استغل بعض أوصياء الدين ظاهر النهى عن التصوير واقتنائه فى البيوت الوارد فى بعض الأحاديث النبوية بألفاظ مختلفة فى تحقيق مرادهم من السيطرة الدينية على البسطاء والعوام فى الثقافة الإسلامية، فجعلوا من تلك القضية الفقهية فتنة مجتمعية وأداة لإفقاد ثقة الإنسان فى نفسه وفطرته السوية ليسلم عقله وقلبه إليهم فيتبعهم وينساق وراءهم، ليس لأنهم فقهاء مجتهدون أتوا بما لم يأت به الأوائل، وإنما لكونهم محترفين فى أساليب التدليس العلمى أو الفقهى التى يصطادون بها ضحاياهم، ومن أشهر تلك الأساليب التدليسية إعلاء أحد أوجه الفهم أو الفقه للنصوص الشرعية الذى يستهويهم مع إغفال الأوجه الأخرى أو تسفيهها بطرًا أو شغبًا، ولو أنهم أمناء لما كتموا علمًا، ولا صادروا فقهًا، ولا حرموا الناس من حق الاختيار الفقهى بحسب تعدد قناعاتهم واختلاف أفهامهم دون وصاية بعض العقول على بعض، أو بعض الأفهام على بعض، للمبدأ القرآنى: «ولقد كرمنا بنى آدم» (الإسراء: 70)، ومن مقتضى هذا التكريم استقلال كل إنسان بقناعة وفهم على حسب سعة عقله وقلبه وليس على مقاس غيره، وهذه هى السيادة الواردة فيما أخرجه ابن عدى فى «الكامل» بإسناد حسن عن أبى هريرة، أن النبى صلى الله عليه وسلم، قال: «كل بنى آدم سيد»، كما أمر بها النبى، صلى الله عليه وسلم، عموم الناس فيما أخرجه أحمد بإسناد حسن عن وابصة بن معبد، أن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال له: «استفت نفسك.. استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك».
لكن سيادة الناس واستقلال علاقتهم بالله سبحانه سيقضى على أوصياء الدين المنتفعين بملء جيوبهم وتبوئهم ما ابتدعوه من مناصب وهمية رفيعة للسيطرة على المجتمع أو الرأى العام مثل «أهل الحل والعقد» ومثل «أصحاب الفضيلة»، ومؤهلاتهم لتولى هذه المناصب هى المزايدة الدينية أومهارة التدليس الفقهى والقدرة على إفقاد الناس ثقتهم الدينية فى أنفسهم، وكأن الدين لم ينزل لكل الناس وإنما نزل لهم ليستعلوا به عليهم. وقد ذكر المواق فى كتابه «التاج والإكليل» عن عيسى عليه السلام أنه قال: «إن الله يحب العبد يتخذ المهنة يستغنى بها عن الناس ولا يحب العبد يتخذ الدين مهنة». كما أن الله تعالى منع الوصاية الدينية ولو كانت من أشرف الخلق، فقال سبحانه: «فذكر إنما أنت مذكر» (الغاشية: 21)، وقال تعالى: «ما على الرسول إلا البلاغ» (المائدة: 99)، وأمر الله رسوله أن يبين للناس ويتركهم يتفكرون فقال سبحانه: «وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون» (النحل: 44)، وأما الفقهاء والعلماء من بعد الرسول، صلى الله عليه وسلم، فقد أوجب الله عليهم الدراسة والبيان لما درسوه وليس حشد الناس على ثقافة الفقيه وفهمه، لأن الفقيه زائل بخلاف الفقه فهو دائم فى الحياة فقال سبحانه: «فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا فى الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون» (التوبة: 122)، وأمر الرسول، صلى الله عليه وسلم، كل عالم أو فقيه أن يحكى ما يعرفه من أقوال مختلفة فى المسألة دون إخفاء بعضها حتى يتمكن السائل من سيادة نفسه فى الاختيار الفقهى، فقد أخرج أحمد وابن ماجه والترمذى بإسناد صحيح عن أبى هريرة، أن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال: «من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله عز وجل بلجام من نار»، وفى رواية عند ابن ماجه: «من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار».
إن كان أوصياء الدين حسنى النية فى حب الدين فعليهم أن يتحولوا إلى علماء أو فقهاء لتعليم الناس وتفقيههم كل ما يسمى علمًا أو فقهًا، كما ورد فيما أخرجه الشيخان عن معاوية بن أبى سفيان أن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال: «من يرد الله به خيرًا يفقهه فى الدين»، وعلى أوصياء الدين أن يتخلوا عن رسالة التجنيد الحاشدة لنصرة أحد الأقوال الفقهية الذى استهواهم، ومحاربة الأوجه الفقهية الأخرى التى لا تقل فى مرتبتها عن مرتبة ما استهواهم، فكل الأوجه الفقهية تخضع للقاعدة التى ذكرها الإمام الشافعى «صواب يحتمل الخطأ» أو «خطأ يحتمل الصواب». إلا أن أوصياء الدين ماضون فى غيهم، ومصرون على حشر أنفسهم كالعزول بين الإنسان وبين ربه، حتى يتمكنوا من إشباع مكاسبهم الدنيوية الرخيصة من غير كلفة مالية أو علمية، وإنما بمجرد تشكيك الناس فى اختيارهم الفقهى للمسائل الحياتية اليومية.
ومن تلك المسائل التى أقام أوصياء الدين لها الدنيا ولم يقعدوها «قضية التصوير واقتناء الصور فى البيوت»، والتى اعتبروها من الكبائر العظام ونكدوا على البسطاء حياتهم عندما أمروهم باسم الدين أن يتخلصوا من صور ذويهم وأحبائهم، حتى احتاج هؤلاء الأوصياء إلى تصوير أنفسهم وامتلاك الفضائيات فلم يخجلوا أن يمتلكوها وأن يمارسوا التصوير وأن يعلنوا حمايتهم له غير مبالين بموقفهم الذى تولوا كبره من قبل، فلن ينسى التاريخ توجه بعض رموز التيار الذى وصف نفسه بالإسلامى، ومنهم الإخوانيون الدكتور يوسف القرضاوى والشيخ محمد الراوى والكاتب الصحفى فهمى هويدى والدكتور هيثم الخياط والدكتور على القرة داغى مع وفد منظمة المؤتمر الإسلامى ومنهم الدكتور نصر فريد واصل المفتى الأسبق لجمهورية مصر العربية برئاسة وزير الدولة القطرى للشؤون الخارجية أحمد بن عبد الله المحمود، الذين توجهوا على متن طائرة قطرية خاصة إلى كابول عاصمة أفغانستان لمقابلة الملا محمد عمر زعيم حركة طالبان وإقناعه بالعدول عن موقفه تجاه الآثار البوذية ليوقف تدمير تماثيل بوذا، وذلك فى 16 من ذى الحجة 1421هـ الموافق 11 مارس 2001م، وكان مما صرح به الإخوانى الدكتور القرضاوى فى مهمته هذه أن قال: «تدمير الأصنام فى أفغانستان بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة فى النار»، كما لا ينسى التاريخ قيام التيار السياسى الذى وصف نفسه بالإسلامى وانقض على حكم مصر ومجلس الشعب بها سنة 2012م أنهم مهدوا لذلك بامتلاك القنوات الفضائية وقدموا أنفسهم للناس فى بوسترات تحمل صورهم بالحجم الطبيعى حتى قال أحد المرشحين لرئاسة مصر من هذا التيار وهو المحامى «حازم أبواسماعيل» الذى يفضل أن يلقب بالشيخ والذى كان متيمًا بصورته الملونة، وأمر بإلصاقها على كل بيت مصرى فاشتكى له أحد المواطنين بأن بيته خلا من تلك الصورة، فأجابه على الفور بأنه إذا عاد إلى بيته فسيجد الصورة معلقة.
لذلك وجدت من واجبى دراسة قضية «التصوير واقتناء الصور» عند الفقهاء وتلخيص عرضها للناس، لكشف تسلط أوصياء الدين وتمكين الناس من سيادتهم الفقهية حتى يتحرروا من تلك الوصاية.. وللحديث بقية.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
الشعب الاصيل
سؤال مهم جدا وعاجل - فى حالة تفاقم الفقر هل يجوز التستر بورق الشجر
بدون
عدد الردود 0
بواسطة:
ابراهيم ذكى
تحية لدكتور هلالى
عدد الردود 0
بواسطة:
محمود
رد على تعليق السخيف ، نمرة 1
عدد الردود 0
بواسطة:
الشعب الاصيل
الى 3 - واضح انك جربت الفرع الناشف المهندم - بطل غباوه السؤال له مغزى اخر بعيد عن تفكيرك
بدون
عدد الردود 0
بواسطة:
مجدي حسن
رد علي التعليق رقم 1 و 3
عدد الردود 0
بواسطة:
الشعب الاصيل
الى رقم 5 - شكرا لكلامك الجميل واطرائك المشجع - رجاء حلل كلام رقم 3 وستعرف حجم بذاءته وقلة ادبه
بدون
عدد الردود 0
بواسطة:
د يحيى حسن
كتيبة التنوير والاصلاح