ما المانع في أن تقبل جائزة من إسرائيل؟ الرد الذي سيبادر به أكثر من ثلاثمائة مليون عربي دون تمهل أو تفكير تقريبا، وفي القلب منهم آلاف الكتاب والشعراء والمثقفين، أن إسرائيل دولة احتلال وترتكب جرائم بحق الفلسطينيين، إذن يبدو أننا قد نتفق على أن السياسة قد تدخل في الأدب والإبداع أحيانا، ومن هذا الباب حُرم أدباء روسيون وأوروبيون من جائزة نوبل إبان الحربين العالميتين، ورفضها آخرون، فماذا لو مددنا الخط على استقامته؟ هل يصح إجراء المبدأ نفسه على بلد يبدو شقيقا ولكنه ينحو منحى الأعداء؟ المنطق لن يترك متسعا للرماديين ليراوغوا ويهربوا، وإن كانوا أسوياء عقلا ونفسًا فلن يجدوا جوابا منطقيا إلا الإقرار، ولكنهم مع أول تلويحة بالشيكات والدولارات، قد يولون الأدبار للأسف.
قبل أكثر من 100 يوم اشتعلت أزمة عربية كبرى، طرفاها خمس دول، مصر والسعودية والإمارات والبحرين في جانب، وقطر في جانب آخر، عرض الفريق الأول أدلة ومعلومات تؤكد تورط الدوحة في ممارسات عدائية ضده، ورفضت الأخيرة الأمر برمته، وبين اتهام ورفض تغيب حقائق وتبرز أخرى، وبينما يحلو لفريق من المثقفين الموالين للنظام القطري والمتربحين منه، الدفاع عن الإمارة الخليجية الصغيرة والهجوم على موقف الرباعي العربي، تظل في سماء الساحة العربية شبهات تقترب لحد اليقين، بشأن علاقة قطر بالإرهاب والميليشيات المسلحة في اليمن وسوريا وليبيا والعراق ومصر، ووكالتها لقائمة من المصالح التركية والإيرانية، وهو ما لم تستطع قطر نفيه أو تقديم ما يضحده حتى الآن.
جائزة كتارا.. مزاد قطر لغسيل السمعة وشراء "مثقفى الشنطة"
قبل ثلاث سنوات أطلقت قطر جائزة أدبية في الرواية باسم كتارا، وبقيمة مالية مبالغ فيها قياسا على مستوى المسابقات الأدبية العربية، تبعتها جائزة بالاسم نفسه في الشعر تمنح فيها 300 ألف دولار مقابل قصيدة واحدة، عدلت قيمتها لاحقا لمليون درهم قطري، وبينما كان إطلاق جائزة الرواية خطوة على طريق الخصم من الحضور الإماراتي بعد ما حققته «البوكر» من أهمية وانتشار، وإطلاق جائزة الشعر المتخصصة في مدح الرسول مناطحة مباشرة لـ"البردة" الإماراتية، وضخامة جائزتها محاولة لسحب البساط من أمير الشعراء وشاعر المليون، يظل الأمر في إطار المنافسة السياسية والثقافية المقبولة، لو كان بريئا وغير موظَف في إطار سياسي أو ترويجي يغطي جرائم وتجاوزات، ولكن الآن تداخلت الأمور وجرت في النهر مياه لا حصر لها، ولم يعد الرهان حسنُ الظن قائما، ومن ثمّ تحولت الجائزة لكمين يكشف تهافت الساحة الثقافية العربية وشراء الذمم والولاءات.
قطر دولة راعية للإرهاب، وحتى لو كان موقف دول الرباعي العربي منها فيه شيء من الغلظة والتجني، كما يرى فريق التبرير الثقافي الطامع في خزائن الجوائز القطرية، فالمقطوع به أن لها يدا مباشرة في نزيف الدماء بسوريا وليبيا واليمن والعراق وغيرها، وتحتضن جماعة الإخوان وقيادات الجماعة الإسلامية المتورطين في دماء مصرية، ومثل هذا السجل الدموي لا يمكن أن يكون قبلة لقيمة ومبدأ، أو حاضنة لثقافة وإبداع، والتطبيع الثقافي مع هذه اليد المخضبة بالدم لا يقل جرما وسفالة عن التطبيع مع إسرائيل، ويبدو أننا في زمن الكُتاب «على ما تُفرج» بعطية أو جائزة أو مشترٍ.
"ثقافة السبوبة".. مصريان يتلقيان ثمنهما من نظام قطر غدا
الآن، وقبل يوم من إعلان النتائج وأسماء الفائزين، ربما تفرض علينا اللحظة الثقافية والسياسية إعلان موقف واضح وجذري، ليس من قبيل المزايدة أو التحريض، وإنما من قبيل تحرير السياقات وضبطها، فهل يمكن احترام أي كاتب مصري تقدم لجائزة كتارا القطرية في موسمها الأخير؟ وهل يمكن تمميز هذا التوجه - لو اختاره البعض - عن أفعال المرتزقة والباحثين عن مغنم دون اعتبار لأي محدد قيمي أو أخلاقي؟ وهل لو مددنا الخط يمكن اعتبار هذا الموقف انتهازية ربما تسمح لصاحبها في يوم من الأيام بقبول جائزة إسرائيلية؟
المعلومات المتوفرة حتى الآن تشير لفوز اثنين على الأقل من الكتاب المصريين بالجائزة، لا يمكن لأحد بالطبع حرمانهما من هذه المشاركة أو المصادرة على موقفهما، ولكن وكما اتخذا موقفا واضحا بالانحياز للمال حتى لو جاء مخضبا بالدم، يمكننا مساءلة هذا الموقف وطرح مواقف موازية ومقابلة ومعارضة أيضا، إذ لا يمكن حمل موقف المتقدمين للجائزة ومن قبلوا الحصول عليها على الثقافي والأدبي منزوعا عن السياسي والقانوني، وإلا فما المانع من مفاجئتهم لنا مستقبلا بالتقدم للجوائز الأدبية الإسرائيلية؟ ومن هذا الباب فلا تزيُّد لو اعتبرنا هذه المشاركة المصرية من بعض الكتاب والمثقفين دعما مباشرا للدولة القطرية، أي أنها دعم لوجود عسكري واستخباراتي قطري قالت الجهات الليبية الرسمية إنه يعيث فسادا فوق ترابها، ودعم لأسلحة ولوجستيات تصل للحوثيين عبر مصادر وأموال قطرية وسفن وقطع بحرية إيرانية، ودعم لجبهة النصرة وميليشيات سورية توفره الدوحة بأموالها وتمرّره تركيا عبر أراضيها، ودعم لعناصر "داعش" في سيناء، ودعم لتمويل نظام تميم للميليشيات العراقية بمليار دولار دفعتها الدوحة تحت لافتة "الفدية" لأفراد مختطفين من أسرة "آل ثاني" الحاكمة، ودعم لجماعة الإخوان الإرهابية وقياداتها وللجماعة الإسلامية وعاصم عبد الماجد وطارق الزمر وحركتي طالبان والقاعدة، وكلهم تحتضنهم الدوحة في قصورها ومبانيها وتوفر لهم أعمالا ومقرات ورواتب ومكافآت مالية، من الخزينة نفسها التي خرجت منها جوائز أدبائنا المغاوير، أي أننا ونحن نهنئ كتاب مصر الفائزين بـ"كتارا" - لمن تطاوعه نفسه في أن يهنئهم - فإننا نهنئ ضمنيا مسلسلا طويلا من الإرهاب وإراقة الدماء، ومحاولات سطحية رخيصة لتبييض الوجه وغسيل السمعة، يصنعها بعض الحقيقيين احتياجا وعوزا، وكثيرون من "المديوكرز" انتهازية وسبوبة.
جائزة كتارا ومديرها.. الثقافة في خدمة "دعم الإرهاب"
يُفترض في أي ميزان ثقافي معتدل، أن تكون الجوائز المقدّرة وذات الثقل بمنأى عن التوظيف السياسي ومنطق البروباجندا وغسيل السُمعة، وكل الجوائز الدولية المحترمة اختارت في سبيلها لتحقيق حضورها النوعي النزيه أن تستقل عن الدول والأنظمة، وعلى هذا المنطق درجت المؤسسات والمثقفون، ويندر أن تجد مثقفا عالميا مرموقا يقبل جائزة مدعومة من حكومة أو نظام حكم، فما بالك لو كان النظام الداعم للجائزة مدموغا بدعم الإرهاب وتهديد الميراث الحضاري والثقافي لمحيطه الإقليمي؟ هذا ما ينطبق على قطر، وهذا ما يغالط "مثقفو السبوبة" المصريون أنفسهم بشأنه.
ربما كان ممكنا تجاوز الأمر لو كانت "كتارا" جائزة مستقلة وممولة بعيدا عن النظام القطري، ولكن ليست المشكلة فقط في أن قيمتها المالية تخرج من الخزانة نفسها التي تخرج منها الأموال والشيكات الموجهة لإرهابيين وميليشيات في أرجاء الأرض، إذ يُضاف لهذا أن مسؤولي الجائزة أنفسهم متورطون في أمور أبعد ما تكون عن الأدب والإبداع والعمل الثقافي المجرد من الحيازات والتوجيه والتوظيف السياسي المشبوه.
"كتارا" جائزة تنظمها مؤسسة الحي الثقافي "كتارا"، التابعة إداريا لوزارة الثقافة القطرية، وماليا للقصر الأميري ورأس نظام الحكم بشكل مباشر، يتولى إدارتها خالد بن إبراهيم السليطي، المنتمي لفرع عائلة "السليطي" الداعم لأسرة "آل ثاني" وممارساتها، والمحرض على سحب الجنسية من مئات المواطنين من أبناء قبيلتي "آل مرة" و"آل غفران"، بل وصل تحريض هذا الفرع إلى الدعوة لسحب الجنسية من بعض المعارضين من أبناء أسرة السليطي نفسها، ومنهم المعارضة القطرية البارزة منى السليطي.
خالد السليطي مدير كتارا نفسه شريك مباشر في كثير من ممارسات قطر العدائية والمتصلة بدعم الإرهاب، إذ إنه واحد من مجموعة تضم خمسة من كبار المسؤولين القطريين، مكلفة من القصر الأميري وتميم بن حمد بالتواصل مع الجماعات والحركات الموجودة في الدوحة، ومنها طالبان والقاعدة والإخوان والجماعة الإسلامية، إضافة إلى تكليفه بملفات العلاقات العامة والبروباجندا والترويج الثقافي وغسيل السمعة، منها مثلا توليه اتفاقات قطر مع عدد من شركات العلاقات العامة الأمريكية، منها "سكوير باتون بوجز"، و"بورتلاند"، و"يرسون مارستيلر"، و"أشكروفت"، و"جالار"، لجمع المعلومات والترويج لقطر وتحسين صورتها الثقافية واجتذاب المثقفين والكتاب وأعضاء الكونجرس لتأييد الدوحة ودعم مواقفها، وكان أبرز العقود التي تولى "السليطي" تنسيقها، ووقعه خليفة بن فهد آل ثاني، حفيد أمير قطر السابق حمد بن خليفة، مع مجموعة "جلوبال ستراتيجيز كونسيل"، جرى توقيعه في نهاية مارس 2017 بقيمة مدفوعة قدرها مليونا دولار أمريكي، للتنسيق والتواصل مع مختطفي 26 قطريا في العراق، وبموجب هذا التعاقد دفعت قطر مليار دولار في بداية أبريل التالي، لممثلي عدد من الميليشيات العراقية المسلحة، كان في ظاهره فدية لتحرير الرهائن القطريين، وفي جوهره تمويلا مباشرا لإرهابيين عراقيين بوساطة أمريكية.
الثقافة في خدمة الإرهاب.. أدباء بدرجة "مسحوق غسيل"
غدا ستعلن "كتارا" نتيجة دورتها الثالثة، وبحسب المعلومات المتوفرة حتى الآن تأكد فوز اثنين من المصريين بين 10 فائزين تقريبا، خمسة في فرع الرواية المنشورة، وخمسة في فرع الرواية غير المنشورة، واثنان يُختاران من بينهما لجائزتين أخريين في تحويل الرواية لعمل درامي، جوائز الخمسة الأول ثلاثون ألف دولار للكاتب الواحد، والخمسة الآخرون ستون ألف دولار، ومائة ألف ومائتي ألف دولار على الترتيب لتحويل الرواية لعمل درامي، فهل يقتنع الفائزان المصريان، وغيرهما ممن ربما حصدوا الجائزة وينتظرون الإعلان غدا، بأنهم خاضوا منافسة أدبية صافية وخالصة لوجه الأدب والإبداع؟ أم أنهم خاضوها وفي قلوبهم شك في أن الثلاثين أو الستين ألف دولار مقابل سياسي تحت لافتة أدبية؟
الحقيقة أن قيمة الجائزة ضخمة ومغرية، قياسا على الجوائز المصرية والحالة المادية لكتابنا، ولكن هل لا يشعر الفائزان المصريان - وكانا من منتقدي قطر ومهاجمي نظامها ومواقفها - بشيء من الغضاضة وهما يُصافحان غدا يدًا انتقداها من قبل؟ وهل لا يريان في الأمر ترخُّصا وانحدارا بمواقفهما وقلميهما؟ وهل يريان مبلغ الجائزة مقابلا عادلا للعب دور "مسحوق الغسيل" أو أوراق "الكلينكس" لدولة قطر ونظامها وأميرها؟ لا أحد يملك الإجابة غيرهما، ولا ميزان إلا تقديرهما لسعريهما والقيمة المدفوعة من المشتري وحيز ما يمكنهما لعبه من أدوار ثقافية وسياسية.
أحد الفائزين تعرض لهجوم شرس قبل شهور قليلة، لمشاركته في مؤتمر ثقافي فلسطيني بالضفة الغربية، وقبوله خاتم السلطات الإسرائيلية على جواز سفره، ولا نعلم هل يمكن أن يفعل الثاني الفعلة نفسها لو دُعي لها أم لا، ولكننا اليوم أمام موقف مماثل، كاتبان مصريان خرجا من القاهرة ترانزيت عبر بيروت، وهبطا في مطار حمد الدولي بالدوحة، والآن يستعدان لوضع يديهما في يد تميم بن حمد ونظامه، والتقاط شيكين عامرين باليدين الأخريين، ربما يعودان من الرحلة ليمارسا البرجوازية الثقافية على مقاهي وسط القاهرة، ويحاولان إقناعنا بجدارة ما كَتَبا وقدّما للجائزة، وأنها وصلت محطتيهما بقوة دفع الجدارة والاستحقاق وحدها، ولكن الأكيد أنهما لن يعودا كما ذهبا، سيهبطان أرض الوطن ومعهما غنيمة كبيرة - في نظرهما - ربما بسببها لن يلحظا أنهما تركا شيئا من الكرامة وشرف الانحياز هناك، في دولة غنية تعرف كيف تشتري الفقراء والمعروضين للبيع، تحت لافتة الثقافة، لتعيد تدويرهم واستخدامهم في مواخير السياسة.