خطأ أعتقد تماما أنه عابر، تكررت أخطاء شيرين عبد الوهاب، ولكنها جميعا عابرة وغير مقصودة، جانب منها يعود لطفولية ما تسيطر على شخصيتها، وجانب تصنعه الغيرة، وربما تتصل جوانب أخرى بالتحصيل الثقافى أو القفزة الاجتماعية غير المصحوبة بقفزة معرفية ونفسية موازية، ولكن السيدة الثلاثينية جميلة الصوت ومحدودة الدماغ ليست سيئة النية ولا أقل منّا وطنية.
انتقدتُ شيرين من قبل لموقفها المراهق من عمرو دياب، ولمزحتها السخيفة فى تونس، المرة الأولى كانت محبة فى مشروع "عمرو" ونجاحه الاستثنائى، واستهجانا لغباء التورط فى مشاحنة شخصية مع منافس فى المجال نفسه، سواء كان أعمق تجربة وأقوى تأثيرا أو لا، وفى الثانية كانت محبة لبلد شقيق يمتلئ قلبى بهواه ولم أزره، وخوفا من أن يحسب التونسيون سخافة شيرين على مصر فتتوتر علاقات بلدين وشعبين بسبب غِرّة محدودة الوعى، ولكن فى هذه المرة أشعر أن جرعة الهجوم والتجييش المجتمعى العام ضدها كانت قاسية، واستشعرتُ من بعض رافعى السيوف والحراب فى وجهها أنهم فى مظاهرة "تطهر" غير مقنعة.
شيرين "حنجرة جميلة" وليست وجها دبلوماسيا أو سياسيا
لست من الفريق المفتون بمشروع شيرين عبد الوهاب، إن افترضنا جدلا أن لديها مشروعا فنيا - وهذا أمر غير دقيق - أحب صوتها الجميل القوى المطعّم بنكهة شرقية مصرية شجية، ولكن لا أحب أغنياتها السطحية مُعادة الإنتاج والتعليب، وفى كل الأحوال أراها صوتا عظيما وفنانة مهمة وإن لم تكن من قائمة تفضيلاتى، وأراها حنجرة بدون رأس، تابعت رحلتها منذ مطلع الألفية وظهورها فى ألبوم مشترك مع تامر حسنى، مرورا بمشكلاتها مع نصر محروس وتامر وعمرو مصطفى وعمرو دياب وتونس، وأخيرا نهر النيل، وارتحت لأن أتعامل معها كفنانة، ولا أحمّلها فوق طاقتها بالوقوف على كل حرف لها وكأنها وجه دبلوماسى أو سياسى أو أكاديمى أو فكرى، السيدة حنجرة جميلة وحسب.
حينما وصلت مقر "اليوم السابع" صباح أمس، وحكت لى إحدى الزميلات ما حدث، وأن شيرين أتبعت مزحتها السخيفة بنصيحة "اشربى إيفيان"، ضحكت وقلت: "المستفز إنها ما قالتش بركة أو نستله، وبتحرق دمنا بنوع مية 90% من المصريين مش هيعرفوا يشربوه"، وتجاوزت الحكاية، ولكن للحقيقة دعوت لها فى خاطرى، رغم قناعتى العميقة بأنها أخطأت وتستحق النقد والتوجيه، ليقينى أن مخالب لا حصر لها سيغرزها أصحابها فى لحمها، قليلون منهم حسنو النية، وكثيرون أصبحوا مغرمين بذبح الناس.
هل تعمدت "شيرين" أن تذكر إيفيان تحديدا كنزوع طبقى طارئ؟ أم أنها ذكرتها كون الحفل فى الشارقة وهذا النوع من المياه الطبيعية شائع الاستخدام بالإمارات؟ وهل لو قالت بركة أو نستله أو أى نوع آخر كانت مزحتها ستصل كما تخيلتها؟ أعرف أنك تستغرب هذه الأسئلة السخيفة فى هذا المقام الذى تراه جللا، ولكن صدقنى السخافة الحقيقية أن تتخيل - بسوء نية وقصد لا بإحسان ظن ورغبة فى التوجيه وضبط المسار - أن البنت المسكينة كانت تتعمد إهانة مصر، وأن تسن عليها سكاكينك!
أسود "السوشيال ميديا" يشوهون مصر ويزايدون على شيرين
طوال نهار وليل الثلاثاء كنت أتجول فى "فيس بوك" متابعا الحفلة والمولد المنصوب على مغنية، لم تدّع يوما أنها أكثر من مغنية، تجاوز الأمر حدود النقد والتقريع واستهجان الخطأ، إلى الكرامة والعِرض والردح الطبقى للفتاة الفقيرة التى "نسيت أصلها" بحسب تعبيرات الذابحين، والغريب أن حصة كبيرة ممن أشعلوا الحفلة، وأكثر الناس مساهمة فيها، هم من يسبّون مصر ليل نهار على السوشيال ميديا ويسمّونها "ماسر"، ويستكملون قصائد إهانتها بتعبيراتهم الكليشيهية "ربنا يتوب علينا من ماسر"، "ويا رب نخلع من ماسر"، وعبارات أخرى لو اقتبستها هنا لواجهت بلاغا بإهانة مصر ونشر الفجور وفُحش القول، وفضلا عن أنهم حرموا "شيرين" مما أجازوه لأنفسهم، فإنهم تجاهلوا أن لها فى عبارات المحبة رصيدا، ولو كانت أغنيات مصنوعة بركاكة، ورصيد المحبين - فى عُرف العُدول - لا يسقط بـ"زلة لسان".
ربما لقدرٍ من إحسان الظن، أعتقد أننى أتحلّى به، كنت أتوقع أن يكون الخلاف على خفّة ظل "شيرين" أو ثقله، على ظُرف الإيفيه أو سماجته، على ملاءمة السياق أو مخالفته، ولكن ليس على وطنية أو خيانة، هذا تزيّد ما بعده تزيّد، ومصر أكبر من أن ينتقص منها تصريح أو يهينها "إفيه" ساذج، حاولت شيرين المزاح وأخفقت، هذا كل ما فى الأمر، وجميعنا نستهجن سوء حال النيل ليل نهار، ورئيس الدولة أكثر موضوعية وهو يُعدّد مشكلاتنا وأزماتنا ليل نهار، فالاعتراف بداية الحل، والمعرفة شرط تجاوز الأزمة، وكثيرون من حضرات الثائرين على "شيرين" يقضون حاجاتهم ويلقون زبالتهم فى النيل، فهل نحن أكثر إهانة له أم شيرين؟
إفيه شيرين "السخيف" يضعنا أمام تناقض قضاة الأخلاق
هل تعرف كيف يتعامل الفرنسيون مع "إيفيان"؟ نبعة الماء التى صنعت بلدا وأصبحت شريانا مقدسا طوال 194 سنة، منذ هبط رجل اسمه "فوكونت" البلدة الريفية الفقيرة التى تحمل الاسم نفسه على الجانب الشرقى من بحيرة "ليمان"، الواقعة بين فرنسا وسويسرا، فى العام 1823، وأقنع أسرة "كاتشات" التى تملك نبعة ماء طبيعية باستغلال هذا المورد، فكانت زجاجات "إيفيان" المميزة، التى لم تتوقف تعبئتها طوال ما يقرب من قرنين، ولم تسمح فرنسا بتعطل خطوط إنتاجها فى أحلك فتراتها، مرورا بحربين عالميتين، حتى أصبحت أشهر وأغلى ماركة مياه فى العالم، وصنعت بلدة جميلة ووديعة فى حضن جبال الألب، بعدما كانت بلدة ريفية فقيرة ومهملة، فهل نحترم النيل كما يحترم الفرنسيون "إيفيان"، حتى نزايد على سيدة خانها التوفيق فى تعليق عابر نتورط جميعا فى أشباهه بشكل يومى؟ وهل توقفنا عن سبابنا المتواصل له بأكياس الأكل وعُلب المشروبات ونحن فى المراكب وعلى الكبارى مساء كل يوم؟
كان المصرى القديم، وفق النصوص الموثقة فى كتاب "الخروج إلى النهار"، يبدأ رحلة البعث والعالم الآخر فى قاعة "العدالة المطلقة" لتبرئة نفسه من كبائر العالم والحياة الدنيا، قائلا: "أعطيت الحق لفاعله، وأعطيت الظلم لمن جاء يحمله، لم أظلم إنسانا، لم أسئ استخدام حيوان، لم أُغضب الرب، لم أُحرض على القتل، ولم أُلوّث ماء النيل"، فهل لو ارتدّ بنا الزمن، ومعنا شيرين عبد الوهاب، إلى قاعة العدالة المطلقة فى مصر القديمة، سيجرؤ أى منّا على المجاهرة بهذا القسم؟ تخيل أن "شيرين" التى حرمتها النجومية من السهر على كورنيش النيل أو كوبرى قصر النيل أو ركوب أحد المراكب المتهالكة على صفحته، يمكنها أن تقول "لم ألوث ماء النيل" ولن تكون كاذبة؟ فلماذا يُزايد ملوّثو النيل على من قالت ولم تفعل؟!
شيرين أخطأت.. ونقابة الموسيقيين والإذاعة والتليفزيون أيضا
الإهانة الحقيقية لمصر فى تصورى أن ترد نقابة المهن الموسيقية على خطأ "شيرين" بخطيئة، وأن تقرر حرمانها من تصاريح الحفلات، ما يُعنى حرمانها من الغناء، وأن يقرر اتحاد الإذاعة والتليفزيون منع أغنياتها، وهذا من قبيل ردّ الطيش بالطيش، ولا أراه إلا تبسيطا وقلّة عقل، ورسالة خارجية تحمل إهانة حقيقية وقوية لمصر، ربما تتجاوز أثر ما رأيتموه إهانة فى دعابة "شيرين" السمجة، فلا يُوجد بلد عاقل يقوّض قواه الناعمة بهذه الحدّة، ويُحاسبها بتلك الغلظة والعنف، إذا استثنينا بالطبع الحقبة المكارثية فى الولايات المتحدة الأمريكية، ولا أعتقد أننا نطمح لاستدعاء روح السيناتور جوزيف مكارثى لتفتيش صدور الناس ونواياهم.
مصر أكبر من الإهانات والآراء، العميقة أو السطحية، الظريفة أو السمجة، ولو كانت قذارة النيل إهانة فإن اللوم واقع على من فعل به هذا، ولو كانت البلهارسيا عارا فجرمها معلق فى رقبة من أصابنا بها، يتحمله محمد على وأسرته حتى فاروق، وتتحمله دولة يوليو، ويتحمله السادات ومبارك، ويستحق الأخير أن نذكر له جهدا كبيرا فى الثمانينيات والتسعينيات للقضاء على هذا المرض، ولو كانت "شيرين" أخطأت فى دعابة سمجة، فممارسات ملايين المصريين فى أشغالهم وبيوتهم وعلى "السوشيال ميديا"، وفى مواقع "البورنو" التى نحتل موقعا متقدما فى قوائم زائريها، والتحرش بالفتيات والنساء فى الشوارع، هى ما يصنع صورة مصر ويهينها بالداخل والخارج، وليست دعابة عابرة من مطربة، فى حفل لا يتعامل رواده مع فنانتهم باعتبارها معادلا موضوعيا لمصر أو تكثيفا كاملا ووافيا لصورتها وشخصيتها ووعيها وحاضرها وتاريخها، فمصر أكبر من "شيرين" ومنّا جميعا، ولو نطقت مصر نفسها بلسان بشرى لسامحت وتسامحت.
شعرت بقدر من المبالغة فى ردود الفعل على خطأ "شيرين"، الذى أقر أنه خطأ، وأقرّت هى نفسها أنه خطأ، ولكن المهم أن الضحية سلّمت وأسلمت رقبتها للسكين، فقد أصدرت شيرين عبد الوهاب بيان اعتذار مساء أمس، بيانا منكسرا ما كنتُ أحب لها أن تصدره، فضلا عن أنه عاطفى وركيك فى الصياغة والبناء، ولكننى أحسست بالضعف وقلة الحيلة والهوان على الناس وأنا أقرأه، واستشعرت كيف كانت حالتها وهى تُملى ما تضمنه على مستشارها الإعلامى، أو تسمعه منه وتُقرّه، المهم أن الحملة المقدسة آتت أُكُلها واستسلمت الفريسة لنهش "السوشيال ميديا"، ونجحت المهمة الجليلة لكسر شيطانة على أيدى الملائكة، بعدما عيّرها الجميع بوضاعة الأصل و"الشبع بعد جوع"، فهل يكفى هذا لأن تتدفق حمم الوطنية فى الأدمغة وأن نشعر أننا قمنا بأدوارنا المقدسة وأدّينا ما علينا للوطن؟
هل تجد فضيلة التسامح لها مكانا؟ أم علينا مواصلة مهرجان الذبح؟
"إذا صح منك الودّ فالكل هين"، شطر من قصيدة للشاعر العربى الشهير أبى فراس الحمدانى - غنّت له أم كلثوم قصيدة "أراك عصىّ الدمع" - وبعيدا عن الموضوع الأصلى للقصيدة التى استشهدتُ باقتباس منها، فالمعنى العميق أن الثقة فى نبل الشعور تكفى للقفز على العثرات والأخطاء العابرة، وشخصيا لا أُشكّك فى وطنية "شيرين" وحبها لهذا البلد، بغنائها أو بمشاركاتها الاجتماعية وتبرعاتها العديدة للخير، وبهذا المنطق فإن سقطتها الأخيرة سقطة المحب لا العدو، وخطأ المُجلّ المُحترِم للوطن لا المُهين المُحقِّر منه، وليس الحبيب كالعدو ولا المُجلّ كالمُهين، ولا من العدل أن تُسَنّ السكاكين على العاشق كما تُسَنّ على الكاره المحارب.
كلنا أخطأنا ونخطئ فى حق هذا البلد، المُقصّر فى عمله مخطئ، والموظف المُرتشى مخطئ، والمهاجم الشتّام على "السوشيال ميديا" مخطئ، والمُحقّر من كل فعل إيجابى وإنجاز وطنى مخطئ، ومن يُلوّث النيل بنفاياته مخطئ، وبينما نخطئ ونتهرب من أخطائنا، أخطأت "شيرين" واعتذرت، فهل تجد فضيلة التسامح مكانا لها فى بلد التسامح، الذى لو نطق ترابه لسامح أعداءه قبل أصدقائه، أم أن علينا أن نواصل مهرجان المزايدة والذبح، منتصرين للخطأ ومتجاهلين الاعتذار؟!
حتى متى ستظل شيرين عبد الوهاب حنجرة بدون رأس؟
شيرين عبد الوهاب فنانة مهمة، وإن لم تصنع غناء مهما حتى الآن بحسب تصوري، وبموهبة حقيقية وجهد شاق ومضنٍ ارتقت من النشأة المتواضعة فى القلعة إلى حدائق علية القوم، ومن الفقر إلى الغنى، ومن المجهولية إلى النجومية والانتشار، مشكلتها أنها لم تتخلّ حتى الآن عن رواسب النشأة وما فيها من بساطة وعفوية وصراحة تقترب لحدود الصدمة، السيدة لا تعرف حتى الآن أنها أصبحت نجمة وسيدة مجتمع، وعليها أن تعرف أنها مهمة ومؤثرة، وأن كلمتها ليست ككلمة غيرها، ومزاحها ليس كمزاح غيرها، وخطأها أيضا ليس كخطأ غيرها.
إن كان لى شخصيا عتاب على شيرين عبد الوهاب، فهو أنها تهدر صوتا عظيما فى غناء تافه، ولم تسع - ولا يبدو أنها توّاقة - لصنع مشروع حقيقى ولائق بهذا الصوت الرصين، وأنها ارتقت اجتماعيا بموهبة وجهد، ولم تبذل منهما شيئا للارتقاء معرفيا وثقافيا، وطوال 16 سنة منذ انطلاقتها وتحقيقها لنجومية عريضة تغطى أرجاء الخريطة العربية، لا يبدو أنها قرأت كتابا أو حضرت ندوة أو صادقت كاتبا أو مثقفا، وحتى الآن لا تلحظ أن موهبتها عارية، وإن كانت السماء منحتها وفرة فى الموهبة وحرمتها حظا من الذكاء، فهذا فى ذاته ليس مُشِينًا، والشائن المُشين ألا تسعى لتعويض هذا بالقراءة والمعرفة والتقرّب ممن يفهمون ويُحسنون إدارة موهبتها، أزمة "شيرين" - التى قد تقضى عليها لا قدّر الله - أنها لا تُحسن إدارة موهبتها، ولا يوجد بين المحيطين بها من يأخذ بيدها، وهذا وحده كفيل بإغراقها، فى مرات مقبلة ومياه أعمق، لو أكرمها الله هذه المرة بالنجاة من موج النيل.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة