• عمر بن الخطاب عن آية "كنتم خير أمة": نزلت فى خاصة من الصحابة
• الحسن بن علي ينفي إطلاق خير الأمم على كافة المسلمين ويؤكد: نحن آخرها وأكرمها عند الله
• أصل جماعات الأمر بالمعروف "يهودي".. والحريديم في إسرائيل يأسسون "شرطة فضيلة"
• تأسيس شرطة الأمر بالمعروف تقويض لمفهوم الدولة الحديثة وتسليم للميليشيات الدينية
• المعروف ما تعارف الناس على حسنه كالصدق والأمانة والمنكر ما استكرهوه كالكذب والسرقة
• داعش وبوكو حرام والسلفيون والإخوان يؤيديون وجود "شرطة دينية"
كثيرًا ما يطالب الأصوليون الإسلاميون في مصر بوجود "شرطة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، المسألة التي مورست عمليًا وقت حكم جماعة الإخوان، في أغسطس 2012 اعتدى عدد من السلفيين على شاب وقطعوا أذنه لوقوفه مع خطيبته بالشارع في طنطا، قبلها قُتل طالب بكلية الهندسة جامعة السويس على يد عدد من المنتمين لتيار الأمر بالمعروف للسبب ذاته، فضلًا عن ارتفاع الأصوات المطالبة بتأسيس هذه الجماعات خلال شهر رمضان الماضي لضبط من أسموهم بـ"المجاهرين بالإفطار"!
وقبل أن نلج إلى مناقشة الأسس الدينية والفقهية التي يستند عليها المتطرفون في شرعنة "الجماعات"، فإننا نشير إلى النماذج الحديثة لوجود جماعات الأمر بالمعروف بشكل "مقنن" وشرعي، أبرزها في الممكلة العربية السعودية و"الكيان الصهيوني".
السعودية تقلم أظفار "المطاوعة"
مؤخرًا، شرعت سلطات المملكة في إجراء عدد من التغيرات التي من شأنها تقليم أظفار أعضاء الهية وتقليل صلاحياتهم، وأصدر مجلس الوزراء السعودي قرارًا بمنع «المطاوعة» أعضاء الهيئة من إيقاف الأشخاص، أو مطاردتهم، أو طلب وثائقهم، أو التثبّت من هوياتهم، أو متابعتهم، واقتصرت مهام أفرادها، على إخبار الشرطة أو الجهة الأمنية المختصة؛ أي تحول أفراد التنظيم إلى "مساعدين لأجهزة الأمن" حال وقوع المخالفة.
وكانت الهيئة التي تعد بمثابة شرطة دينية، تأسست عام 1940 في عهد الملك عبد العزيز آل سعود «1875-1953»، مؤسس المملكة، ويعمل فيها قرابة خمسة آلاف عضو. كما تسببت من قبل في أزمات عدّة، بحسب تقارير لوسائل إعلام عربية وسعودية أشهرها في 2002، وقت أن منع أعضاء الهيئة في مكة دخول أولياء أمور طالبات إلى مدرسة نشب فيها حريق لانقاذ بناتهم بزعم أن الطالبات لا يرتدين الحجاب، وأغلق "المطاوعة" أبواب المنشأة ما تسبب حينها في زيادة عدد الضحايا!
"شرطة الفضيلة" في إسرائيل
أما داخل الكيان الصهيوني، فتنشط الأصولية اليهودية وتعمل على إحياء الوضع الذي كان قائمًا فيما يسمونه بالمجتمعات اليهودية الأولى، ومقاومة تأثيرات الحداثة والتحديث، وهي ذاتها المبادئ الأساسية التي تتوافر في الأصوليات الأخرى، استعادة و"بقاء" المجتمع الديني "النقي" والورع الذي يًفترض وجوده بالماضي.
واستطاع الأصوليون المتطرفون في إسرائيل تخصيص خط حافلات نقل عام للحريديين "جماعة أصولية تعمل على تطبيق التوراة في إسرائيل"، لفصل النساء عن الرجال داخل المركبات؛ ويصعد الرجال من باب أمامي والسيدات من آخر خلفي. كما استحالت بعض الأحياء من الملامح التعاونية إلى فصل بين الرجال والنساء، ويمكن مشاهدة أمام المخازن والمتاجر رتل من المشترين الذكور وآخر للنساء. وتكفهر الشوارع بالرجال الذين يرتدون السواد بينما يرجى من النساء ارتداء الثياب "المتواضعة".
ومن جهة، نظم سكان "مشعاريم" –مستوطنة بالقدس المحتلة- دوريات أخلاقية "شرطة فضيلة" مكلفة بمعاقبة اللواتي والذين يطلقون لأنفسهم العنان، تارة يتلقون ضربة على الكتف، أو قرصة، وأحيانًا ضربة بغصن، لإعادة المتمردين إلى سواء السبيل.
داعش والسلفيون والإخوان يؤيديون وجود "شرطة دينية"
وبالنظر تاريخيًا، نلاحظ ازدهار شرطة الأمر بالمعروف خلال دولة المماليك باسم "الحسبة"، وتنوعت مهامها بين الأخلاقية والتجارية. وحاليًا تتفق التيارات الإرهابية والرجعية والسلفية على ضرورة تطبيق ما تسميه بـ"الحسبة الشرعية"، ولا خلاف في ذلك بين تنظيم "داعش" و"بوكو حرام" والتيارات السلفية بمصر وجماعة الإخوان المسلمين، وبشأن الأخيرة سبق أن أوضح الباحث عمار علي حسن مآل "شرطة الإخوان" حال بقاء الجماعة على سدة حكم مصر، مبينًا رؤيته خلال ورقة بحثية بعنوان "من حسبة الدولة إلى شرطة الجماعة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لدى إخوان مصر".
فقهيًا، يستند الأصوليون في شرعنة "الشرطة الدينية" إلى نصوص قرآنية وأخرى نبوية، يزعمون أنها تدعو إلى وجود "هيئة" تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، بخاصة الآية 110 من سورة آل عمران "كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ"، والحديث الشائع "من رأى منكم منكرًا فليغيره.." رواه مسلم. ونتوقف في هذه المقالة أمام السند القرآني، آملين أن نناقش السند النبوي في موضع لاحق، إن كان في العمر بقية.
"كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ" نزلت في المهاجرين
يذهب العقل الأصولي إلى الاعتقاد في "أفضلية" الأمة الإسلامية كافة، استنادًا إلى آية "كنتم خير أمة"، وكأنها امتياز رباني لكل من ولد لأبوين مسلمين، وهي بنية وعي أشرنا إليها في مقالة سابقة، موضحين أنها تعرف بـ"المعتقد الاصطفائي" -اضغط لمزيد من التفاصيل- وتعتقد الأصوليات الدينية بمختلف الأديان أنها أفضل الأمم وأحسن الشعوب، فالأصوليون اليهود يرون أنفسهم "شعب الله المختار" ونظرائهم في المسيحية يعتقدون أنها "كرمة الرب التي غرسها في الأرض" والإسلاميون يظنون أنهم "خير أمة".
هل حقًا المسلمون كافة "خير الأمم"؟ يشير الواقع إلى أن أغلب الشعوب المسلمة تعيش عالة على العالم "فكريًا" وثقافيًا، ومع ذلك فالبحث في تأويل الآية أمر مهم. نعود إذن إلى التفاسير، لنقرأ في تفسير الطبري أن الآية نزلت في الذين هاجروا مع الرسول من مكة إلى المدينة "المهاجرين"، ويؤكد ذلك قول ابن عباس أن "خير أمة هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة"، كذلك قال عمر بن الخطاب «لو شاء الله لقال "أنتم"، فكنا كلنا، ولكن قال "كنتم" في خاصة من أصحاب الرسول». ويروي السدي "إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة" قولًا آخر لابن الخطاب عن الآية "تكون لأولنا ولا تكون لآخرنا"، كذا يرى الضحاك أنهم "أصحاب الرسول خاصة، وكانوا هم الرواة والدعاة الذين أمر الله المسلمين بطاعتهم"، وتأكيدًا على أنهم الصحابة، أو فئة منهم، يقول الحسن بن علي "نحن آخرها وأكرمها عند الله".
إذن، الخيرية في الآية تختص بالصحابة أو بخاصة منهم "جماعة"، والسؤال الذي نطرحه: ما مفهوم الخيرية ذاته في اللغة العربية وفي الخطاب القرآني؟ بالرجوع إلى المعاجم سنجد ورود "الخير" مضاد الشر، وبمعنى الأفضل والأنفع، كما تتقاطع مع دلالات الكرم والشرف والأصل والطبيعة، ما يكسب الآية معنيين، الأول: كنتم أفضل أمة، والثاني: كنتم أكثر الأممة نفعًا، والأخير أقرب لفهمنا لغويًا وتركيبيًا وقرآنيًا، فالخطاب لم يقل "خير أمة في الناس"، بمعنى الأفضلية؛ بل قال "خير أمة أخرجت للناس"، ودلالة حرف اللام لابد من وضعها بعين الاعتبار عند تأويل الآية. والنفعية هنا استنادًا إلى خير الناس للناس، واتساقًا مع الآية 104 من السورة ذاتها "آل عمران" «وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْر» أي لنفع الناس.
نستنتج مما سبق أن الأفضل، أو الأكثر نفعًا، الذين تشير عليهم الآية، هم من السابقين نظرًا لهجرتهم من "موطنهم" وما ترتب على الهجرة من خسارات لهم نظير دعم الدين ونشره. وإذا مددنا التأويل اللغوي، فالأمة تعني أيضًا الطريقة ما يعني أننا يمكن أن نقول "كنتم خير أهل طريقة" بقول الطبري. هنا يتضح وهن الأساس الأصولي الذي يُقام عليه التصور عن تميزهم وأفضليتهم، التي من خلالها يكتسبون حق ممارسة الوصاية على الناس بدعوى "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" حسب طرائقهم البدائية والوحشية أحيانًا.
دلالات المعروف والمنكر
يدعي الأصوليون أن الأمر بالمعروف واجب على كل مسلم، للدرجة التي يسميها البعض بـ"سادس أركان الإسلام"، دون تأطير مفهومي المعروف والمنكر، تاركين المعاني في حالة سيولة ودون تحديد؛ لنصل إلى أن المنكر هو كل ما يخالف رؤيتهم أو ما يعتقدون في صحته.
لغويًا، يعني المعروف ما تعارفت عليه الأمم من فضائل، وهو كل فعل يُعرف حسنه، وهي المبادئ المطلقة التي يسعى الناس إلى تحقيقها كالصدق والأمانة والعدل والإخاء والمساواة والسلام والاستخلاف في الأرض وتعميرها، بالمقابل المنكر هو ما تعارفت عليه الأمم من رذائل، أو كل فعل يُعرف قبحه، كالكذب والقتل والسرقة..الخ. ويصبح الإنسان مع هذه المعاني مكلف بالدعوة إلى الفضائل الكبرى، لربما تحسنت أحوال البشرية وتعايشت الأمم في سلام.
وهي رؤية تتوافق مع متن الآية 90 من سورة النحل "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ"، أي أن المعروف الذي أقرته الناس يتقاطع مع العدل والإحسان والمنكر الذي رفضته البشرية كالفحش والظلم.
الأمر بالمعروف وأهل الكتاب
لم يختص الخطابُ القرآنيُّ المسلمين، وحدهم، بالدعوة إلى الفضائل "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، وإنما هي مهمة ارتبطت دائمًا بالمؤمنينباله، مهما كانت دياناتهم، فآية "كنتم خير أمة" تحمل رقم 110 من سورة آل عمران، بينما يصف الخطاب أهلَ الكتاب "يهود ومسيحيين" في الآية 114 بـ« يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ» وفي سورة الأعراف «يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ»، وغير ذلك من المواضع، فهل معنى ذلك جواز السماح للمسيحيين في مصر بتأسيس شرطة دينية تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر على غرار "الحسبة" في الرؤية الأصولية؟
الإجابة بـ«لا» تنفي أمرين، الأول حمل آية "كنتم خير أمة" أية أمر بتشكيل "هيئة مطازعة" إسلامية، إلا وحملت الآية 114 الأمر ذاته لأهل الكتاب، وحينها تسقط الدولة وتصبح "الميلشيات" الدينية صاحبة السلطة، والواجب إتباعها، على الرغم من خلو الخطاب القرآني من أي إشارة إلى وجود مثل هذه الهيئات التي تتناقض ومفهوم الدولة المدنية من ناحية، ونصوص قرآنية تنفي حمل شخص وزر الآخرين "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" "المائدة 105".
خلاصة الخطاب القرآني وتأويله، أن الأنر بالمعروف والنهي عن المنكر عملية دعوية "خطابية" كلامية لا تختص بالمسلمين وحدهم، وإنما ترتبط بالأديان وتابعيها، ومشروطة بتقديم المنفعة للناس ولا تمنح أصحابها أية أفضلية على الأمم سوى أنها سمة إيمانية، وحتى لا تصبح الساحات مفتوحة ومشرعة دون ضابط، فإن الدولة الحديثة تنظم ذلك من خلال إدارة المساجد أو الكنائس وعمليات الدعوة والتبشير، أي أن العملية بكاملها تقتصر على الوعظ والإرشاد. هذا بشأن السند القرآني أما حديث "من رأى منكم منكرًا" فلنا معه وقفة في مقام آخر.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة