لا يزال موضوع البحث عن مقبرة عمرو بن العاص يثير جدلاً واسعاً، فبعد إعلان الدكتور عبد الباقى السيد عبد الهادى، أستاذ التاريخ الإسلامى بجامعة عين شمس، أن القبر موجود فى مسجد عقبة بن عامر، لكن الباحث الأثرى مصطفى فوزى، مدير منطقة آثار عابدين والقصر العينى، ومدير إدارة التنمية الثقافية والوعى الأثرى بالمنطقة، اعترض على هذه الفرضية وقدم 11 نقطة ليؤكد أن قبر عمرو بن العاص لا يزال مجهولا، وترتب عن ذلك أن رد الدكتور عبد الباقى السيد على هذه النقاط وهذا ما سننشره الآن، بذكر رأى الباحث الأثرى أولا ثم التعقيب عليه برأى أستاذ التاريخ:
1-توالى على حكم مصر العديد من الحكام بعد عمرو بن العاص وهو ما يعرف فى فترة التاريخ المصرى الإسلامى بعصر الولاة، لماذا لم يقم أحد من حكام مصر الإسلامية فى ذلك الوقت بتحديد مكان دفن عمرو بن العاص وإقامة قبة عليه تخليدًا لذكراه؟.
ليس هذا بدليل يعول عليه فى حسم موضوع كهذا لاسيما أن عقبة بن عامر الجهنى أحد ولاة مصر بعد عمرو بن العاص كان يعرف قبر عمرو بن العاص، واختار أن يدفن بجواره وتحديدا بسفح المقطم، وكلام حرملة الشافعى نفسه يؤكد ذلك، ومعرفة هذا الفقيه الشافعى بمكان دفن عمرو بن العاص ومكان عقبة بن عامر الجهنى يوضح لنا بجلاء أن قبور ولاة وحكام مصر كانت معروفة لمشاهير الفقهاء الذين كانوا على علاقة قوية بالسلطة الحاكمة، وكذلك كان الفقيه المالكى عبد الله بن وهب ( ت 197هـ) على معرفة بمكان قبر عمرو بن العاص، وحدد موقعه بالمقطم مع غيره من أصحاب النبى، خاصة عقبة بن عامر أحد ولاة مصر بعد عمرو بن العاص، ومن ثم فبالتبعية إذا كان الفقهاء المشاهير يعرفون مكان قبر عمرو بن العاص ويقفون عليه ويزورونه فهل يعقل أن الحكام أنفسهم لم يعرفوا مكان القبر ؟! وقبل حرملة الشافعى كان القاضى والمحدث والفقيه المصرى ابن لهيعة ( ت 174هـ) على معرفة بمكان قبر عمرو بن العاص، وكان الصحابى الجليل سفيان بن وهب الخولانى (ت 82هـ) على معرفة بمكان قبر عمرو بن العاص فى المقطم، وهو أحد من روى رواية سير عمرو بن العاص مع المقوقس على المقطم، ومن طريقه ذكر حرملة خبر وقوفه على قبر عمرو بن العاص .
أما فيما يخص القباب فرغم أن مصر عرفتها فى آواخر عصر الولاة أو فى عصر الدولتين الطولونية والإخشيدية إلا أن أول قبة أقيمت فى المكان المدفون فيه عمرو بن العاص كانت على يد صلاح الدين الأيوبى الذى أقام قبة على ضريح عقبة بن عامر، ولم يشأ أن يقيم نفس القبة على ضريح عمرو عملا بوصية ابن العاص الذى أوصى بعدم وضع الأحجار ولا الأخشاب على قبره أو فى قبره .
2- هل يعقل أن دولة بحجم مصر صاحبة التاريخ الإسلامى الحافل بالأحداث المرتبطة بالعالم الإسلامى لا تهتم بقبر فاتحها على مر عصورها الإسلامية المختلفة!
هذا ليس دليلا علميا أيضاً لأن قبور كثيرة من حكام مصر عبر التاريخ الإسلامى لم تعرف نتيجة للتغيرات التى كانت تحدث، والحروب والاعتداء على المقابر وخلافه، وهذا خاضع لظروف العصر وليست القضية قضية اهتمام بعمرو بن العاص من عدمه، وإن كنا قد قدمنا أن الفقهاء والمحدثين وبعض الصحابة وولاة مصر بعد عمرو كانوا على معرفة بمكان قبره فى المقطم.
3- بعض حكام مصر فى العصر الإسلامى من أصحاب الإنجازات الرائعة فى مجال العمارة والعمران والإنشاء والتعمير وإضافة بصمات واضحة على العمائر والمقابر المهمة والمرتبط اسمها بالتاريخ الإسلامى على سبيل المثال لا الحصر صلاح الدين الأيوبى، الظاهر بيبرس، الناصر محمد بن قلاوون، السلطان قايتباى، السلطان قانصوة الغورى، الأمير عبد الرحمن كتخدا وغيرهم، فهل يعقل أن يهمل هؤلاء الحكام قبر فاتح مصر.
لم يهمل هؤلاء الحكام قبر عمرو بن العاص، وإنما نفذوا وصيته بجعله بسيطا كما هو، وكل ما فعلوه أنهم حرصوا على نقل خبر الضريح جيلا بعد جيل، وربطوه بمقبرة المقطم على لسان المؤرخين الذين دونوا تاريخ الخطط والمزارات والبقاع، وأبرزوا القبر بعض الشىء، وللعلم قبر عمرو بن العاص كان معروفاً منذ وفاته سنة 43 هـ حتى توفى بعده عقبة بن عامر فى العام 58هـ، وازداد معروفة به، وظل القبران وثالثهما قبر أبى بصرة الغفارى فى بساطتهم إلى أن قام صلاح الدين الأيوبى بإقامة قبة على ضريح عقبة بن عامر، وكانت هذه أول قبة على ضريح عقبة أحد ولاة مصر، ومن خلال هذه القبة عرف ضريح عمرو أكثر فأكثر، وحرص صلاح الدين الأيوبى الشافعى على تنفيذ وصية عمرو بن العاص، مهتديا بقول حرملة الشافعى الذى أخبر أنه رأى قبر عمرو وكان بسيطا، فلم يشأن صلاح الدين الأيوبى أن يخالف وصية عمرو، ورأى الفقيه الشافعى حرملة الذى تمذهب صلاح الدين بمذهبه.
4- ما ذكرته العالمة الجليلة رحمة الله عليها الأستاذة الدكتورة سعاد ماهر محمد نقلاً عن ابن تغرى بردى قوله (وليس فى الجبانة قبر صحابى مقطوع به إلا قبر عقبة فأنه زاره الخلف عن السلف...) وكلمة مقطوع به يعنى مؤكد وجوده.
ما ذكره ابن تغرى بردى "وليس فى الجبانة قبر صحابى مقطوع به إلا قبر عقبة فإنه زاره الخلف عن السلف" لا يمكن أن يكون حجة فى هذا الأمر لأن ابن تغرى من متأخرى المؤرخين ولا يمكن أن نعول على كلامه ونترك كلام غيره من المتقدمين الذين عاينوا بعض أضرحة الصحابة وتحدثوا عنها ومنهم عبد الله بن وهب الذى قال "قبر فى مقبرة المقطم ممّن عرف من أصحاب رسول الله، صلّى الله عليه وسلم، خمسة نفر: عمرو ابن العاص السّهمى، وعبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدىّ، وعبد الله بن حذافة السّهمى، وأبو بصرة الغفارىّ، وعقبة بن عامر الجهنى، رضى الله عنهم ".
وقال ابن عبد الحكم الفقيه المالكى والخططى المصرى الفذ الذى قال: فقُبِرَ فيها، أى مقبرة الصحابة بالمقطم، من عُرِفَ من أصحاب رسول الله صل الله عليه وسلم كما حدثنا عثمان بن صالح عن ابن لهيعة عمن حدثه خمسة نفر: عمرو بن العاص السهمى وعبد الله بن حذافة السهمى وعبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدى وأبو بصرة الغفارى وعقبة بن عامر الجهنى، وقال غير عثمان بن صالح: ومسلمة بن مخلد الأنصارى".
وقال قال حرملة الشافعى (ت 243هـ) عن مقبرة الصحابة بالمقطم: "فرأيت أنا قبر عمرو بن العاص وقُبر فيه أبو بصرة الغفارى وعقبة بن عامر الجهنى رضى الله عنهم أجمعين".
وقال القاضى أبو عبد الله محمد بن جعفر القضاعى الشافعى (ت 454هـ): "لا يعرف لواحد منهم قبر، -يعنى الخمسة الذين ماتوا بمصر -، غير قبرين، أحدهما: قبر عمرو بن العاص، رضى الله عنه ... والآخر عقبة بن عامر الجهنى".
بل إن عبد الله بن عمرو بن العاص نفسه يؤكد لنا مجاورة عقبة بن عامر لعمرو بن العاص فى مقبرة الصحابة بالمقطم من خلال نص ذكره لنا صاحب كتاب جوار الأخبار فى دار القرار، حيث ذكر أن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: رأيت أبى فى النوم فقلت ما فعل الله بك؟ قال غفر لى، ورحمنى، فقال: ما فعل الله بعقبة؟ قال: تركته فى الفردوس الأعلى والملائكة تحفه .
فهذا النص وإن كان رؤيا إلا أنه يؤكد على قواسم مشتركة بين الصحابيين الجليلين فالسؤال عن حال الاثنين معا يرشدنا إلى أنهما دفنا معاً فى مكان واحد، وهو ما تؤكده النصوص العديدة التى ذكرناها من قبل، ومن ثم أراد عبد الله أن يتعرف على حالهما وقد دفنا بجوار بعضهما فى مكان واحد .
5- وفاة عقبة بن عامر عام 58 هـ أى بعد وفاة عمرو بن العاص بخمس عشرة سنة.
هذا دليل يصلح لتأكيد مكان قبر عمرو بن العاص، وليس العكس، وذلك أن عقبة بن عامر كان من الواقفين على خبر وفاة عمرو بن العاص سنة 43هـ، ومن المشيعين له، وهو أحد من تولى مصر بعد وفاة عمرو، ولما عزل من الولاية مكث فى مصر، ودفن بجوار عمرو بن العاص فى مقبرة الصحابة بالمقطم، ومن ثم فدفن عقبة بن عامر بجوار عمرو خير دليل على قبر عمرو بن العاص، ولا شك أن رؤيا عبد الله بن عمرو بن العاص السابقة تؤكد هذا الأمر.
6- إذا كان اهتمام الحكام قد لحق بقبر عقبة بن عامر حتى أن السلطان صلاح الدين قد قام بهدم المبنى المقام على المقبرة وأنشأ مكانه قبة كبيرة فهل يعقل أن يترك قبر فاتح مصر عمرو بن العاص هكذا دون عناية وكأنه لم يراه!.
لم يكن هناك اهتمام من الحكام لا بقبر عقبة ولا بقبر عمرو بن العاص اللهم ما كان من تحديد مكان قبريهما ببناء بسيط على كل منهما، وظل الأمر كذلك حتى جاء صلاح الدين الأيوبى فأقام القبة على ضريح عقبة، وهو أول من أقام قبة على هذا الضريح، وبالقرب من هذه القبة قبر عمرو والذى يبعد بضعة أمتار عن قبر عقبة بن عامر، وهو الموجود حاليا على يمين الداخل لمسجد سيدى عقبة خلف الباب مباشرة وملون باللون الأخضر.
7- اللوحة المشار إليها فى مقال جريدة اليوم السابع لوحة تأسيسية مكتوبة بالخط الكوفى البارز وهو من النوع الكوفى المورق وهذا النوع من الخطوط ظهر منذ القرن الثانى الهجرى وشاع منذ القرن الثالث الهجرى أى بعد وفاة عمرو بن العاص بمائة وخمسين عامًا على أقل تقدير.
قلت لم أحتج باللوحة التأسيسية على أنها خاصة بالقبر، بل أنا على يقين أن لا دخل لها بضريح عمرو، وأنها وضعت فى موضع غير موضعها الحقيقى، وهى من قبيل الآثار المنحولة، ووضعها المقلوب يؤكد أنها ملصقة بالحائط ولا صلة لها بالقبر .
8
-شواهد القبور التى ترجع لفترة الصحابى الجليل عمرو بن العاص وما بعده بفترة ليست بالقليلة مكتوبة بالخط الكوفى البدائى مثل شاهد قبر عبد الرحمن بن خير الحجرى ويحمل تاريخ 31 هـ وأن أسلوب اللوحة الواضح بالمقال يرتقى لأساليب الخطوط التى ترجع للقرن الثالث – الرابع الهجرى على أقل تقدير.
الرد على هذه المسألة مثل الرد على سابقتها، فلست محتجا باللوحة التأسيسية، بل احتججت بأمور غيرها من نصوص تاريخية تنبض بالحياة وأقوال لأشخاص وقفوا على قبر عمرو بن العاص وحددوا مكانه بسفح المقطم وتحديدا بجوار عقبة بن عامر الجهنى كما سبق.
9- ذكر العالم الجليل حسن عبد الوهاب – رحمه الله – أن القبر الموجود بهذا المسجد وبالتحديد فيما يلى المدخل هو قبر الشيخ إبراهيم المتوفى سنة 1182هـ/ 1768م وهو أحد شيوخ المسجد.
ما ذكره العلامة الجليل الدكتور حسن عبد الوهاب بشأن قبر الشيخ إبراهيم العقبى أحد أئمة مسجد سيدى عقبة صحيح، وهو على يسار الداخل لمسجد سيدى عقبة، وقد شاهدناه، وله شاهد قبر جلى وواضح، ولا دخل له أصلا بما ذكرناه من أن ضريح عمرو بن العاص على يمين الداخل من باب مسجد سيدى عقبة، ومطلى باللون الأخضر، وللعلم ليس فى داخل مسجد سيدى عقبة سوى مسجد عمرو بن العاص على يمين الداخل وملون باللون الأخضر، وعلى اليسار ضريح أحد أئمة المسجد والذى شاهدناه وذكره العلامة حسن عبد الوهاب، وبالداخل قبر عقبة بن عامر وعليه القبة، ويبعد عن قبر عمرو بن العاص بضعة أمتار .
10 - شاهد القبر الذى اعتمد عليه الدكتور عبد الباقى، عبارة عن شاهد قبر مستطيل يخص الشيخ العلامة عبد الرحمن بن عبد الملك الشافعى المتوفى عام 657 هـ وبالمناسبة أن هذا الشاهد عثرت عليه لجنة حفظ الأثار العربية وهى من قامت بتثبيته على الجدار!.
لم أعتمد على شاهد قبر، ولم أقل أن اللوحة الملصقة على الحائط أعلى قبر عمرو بن العاص هى للقبر، وما ذكره العلامة حسن عبد الوهاب فى تاريخ المساجد بشأن عبد الرحمن بن عبد الملك بن عبد المحسن القرشى الشافعى، واعتمد عليه الأستاذ مصطفى فوزى لا دخل له باللوحة أو بشاهد القبر الموجود أعلى ضريح عمرو بن العاص، لأن شاهد القبر الذى عثر عليه والخاص بعبد الرحمن بن عبد الملك ليس هو الموجود أعلى قبر عمرو بن العاص أصلا، بل هو مثبت على الوجهة القبلية للقبة، وكلامه مقروء، وقد ذكر نصه العلامة حسن عبد الوهاب فى أربعة أسطر تقريبا من كتابه، وذلك بعكس اللوحة المثبتة أعلى قبر عمرو بن العاص فهى غير واضحة وغير مقروءة .
11- حدثت أعمال تجديد وعمارة للمسجد والقبة فى عهد الوزير محمد باشا سلحدار عام 1066هـ / 1655م والذى قام بتجديد المسجد وقبة سيدى عقبة ألم ير قبر عمرو بن العاص ليقوم بتجديده؟! أو وضعه فى الوضع الذى يليق به؟.
رآه وعرفه ووقف عليه شأنه شأن غيره من الحكام والفقهاء، ولكنه حافظ على وصية عمرو بن العاص، كما حافظ عليها أصحاب النبى بعد وفاة عمرو، ثم من تلاهم، ولو لم تكن هناك وصية لعمرو بن العاص بعدم البناء على قبره بالأحجار والأخشاب لاهتم الجميع بقبره .
وأما ما يخص قول الأستاذ مصطفى فوزى : " أخيراً وبناء على ما سبق، نحن نؤكد أن القبر المشار إليه ليس قبر عمرو بن العاص كما يذكر الدكتور عبد الباقى وأن قبر عمرو بن العاص لا يزال مجهولاً ولا نعرف مكانه، ومع ذلك فأننى أشكرا الدكتور عبد الباقى على الجهد الذى بذله وأننى أقوم حالياً بعمل دراسة شاملة لمعرفة الموقع الذى دفع به عمرو بن العاص وتحديد مكانه بصورة دقيقة".
لا شك عندى مطلقا بأن القبر فى المكان الذى حددته، والنصوص التاريخية واضحة وجلية، ومع ذلك أنا فى انتظار طرح الأستاذ مصطفى وبحثه بخصوص الضريح، وشكرا على استنفارك همتى لمتابعة الموضوع والتثبت من قولى الذى لا زلت مصرا عليه إصراراً يزيد يوما بعد يوم.