاً لتوجهات المتلقى حينًا، وكشفًا للمسكوت عنه حينًا، ومراوغة وإلهاءً وتضليلاً أحيانًا. وعندما يحدث كل هذا يتحول اللفظ اسمًا كان أو صفةً من مجرد لفظ لغوى عادى إلى لفظ مشحون بأيديولوجيا (أى لفظ مؤدلج) ويتحول استعمال بدائل التسمية والصفات إلى تصنيفات أيديولوجية".
ثالث مكونات التحيز فى العمل الإعلامى، يتمثل فى المصادر التى يتم انتقاؤها وتقديمها للجمهور المتلقى على أنهم خبراء فى المجال المطروح للمناقشة، دون التركيز على الخلفيات السياسية والثقافية والدينية التى تشكل عمقا استراتيجيا لكل ما تطرحه هذه المصادر من تحليلات وتفسيرات للحالة السياسية والثقافية والاجتماعية فى المجتمع، ويمكن للمصادر فى هذه الحالة أن تلعب دورا كبيرا فى التأثير على تصورات وادراك المتلقين للقضية المطروحة للنقاش، وذلك من خلال بعض الآليات، منها انتقاء المصادر التى تشكل بانتماءاتها السياسية وأيديولوجياتها الفكرية ميلا نحو طرفى القضية، وضد الطرف الآخر، ومن ثم يسير النقاش فى اتجاه واحد فقط، أو أن تدعى الوسيلة الإعلامية الحيادية وتمثل طرفى القضية فى نقاشها، غير أنها تميل باتجاه أحد الاطراف كميا من خلال زيادة عدد المصادر التى تمثله، أو اتاحة وقت أطول ومساحة أكبر لمصدر بعينه دون بقية المصادر، أو نوعيا من خلال تمثيل أحد طرفى القضية بمصدر يتمتع بثقة ومصداقية عالية بين أوساط الرأى العام، مقابل مصدر ضعيف إعلاميا، ولا يحظى بنفس القبول والمصداقية، ومن ثم يصبح لهذه المصادر الفرصة الأكبر فى التأثير على المتلقين.
إجمال ما سبق يعنى أن الموضوعية والحيادية المهنية أصبحت أسطورة لا وجود لها فى العمل الإعلامى، وعلينا الاعتراف بهذه الحقيقة دون خجل، لأننا أصبحنا ننتهكها كل يوم فى صحفنا وقنواتنا التلفزيونية ومواقعنا على شبكة الإنترنت، ومن ثم بات علينا بدلا من أن نعلم طلابنا الموضوعية، وكيفية تحقيقها وممارستها، علينا أن نعلمهم التحيز وفنونه!!.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة