جلس «أديب نوبل» نجيب محفوظ أكثر من مرة مع الموسيقى الشيخ محمود صبح الذى اشتهر بـ«ملك الموشحات» فى الثلاثينيات من القرن الماضى فأحبه كثيرا، وقال عنه: «صاحب صوت رهيب لم تر الحنجرة المصرية مثله»، وأضاف للناقد رجاء النقاش فى «صفحات من مذكرات نجيب محفوظ» (دار الشروق - القاهرة): «رغم أن محمود صبح كان ضريرا، فإنه كان يهوى «الملاكمة» و«رفع الأثقال» و«ركوب الدراجات»، وكان يتمتع بصحة جيدة، ويبدو أنه أخذ كمية زائدة من المخدرات سببت له هبوطا حادا فى الدورة الدموية فمات».
مات يوم 25 إبريل (مثل هذا اليوم) 1941 فى حوش شرقاوى بالقاهرة، بعد حياة بدأت عام 1898، أى قبل وفاة عبده الحامولى بثلاثة أعوام (12 مايو عام 1901)، وفقد بصره بعد أربع سنوات من ولادته، والتحق بالكتاب وحفظ القرآن الكريم، قبل أن يتم العاشرة وتعمق فى أحكام التجويد وهو فى الثالثة عشرة، وبدأ من حوله يلمسون جمال صوته وهو يرتل القرآن، وأخذ يرتاد بيوت العائلات المعروفة مثل عائلة الدرى والفلكى، وكان يسهر عندهم بالساعات، وشاهد عندهم آلة البيانو لأول مرة، مما شجعه على تعلم العزف عليها حتى أصبح عازفا محترما عليها، وتعلم بعد ذلك العزف على العود والناى (زياد عساف - المنسى فى الغناء العربى - دار ميريت - القاهرة).
فقد البصر لم يثنه عن عيش الحياة أكثر مما عاشها المبصرون، وحسب وصف الموسيقى الأردنى «زياد عساف»: «لم يكن تقليديا فرغم فقدانه للبصر كان يمارس الألعاب الرياضية الصعبة مثل رفع الأثقال والملاكمة والمصارعة، وكان يحلو له أن يركب الدراجة ويسير فى شوارع القاهرة مخاطبا المارة، وهو يضرب عصاه على الدراجة: وسع يا جدع للشيخ صبح».
ومن خلال الإذاعة الأهلية التى انتشرت فى مصر منتصف القرن الماضى، وقبل بدء الإذاعة المصرية الأم عام 1934، تعرف الناس عليه من خلال أغانيه وألحانه وطباعه حسب قول «عساف»، مضيفا: «كان البث الإذاعى يبدأ بصوته بتلاوته القرآن الكريم، وكثيرا ما كان يحلو له أن ينزل على «داربزين» الإذاعة زحلقة، ويروى عنه ومن خلال البرامج الإذاعية التى كان يقدمها على الهواء بأنه كان عند انتهائه من كل فقرة غنائية يخاطب المطربين المشهورين أمثال محمد عبد الوهاب وأم كلثوم، متحديا لهما: «سامع يا سى عبد الوهاب، فين إنت من الفن ده؟ سامعه يا أم كلثوم تعرفى تغنى كده؟»، ولما انتقدته مجلة روز اليوسف لتوظيفه الإذاعة بهذه الطريقة المستهجنة، وجه ردا لاذعا ومباشرا على الهواء للسيدة روزاليوسف (صاحبة المجلة): «ياوليه افهمى دا أنا الشيخ صبح».
يتذكره نجيب محفوظ عن قرب، حيث جلس إليه أكثر من مرة: «كنت أجده شخصية ممتعة، ومتحدثا لبقا، وعاشقا للنكتة، وله صوت رهيب لم تر الحنجرة المصرية مثله، وأطرف ما فى حياته تلك المشاجرات على الهواء التى كان يمارسها فى محطات الإذاعة الأهلية، وأذكر مشاجرة له مع مدحت عاصم على الهواء، حيث دخل الاستوديو وغنى لعدة دقائق ثم سكت فجأة ليقول: «اسمع الأغنية القادمة يا مدحت يا عاصم يا أعمى»، ثم واصل الغناء، والطرافة هنا أنه هو الذى كان ضريرا (أعمى) وليس مدحت عاصم».
وفيما يرى المؤرخ الفنى كمال النجمى فى كتابه «تراث الغناء العربى (دار الهلال - القاهرة)، «أن صوت صبح عثمانلى النبرات»، يعتبره زياد عساف من أهم مطربى الموشحات فى الثلاثينيات من القرن الماضى لما تميز به من ابتكار وبراعة فى الانتقال بألحانه من مقام موسيقى إلى آخر، ومن أشهر موشحاته «رب قلبى من غرام ذاب من سحر العيون» و«يا نديم الروح» و«سكر الأغصان» و«أيها الساقى إليك المشتكى» و«طائر الأيكة» بالإضافة لتميزه فى العديد من الأغانى والأدوار مثل «حلفت خدك بخاله» و«البدر من نور جمالك» ومن أغانيه الدينية «معرفة الحق جل وعلا» و«شوقا إلى الحق تعالى».
وكان أول من لحن البرامج الغنائية فى الإذاعة المصرية، ففى عام 1935 لحن البرنامج الغنائى «تتويج فرعون» إخراج عبدالوهاب يوسف، ومن أعماله المسرحية لحن «أوبرا عقيلة» تأليف بيرم التونسى و«عنترة الحبشى» تأليف أحمد شوقى لفرقة جورج أبيض وكلا العملين من إخراج عزيز عيد ولصعوبة تلحين هاتين المسرحيتين قام هو بنفسه بتقديم الأغانى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة