أحمد الجمال

محاكمة القرن.. تساؤلات خارج المقرر!

الثلاثاء، 02 ديسمبر 2014 11:12 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
الانتقال من النفس الأمارة إلى اللوامة وبالعكس
حاولت التهرب من الكتابة عن أحداث يوم السبت الفائت، أى محاكمة مبارك وولديه والعادلى ومساعديه، لأننى فوق أنه لا يجوز التعقيب قانونًا على أحكام المحاكم، فإننى وجدت أن الأمر قتل بحثًا وتعليقًا وخلافه، بحيث لم يتبق كلام جديد يستحق أن يقال!.. ومع ذلك فقد وجدت حالى مثل حال الثلاثة الذين ركبوا المركب مع المراكبى، الذى اشترط على كل واحد منهم شرطا عقب اكتشافه أن لكل واحد لازمة لا يستطيع الغنى عنها.. كانوا أصم لا يسمع.. وأعمى لا يبصر.. و«أجرب» أهلكه الجرب، واستبدت به الرغبة فى دوام حك جلده.. الهرش!.. ولما كانوا لا يملكون مالاً يدفعونه للمراكبى، فإن الأخير فرض شروطه وقال لهم: سأنقلكم شرط ألا يضع الأطرش يده على أذنه ليرهص السمع، وألا يطوح الأعمى بكفه أمام عينيه، وكأنه يحاول الرؤية.. وألا يحك الأجرب جلده!
واستجابوا للشروط مذعنين.. ولكن يموت الزمار..!! لأنهم ما أن مضى وقت وصاروا فى عرض النهر إذا بالأعمى يرفع يديه ملوحًا أمام عينيه منذرًا المراكبى: خللى بالك يا ريس هناك مركب قادم من بعيد..! فإذا بالأصم «الأطرش» يضع يده بجوار أذنه دافعًا صوان الأذن للأمام: أى والله.. أنا أسمع صفارتها تقول تووت!، وعندها اندفع الأجرب يحك جلد وسطه بمرفقيه ويعلن: أنها أيضًا فيها مجاديف تجدف!
وأمام ما جرى يوم السبت، ورغم أنه لا يجوز التعقيب ولا جديد يمكن أن يقال، فإننى الأعمى والأطرش والأجرب مجتمعين، إننى واثق من أن المحكمة حكمت بما لديها من أوراق، ومن أن قضاتها أعملوا عقولهم وأبقوا وجدانهم يقظًا وضمائرهم حية، ولذا فلا اقتراب مما توصلوا إليه، ولكن السؤال الذى يلد عشرات الأسئلة هو ما يتصل بالقوانين السارية التى يستند إليها فى مثل هذه المحاكمات وغيرها، وهو ما يتصل بمن كانوا متهمين فى تلك القضية، وهل هم أبرياء حقيقة فى نظر أنفسهم وعند من يعرفونهم حق المعرفة؟ وهل ما وصلت إليه مصر فى صميم كل جوانب الحياة فيها من هوان وتردٍ وتهالك وضياع جاء من غياهب المجهول، أو جاء مع تيارات الرياح التى تهب عليها من أرجائها الأربعة، ولا دخل لمبارك ونظامه بذلك؟!
ثم ماذا يا ترى الوجه الخفى الكامن فى أعماق أعماق كل إنسان تصادف أن صار متهما، أو تصادف وأن كان محطا للابتلاء.. وهو الوجه الذى يخاطب فيه المرء نفسه التى تحولت من أمارة إلى لوامة: مؤكد أن هذا بسبب كذا وكيت مما فعلته أو وافقت عليه أو لم أنطق تجاهه!!.. ومؤكد أن ربنا يخلص منى ما ارتكبته بحق فلان أو علان أو المعصية إياها!.. وهو الوجه أيضًا الذى يخفى فيه الإنسان ما لو ظهر لكانت الإدانة الكاملة.
وفى سياق الخفاء والإخفاء نفسيهما قد ينتقل المرء من خفايا ما فعل وما قال وما أهمل، إلى خفايا ما ينتوى فعله أو قوله بعد أن تزول الغمة، ويبدأ التعافى بدرجة أو أخرى، وبذا يرتد من النفس اللوامة إلى النفس الأمارة.
ذلك أن هناك من يعقد النية فى غياهب محبسه على أنها «توبة من دى النوبة»، وأنه لن يمشى جنب الحائط بل سيمشى داخله!
وهناك من يعيش فى سجنه حالة الغليان المستمر حتى تتبخر من نفسه وروحه كل مقومات ومسوغات التوبة والتسامح والتصالح مع نفسه ومع خلق الله، ويذهب فى كل لحظة، وما أكثر لحظات الاختلاء بالنفس داخل السجن إلى اختراع الطريقة التى سينتقم بها، ونوع الانتقام ودرجته.. ومن هم الذين ينتوى إذلالهم أو إنزال المصائب بهم إلى آخر ما فى هذا السياق اللانهائى!
ثم هناك من يرى أنها الحياة التى هى خط بيانى متصل فيه قمم صاعدة وأخرى هابطة، وإذا تبدد الاتصال بينهما انتهت الحياة، وأن الصفحة التى تطوى لابد من الاستفادة من دروسها.. أى الحرص على ألا تمحى!
ولقد عاش بعضنا وأنا منهم تجربة السجن ومعه وبعده تجربة معاناة العوز والفقر، وتشتت الأسرة وتنكر الأصدقاء والرفاق، ولكن قليلين جدًا من عاشوا تجربة السقوط المدوى من قمة الحكم والسلطة والسلطان والهيلمان وخواطر فخامتك أوامر تنفذ فورًا إلى قاع السجن وجوف الزنزانة وآتون تشفٍ وشماتة واستهانة المتشفين والشامتين والمستهينين.. وبعد أن كانت الأيدى ترتفع مشدودة تهتز لتستقر على الرأس فوق الحاجب تحية واحترامًا والوقفة زنهارًا، كادت الأيدى نفسها أن تمارس التشويح والتلويح وربما الدفع والزغد وإشارات قلة الأدب.. وعندئذ يصدق السؤال: إلى ماذا وإلى أين كان يذهب ذهن ذلك الذى سقط من تلك القمة وهو عاجز فى ذلك القاع؟!
وهذا يصدق تمامًا على الحالة التى كانت تحاكم السبت الفائت.. مبارك وولداه.. والعادلى ومساعدوه، وهل خطر على بال أحدهم أنه سيعاود الكرة وسيدخل غمار السياسة طمعا فى الحكم ثانية؟!
لقد كنت كلما حانت فرصة لمشاهدة ما يبث تليفزيونيًا أثناء سير تلك المحاكمة منذ بدأت أحاول قراءة وجوه من احتواهم القفص، ورغم تباين الملامح واختلاف ما قد تفصح عنه من مشاعر، فإن السمة التى سادت كل الوجوه هى الانكسار حتى وإن غطاه العادلى بالابتسامة، وغطاه مبارك بالنظارة السوداء، وغطاه غيرهما بالسكون وزوغان البصر، بينما السمة التى غالبًا ما تسود وجوه المتهمين فى قضايا التنظيمات والحركات السياسية هى التحدى، الذى أحيانًا يصل لدرجة العدوانية وأحيانًا التعدى والوقاحة على الآخر فى المحكمة، سواء قضاة أم نيابة أم شرطة أو حتى محامين جاءوا لأجل حق مدنى أو خلافه!! وفرق شاسع بين الانكسار وبين التحدى!
عشرات من الخواطر، كانت تدهمنى فيما أتابع تلك المحاكمة، غير أن أخطر ما يشغلنى هو كيف يمكن أن نقاوم العدوان المرتقب على الوطن من أولئك الذين سيعتقدون أن براءة مبارك والعادلى ومن معهما هى براءة لنظامه وسياساته ورجالات عصره، إن كان فى عصره رجالات بالمعنى الحقيقى للرجولة التى هى مضمون آخر مختلف تمامًا عن الذكورة.








مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة