محمود عبد الرحمن يكتب: "أدفئوهم أو ادفنوهم".. آخر ما قالته زنوبيا

الثلاثاء، 20 يناير 2015 06:11 م
محمود عبد الرحمن يكتب: "أدفئوهم أو ادفنوهم".. آخر ما قالته زنوبيا مخيم اليرموك - أرشيفية

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

أسنان الصغار تصطك وأصوات تصدر من أفواههم -لا إرادية- من أثر الارتعاد.. أحلامهم لا تعدو النجاة من الموت المحتم، أو لقمة تسدّ وطأة الجوع الكاسر، فقديما كانت أحلامهم تتراقص فى خيالاتهم، بينما الآن غابت تلاشت.. ذاكرتهم البريئة ملئت بمشاهد الدم والرعب، وامتزجت رائحة الدم فى أنوفهم برائحة أشجار الزيتون، فلم يعد لشىء طعمه، وفقدت الطفولة رونقها، واختلطت فى أذهانهم المعانى والمعطيات وأصبح جميعها يصب فى دائرة الانتقام.

فى مخيم للنازحين حيث الفارين من نار الصهاينة لجحيم المليشيات.. أسدل الليل أستاره وعم ظلام دامس جنبات المخيم.. أوسطه خيمة بالية فراشها وحل وماء، ويكسوها بياض الثلج.. تقطنها "زنوبيا" صاحبة الخمسة عشر ربيعا مع أخواتها الصغار.. تقضى أوقاتها تتحايل على جسدها الهذيل ليهدأ من ارتعاشاته -والدم متصلب بأطرافها- تتطلع لضوء شمس يذيب الثلوج من فوق جفونها.. أثمالها تستقبل الريح الصرصر باستسلام.

ليلهم قاسٍ.. فلم تنم زنوبيا وبقيت حائرة الفكر، شاردة الذهن كسيرة الفؤاد تائهة لا تدرى ماذا تفعل، وكيف توفر الدفء للصغار مساء هذا اليوم.

 فى السادسة من صباح كل يوم، تبدأ زنوبيا عملها، ليس لتقتات وأخواتها فقط بل لتبتاع حفنة من حطب الشجر لدرء ظلمات ليل مليئة بطلقات الزمهرير الحارقة، فنظرا للقصف المستمر انقطعت المحروقات ونفدت أخشاب الأثاث داخل المخيمات لوقود المدافئ، فخرجت ذات يوم لسوق صغير بالساحة المجاورة لبيع المناديل، تتوسل للمارة ليشتروا منها مقابل مبلغ زهيد، فهذا يشترى، وهذا لا مال معه، وآخر يلوح بوجهه: "وإيش أسوى بهالمناديل".

بينما هى خارج المنزل، جلس الصغار فى زاوية الخيمة ملتحفين بجميع أغطيتهم، حالمين بدفء يحمى أقدامهم الصغيرة من تسلل الجليد إلى شرايينها، ورسموا مدفأة وتلفازا على جانب من الخيمة وتناوبوا إطلاق الضحكات الهيستيرية فى انتظار كبيرتهم، ليقتسموا فيما بينهم اللقيمات ويوقدوا الحطب.

أسابيع قليلة وزاد الأمر سوءا، فلا زاد ولا كهرباء، الحرارة نهارا تبلغ ثلاث درجات تحت الصفر، فقررت "زنوبيا" المخاطرة بالتوغل فى غابة على بعد كيلومترين من المخيم، آملة فى توفير بعض الحطب بتقطيع أغصان شجر "السرو والكينا" تسر بها صغارها وتدفئهم، غابة خطرة راح ضحيتها عشرات المدنيين، حيث تفتح المليشيا المتمركزة بها نيران الرشاشات على كل من يحاول قص شجرة.

مع أول ضربة بمنشار "زنوبيا" الصدئ فى غصن قريب من الأرض، تبلدت السماء بسحب سوداء، وتوقف الزمان للحظات اخترقت فيها الطلقات قدمها أعجزتها عن الهرب.. فاستقرت مكانها فى انتظار منقذ.

توالت ليال، ورحل لاجئ آخر للغابة يكتنز بعض الحطب ليلقى جزعا محفورا عليه كلمات بحبر متجلط أحمر:
"استكانت تحت وطأة التبعية والاستعباد وأعباء التخلف والجهل والفرقة، "أمتنا" تآلفت الهوان بل وادخرت الضعف لنفسها واستسلمت لمقاديرها، ليس لدى ما أقوله لكم، فكأن النكبات والنكسات والمحن استوطنت بداخلنا وأصبحت جزءا مكملا وضروريا لكياننا ونسيجنا، نائبة وراء أخرى، الأخت تواسى يتامى، والخال يتكفل بأخواته الأرامل، ألم تكف صدمة واحدة ليتمعن حر عاقل فى التنكيل الواقع علينا؟!".

"أخوتى الصغار.. سامحونى.. والداى تركا لى أمانة ما أثقلها.. فانقطع السبيل ولم أقو على استئنافه.. عسى الله أن يبعث من أصلابكم من يتوج اسم زنوبيا عاليا.. فإن لم يكن بكم خير فـ للأقدار أن تدفئكم أو تدفنكم".










مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة