وقفت «روز اليوسف» على خشبة المسرح فى فترة الحرب العالمية الأولى، وسنة 1918 عندما ولد «إحسان» كانت هى الممثلة الأولى والنجمة المتألقة التى تستحوذ على قلوب الجماهير، وتألقت كثيرًا فى دور «غادة الكاميليا»، وسنة 1925 اختلفت مع يوسف وهبى صاحب فرقة رمسيس التى كانت هى بطلتها، فقررت أن تعتزل التمثيل، والذى لا يعرفه كثيرون أن هذه المرأة العظيمة كانت تحسن القراءة ولكنها لم تكن تحسن الكتابة، وكانت توقع باسمها فقط، أما مذكراتها المعروفة فقد أملتها على أحمد بهاء الدين، وكانت تعتبره مع فتحى غانم مثل ابنها إحسان.
ولأن الصحافة والفن أولاد عم، فقد ذهبت فاطمة اليوسف بنفسها إلى وزارة الداخلية، لتطلب الترخيص لها بإصدار مجلة، وقابلت «محمد مسعود بك» مدير المطبوعات، وهددته بإصدار المجلة إذا لم يمنحها الترخيص، وأمام إصرارها حصلت على الترخيص، وقررت أن تسمى المجلة باسمها «روز اليوسف»، وهو الاسم الذى أحبته الجماهير، ويوفر عليها أى جهد فى الدعاية والإعلان، بعد أن قررت أن تعتزل التمثيل وتتفرغ للعمل الصحفى، ولم يمنعها شىء من أن تقتحم مهنة البحث عن المتاعب، رغم أنها لبنانية من مواليد مدينة طرابلس سنة 1897، وجاءت إلى مصر وحيدة وعاشت ظروفًا صعبة، ولكنها كانت قوية الإرادة والعزيمة.
فاطمة اليوسف، صنعت صداقة بين الفن والصحافة، وأحاطت نفسها بكل ألوان التفوق والإبداع، وكانت صديقة لأعظم الرجال فى عصرها مثل عباس محمود العقاد ومحمد التابعى ومحمود عزمى.. كامل الشناوى كان يقول عنها إنها رجل، وكانت ترد عليه «لا يا كامل لست رجلًا ولا أحب أن أكون، أنا فخورة بأنى سيدة، وعيب صحافتنا كثرة رجالها وقلة سيداتها.. ويوم أرضى عنك.. سأقول إنك سيدة».. وفى هذه الظروف تعلم ابنها إحسان عبد القدوس كيف يكتب وكيف يمسك بالقلم، وكان أساتذته بعد والدته: محمود عزمى ومحمد التابعى وعباس محمود العقاد.
يقول رجاء النقاش فى أحد مقالاته، إن إحسان تعلم أسلوب الكتابة من محمد التابعى، والتابعى هو عميد الأسلوب الصحفى المعاصر بلا منافس، وساحر الكلمة ومعلم الأجيال، وتعلم من محمود عزمى نظرته التقدمية لمشاكل الحياة والمجتمع والإنسان، حيث كان عزمى من أعظم دعاة التجديد والتقدم، ووصل به الأمر إلى حد الدعوة إلى لبس «القبعة» بدلًا من «العمامة»، ومن العقاد تعلم إحسان جرأة الكاتب وفروسية صاحب القلم، والاشتباك العنيف مع الأفكار الخاطئة، التى ينبغى هدمها وإفساح الطريق أمام عالم جديد.
وكان إحسان عبد القدوس من القيادات الصحفية القادرة على اكتشاف المواهب الجديدة وإفساح الطريق لها.. وخير دليل على ذلك اكتشاف الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين، وكان بهاء يعمل فى إحدى الإدارات القانونية، وذات يوم ترك مقالًا فى استعلامات «روزاليوسف» وانصرف، ولم يكن يعرف إحسان أو أى صحفى آخر فى المجلة. فوجئ بالمقال فى الأسبوع التالى على الغلاف، ولما ذهب ليترك مقالاً آخر، أمسك به عامل الاستعلامات، ولم يتركه إلا فى مكتب إحسان وصار بعد ذلك واحدًا من أعظم الكتاب فى مصر.
دروس ودروس ودروس، يجب أن تتعلمها «بعض» الأجيال التى تتصور أن القلم «مطواة قرن غزال»، ترشقه فى الأجساد والسمعة والشرف، دون وازع من ضمير.. دروس فى النقد السياسى العنيف الذى يحقق الهدف، دون أن يجرح أو يدمى، ومن يقرأ مقالات إحسان وهو يشرّح الواقع السياسى المصرى، يتأكد أنه لا يزال يعيش بيننا حتى اليوم.. دروس تجيب عن السؤال المهم: لماذا أطلقوا على الصحافة لقب «صاحبة الجلالة»؟.. لأنها كانت بالفعل أميرة متوجة يحرسها صحفيون بدرجة أمراء ونبلاء.
الدول تحكم بهيبتها وليس بعساكرها
هيبة القانون وأجهزة الدولة يجب أن تكون خطًا أحمر، لأن الدول تحكم بهيبتها وليس بعساكرها، ولا يمكن أن تضع جنديًا أو ضابطًا على كل متهم وفى كل شارع.. الاستهانة بالقانون أصبحت هى الظاهرة المميزة هذه الأيام، لا أحد يخاف، وكثير من الناس أصبحوا «مستبيعين»، لأن القانون لا يأخذ مجراه، والعدالة بطيئة جدًا.. والإعلام يضرب البقية الباقية من الوعى، بحسن نية أو بسوء قصد.
مصر بالفعل فى حاجة إلى إصلاحات اجتماعية كبيرة، تعيد الملامح الأساسية للمجتمع التى أخذت فى التراجع والانحسار، وأفرزت على السطح ظواهر لم تكن معروفة.. فى حاجة إلى إعادة إحياء القيم والمٌثل والمبادئ التى ضاعت فى الزحام، فانصرف الناس هائمين على وجوههم، دون أن يدركوا أن القيم هى مفتاح التقدم.. مصر تعوم فوق بحيرة من الجرائم الشاذة التى تثير الخوف فى النفوس، الخوف من أن يستمر تعرية غطاء الأمان الذى كان يميز مصر والمصريين.
الجرائم فى مصر أصبحت مخيفة ومرعبة، عنف شديد، قسوة بالغة، اجتراء على القانون، قتل لأتفه الأسباب، استهانة بالحياة، انتهاك لحرمات الآخرين، لا عقل ولا قلب ولا ضمير ، والأمثلة كثيرة، ووسائل الإعلام تفزعنا كل يوم بقصص يشيب لها الولدان، فهذا المجتمع الذى منحه الله الأمن والطمأنينة والسلام وكراهية العنف والدماء، بدأت تغزوه جرائم مرعبة، والشىء اللافت فيها هو الاستهانة بالقانون، وكأن المتهمين قد أصابتهم نوبات من البلاهة.
آباء وأمهات اليوم.. لا حول ولا قوة
الإدمان أحد الأسباب الرئيسية للعنف المبالغ فيه، وللأسف الشديد فقد أصبح عدد كبير من الشباب وطلاب الجامعات من المدمنين، ولهذا تحدث الجرائم الغريبة التى يغيب فيها العقل، ولم تعد المشكلة مقصورة على أصدقاء الشارع، ولكن انعدمت رقابة البيوت تمامًا على أبنائها، واختفى الأب الحازم المحترم الذى يراقب أولاده ويحكم تصرفاتهم.. آباء وأمهات اليوم أصبحوا بلا حول ولا قوة، وقد يتعرضون للإهانات والاعتداءات من أولادهم، لأنهم فرطوا فى تربيتهم حتى كبروا، وخرجوا عن السيطرة.
المدارس بأحوالها الحالية لا تربى ولا تعلم، ويحتاج نظام التعليم فى مصر إلى ثورة حقيقية، فلن يحدث تقدم ولا إصلاح ولا انضباط، إلا بإصلاح التعليم.. الدول المتقدمة اقتصاديًا مثل إندونيسيا وكوريا وفيتنام وغيرها بدأت بالتعليم، وأنفقت عليه مليارات، لم تضع فى الهواء، وجنت الثمار بسرعة.. خذوا من الدعم لصالح التعليم، فالدعم يذهب من البطون إلى المجارى، أما التعليم فيذهب إلى العقول، والأمم الواعدة لا تبنيها البطون، بل العقول.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة