فى ربيع 1986 انقلبت الأحوال فى مبنى CIA فى ضاحية لانجلى، وكان كبار قيادات الجهاز يستعرضون شريط فيديو للاشتراكى الثورى الكبير ريجيس دوبريه، الثورى الفرنسى، صديق فيدل كاسترو، وتشى جيفارا، والليندى، وكبير مستشارى الرئيس الفرنسى الأسبق «فرانسوا ميتران»، كان دوبريه يعلن أن هناك قوة فى فيديو موسيقى الروك والأفلام، وبنطلونات الجينز الزرقاء، والوجبات السريعة، وشبكات الأخبار ومحطات التليفزيون، أكبر من الجيش الأحمر كله، كان دوبريه يقر بهزيمة المعسكر الشرقى أمام نموذج الدعاية الناعم للرأسمالية. وبعد 3 سنوات فقط سقط سور برلين، ليس بالصواريخ والدبابات، لكن بالدعاية الأمريكية الناجحة، وخلال خمس سنوات من كلمة دوبريه انهار الاتحاد السوفيتى.
كان هناك حديث عن نهاية التاريخ، لكن هذه النهاية لم تكتمل ووصلت لمحطات أخرى، لدرجة شكاوى أمريكا من تلاعب محطة تليفزيون ومواقع إنترنت روسية، فيما يبدو أنها محطة جديدة من محطات الصراع على النفوذ الناعم، تكشفها الحرب بين مؤسسات أمريكية وأخرى روسية، تشير إلى أن القوة الناعمة التى ظلت الولايات المتحدة الأمريكية تتفوق فيها، وكسبت بها الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتى، تراجعت.
هذا التراجع يرصده مفكرون وخبراء أمريكيون وتؤيده الجولة الحالية بين الأمريكان والروس.
تشكو واشنطن من اختراقات روسية، هيلارى كلينتون مرشحة الديمقراطيين الخاسرة تصر فى كل أحاديثها على تعليق هزيمتها أمام ترامب على شماعة تدخلات روسية، وتحالف آلاف القراصنة وتسريبات ويكليكس، ومحطات روسيا اليوم وسبوتنيك، وهو أمر تحول إلى مجال للسخرية فى موسكو، حيث قدمت «روسيا اليوم» فيديوجراف ساخرا بعنوان «كيف تصنع رئيسا أمريكيا.. أحضر قراصنة وتسريبات تصبح رئيسا».
تفاعلت العقدة لدرجة إعلان الكونجرس سن قانون يصنف الإعلام الأجنبى على أنه من «العملاء»، وأبلغت وزارة العدل الأمريكية «RT». بتسجيل مؤسساتها وحجب تويتر إعلانات روسيا اليوم وسبوتنيك، وهو ما دفع مارجاريتا سيمونيان مديرة مجموعة «روسيا سيجودنيا» وقناة «آر تى»: للقول «لم أكن أظن أن تويتر تديرها المخابرات الأمريكية، كنت أظن أنها نظرية المؤامرة، إلا أن «تويتر» أقرت بذلك بنفسها»، فيما أعلنت وكالة «بلومبرج» أن عملاق البحث «جوجل» أزال قناة «RT» من حزمة الفيديو المتميزة على «يوتيوب».
هذه التخوفات والتصرفات العصبية تمثل تراجعا فى ثقة أمريكية مستمرة منذ كسب الحرب الباردة، وشرخ فى «القوة الناعمة»، المفهوم الذى ابتكره المؤرخ والصحفى البريطانى «إدوارد هاليت كار» للتمييز بين القوة العسكرية والقوة الاقتصادية وقوة الرأى، وطور هذا المفهوم الباحث الأمريكى جوزيف ناى، منظِّر مفهوم «القوة الناعمة»، ويرى أن الترغيب والترهيب هما القوة الصلبة المادية، بينما الإغراء والجاذبية هما «القوة الناعمة» الضرورية فى السياسة الدولية.
وهو ما طرحه قبل سنوات كتاب «الإعلام الأمريكى بعد العراق.. حرب القوة الناعمة»، لمؤلفيه «نيثان جرديلز» و«مايك ميدافوى»، وصدر عن المجلس الأعلى للثقافة بترجمة بثينة الناصرى، ويشيران إلى أن النموذج الأمريكى كان هو المهيمن على الصور والأيقونات والمعلومات عالمياً، وأن التكنولوجيا مكنت الآخرين من رواية قصصهم وإنتاج أساطيرهم، وساعدت الثورة الرقمية على ديمقراطية تدفق المعلومات عالمياً ونوعت المنابر لتشمل مع التليفزيون والكمبيوتر، شاشات الموبايلات ليتحول التدفق الثقافى إلى شارع ذى اتجاهين. ويرى الكاتبان أن حاجة أمريكا إلى التنافس من أجل الولاء، تتضح، خاصة بعد حرب العراق و«جوانتانامو وأبو غريب».
وتبدو التصرفات العصبية الأمريكية تجاه الأدوات الروسية تعبيرا عن جولة خاسرة نوعا ما بلغت ذروتها فى الانتخابات الرئاسية الأخيرة، لكنها أيضا تؤكد أهمية وخطورة القوة الناعمة فى ظل العولمة التى تعبر عن شكل التنافس فى العالم أكثر مما تعبر عن مفاهيم مثل «حروب الأجيال»، لأنها تقدم دروسا كل يوم للدول المختلفة وليس لأمريكا وحدها.