كما نأكل الرنجة والفسيخ والأسماك والبيض الملون والخس والملانة، فى شم النسيم كل عام باصرار واستمتاع، يخرج علينا السلفيون بفتاوى المنع والتحريم القديمة.. «لا المصريين بطلوا عاداتهم ولا السلفيين امتنعوا عن فتاويهم»، التى أصبحت مملة وسخيفة، ومن يتفوه بها أصبح مثل «شكوكو» فى موالد زمان، قبل ظهور السيرك بفقراته الممتعة، ولا أريد أن أتورط فى الرد على أسانيد دينية لا تستند ألا لعقول أصحابها، ونظرتهم المتشددة البالية، وإصرارهم على تعميم الكآبة بين جموع المصريين.
السلفيون أصحاب مزادات التحريم متأكدون أن الناس ستسخر منهم، ولكنهم يصرون عليها فى كل مناسبة، ومعظمهم لا يبغى وجه الله والإسلام، وإنما الشهرة والظهور فى وسائل الإعلام، حتى لو كانت شهرة سوداء ودعاية بالتجريس، وظنى أن معظمهم يأكلون الفسيخ والرنجة فى شم النسيم، أو على الأقل لا يستطيعون منع زوجاتهم واولادهم عنها، لأنهم متأكدون أنها ليست حراما، وأن تحريمهم لها يأتى من باب «خالف تُعرف أو تشتهر».
مصر جميلة بعادات شعبها الأصيلة، وحبهم للحياة، ورغبتهم الدائمة فى البحث عن السعادة ولو من خرم إبرة، ولكن بلادنا الحبيبة تغيرت بظهور صناع النكد والكآبة، وابتلينا بصنوف من البشر عادوا من الخليج بأفكار فيها قسوة الجبال وعصف الرمال، وارادوا أن يجعلونا قبائل، تحفر الارض بحثا عن قليل من المياة، رغم اننا نعيش على ضفاف النيل، وكلهم يشربون من ماعون واحد، ويخرجون افكارا متشددة حتى لو اختلفت نبرات الالسنة، ولا فرق بمن يفتى بتحريم البيض الملون، ومن يجيز قتل الأبرياء وترويعهم، فالعقول التى تنتج النكد واحدة، وإن اختلفت أحجامها.
نواجههم بالخروج فى شم النسيم إلى الحدائق والمتنزهات والنيل، نحمل الورود والخس والملانة والرنجة، عائلات وبنات وأولاد وكبار وصغار، نأكل ونشرب ونفرح ونغنى ونرقص، على نغمات فريد الأطرش الرائعة «الربيع»، وطقطوقة عبدالحليم حافظ «فاتت جنبنا»، ودنيا سمير غانم «منظرة منظرة فاضية وعنين فارغة.. ناس عايشة تمثل.. منظرة وكدب عادى علشان شكله يبيع بيته ويعزل».
كل الأكل الحلال مباح إلا الفسيخ الذى يشكل هذا العام بالذات خطرا كبيرا، بعد نفوق أعداد هائلة من سمك البورى فى كفر الشيخ والبحيرة، والخوف من أن يستخدمها عديمو الضمير والدين والأخلاق فى صناعة الفسيخ، و«الغلطة بفورة»، فلن تسعف المصاب حقنا أو أمصالا، بلاها فسيخ واسمعوا كلام الدكتور هانى الناظر، الذى بح صوته ناصحا ومحذرا من الفسيخ، لأن فيه سم قاتل.
هذه هى مصر أيها السلفيون، وهذا هو شعبها الذى تحاولون تغيير هويته ومسح ذاكرته، يأخذ من الحياة الوجه المضيئ، ويفتش عن السعادة والبهجة والفرح، حتى فى شهر رمضان الكريم الذى يهل بعد أيام، اخترعنا مع أشقائنا السوريين- فك الله كربهم- الكنافة والقطايف والفوانيس وزينة المساجد، فأصبح رمضان فى مصر غير رمضان فى سائر الدول..شهر الصوم والعبادة والبهجة والبشر والأكل والشرب، يفرح الصغار لقدومه مثل الكبار، وتكتسى الحياة بطقوس روحانية ومشاعر وجدانية، وتنساب على السنة العاشقين فى صلاة الفجر «اللهم صلِّ على النبى.. اللهم صلِّ على حضرة النبى».