صدر مؤخراً عن دار أفريقيا الشرق فى الدار البيضاء كتاب "لماذا تخلف العرب وتقدم الآخرون.. جذور الاستبداد وبذور النهضة" للدكتور عبد الحق عزوزى الأستاذ بكلية الحقوق فى فاس، والذى يرى أن السنوات الأخيرة التى ودعناها فى الوطن العربى كانت مليئة بالمفاجآت والوقائع التى لم تخطر على بال أكثر الناس ذكاء، وأكبر المراكز البحثية فى أميركا وأوروبا خبرة ومكانة، وأعظم المحللين والاستراتيجيين علماً ودراية، فما كان أحد يتكهن بأن نظام بن على سيفنى بين عشية وضحاها، إنها سنوات تحملنا إلى مفهوم سياسى فى أكبر معانيه، ألا وهو حمل العام والخاص على مقتضى النظر العقلى فى جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار.
ويلخص "عزوزى" المصالح الدنيوية اليوم، فى إقامة العدل والعدالة وتحقيق التنمية، وهى مفاهيم لمعادلة توازنيه مجتمعية واحدة، فأنظمة مثل تونس ومصر وليبيا مثلاً كانت بمثابة أجسام مغلقة على نفسها لا يدخلها الهواء النقى، وكانت منفتحة على قاعدة فئوية ضيقة تأخذ من ذلك الهواء الفاسد وتحاول أن تموه على الناس وتقول إنه هواء صالح للحياة، فافتقدت تلك الفئة إلى التمثيلية والشرعية القاعدية التى تصون السلطة بممارسة التفويض الشعبى وتسقيه كل يوم بمبدأ الثقة بين الحاكم والمحكوم الذى يحمى الغرس من الذبول والفناء.
ويرى أن عددا من الأنظمة العربية لم تحقق لرعاياها الحضن الدافئ الذى يحميها من الأمراض والأعراض الضارة، ويوفر لها الأمن والطمأنينة والعيش الكريم ورغيف الخبز المقبول، ويتولى تحسيسها بأنها تنتمى إلى التاريخ، بل القمع المادى والرمزى والاحتقان الاجتماعى والتسلط والانتهاب والحيف، فاقتدرت تلك الأنظمة على شعوبها لسنوات بل ولعقود ظانة أنها مسألة حتمية وقدرية، فرددت عليها التسلط والنهب والزحف لسهولتها عليهم إلى أن أصبح أهلها مغلبين لهم، ولكن يخطر على بالهم أنهم ستعاورونهم فيما بعد باختلاف الأيدى وانحراف السياسية، والله قادر على خلقه.
ويؤكد عبد الحق أن الفئات السياسية العربية لم تعرف معنى الملك الحقيقى وهو جلب المصالح الدنيوية للعباد ودفع المضار انطلاقاً من مقتضى النظر العقلى، بل لم تفهم من الملك إلا أن يكون بالتسلط والمغالبة والممانعة والنعرة والتذامر.
غير أن تلك الفئات السياسية المتسلطة تفاجأت بقوة ردع المجتمع الرقمى وتكنولوجيا الاتصال، فمنذ سنوات عديدة لم يكن هناك شىء اسمه الفيسبوك ولا التويتر، كما أن استعمال الإنترنت كان محدوداً وعدد الهواتف قليلاً جداً، أما اليوم فقد تغير كل شىء حتى إن عدد الهواتف النقالة فى بعض البلدان العربية يتعدى عدد ساكنيه، وطبعاً لم تخرج الثورات العربية من مقرات النقابات والأحزاب أو الخلايا النائمة، وإنما انطلاقاً من العالم الرقمى وتكنولوجيا الاتصالات التى حررت المسكوت عنه وقلبت الأوراق وخلطت الأمور، ولم تحتج فى بدايتها إلى مسدسات أو دبابات أو صواريخ. بل احتاجت إلى عامل واحد: هو من يجمع شتات الشعوب فى ميدان التحرير وسرت وسيدى بوزيد وشارع بورقيبة! كانت العقول تغلى فاستعلت ناراً بدون بنزين .. اشتعلت قط انطلاقاً من كتابة كلمات فى أجهزة " لاب توب" والحواسيب الشخصية والهواتف الذكية وإرسالها إلى من يهمه الأمر.
تطرق عزوز إلى المجال أو الحقل السياسى هو ملك عمومى بامتياز لا يمكن تقسيمه أو تبنيه من فئة دون أخرى باسم الدين أو باسم أى شعار آخر، وكم ظن ظان أن الانتخابات الأخيرة التى عرفتها أقطار عربية هى قطيعة مع النزعة الشمولية السابقة، التى تئد التنوع والتعدد، والقبول بمبدأ الاختلاف كقاعدة للعقد السياسى الديموقراطى. ولكن ماذا يقع إذا لم تستبطن بعض الأحزاب فكرة الدولة، وفكرة المجال السياسى العام؟ وماذا إذا لم يوطن الخاص والعام فى نسيجه الثقافى والنفسى الوعى الديموقراطى الصحيح؟ الديموقراطية ليست فقط صناديق الاقتراع وإنما هى أيضاً وعى وثقافة وسلوك وإيمان راسخ واستبطان لفكرة الدولة وتضمين لها فى النسيج الثقافى والنفسي. لقد عانت العدد من الدول كتونس وليبيا ومصر من فقدان الشرعية السياسية، فثار عليها الأولون والآخرون لأن الإذعان الاضطرارى للقوة العمياء التى تمارسها نظم استبدادية مسألة وقت لا محالة، وغياب الثقة بين الحاكم والمحكوم، أى فقدان الشرعية عند الأول مؤذن بخراب الحياة السياسية ومؤسساتها، فتجف ينابيع الحياة السياسية الطبيعية.
و فرص التحول السريع إلى الديموقراطية مسألة فى غاية الصعوبة والحساسية، ولا يعنى مجرد إحداث ثورة شعبية أو تدخل دبابات أجنبية أن الديموقراطية ستثبت أركانها، بل بالإمكان أن تتلاشى مكاسب الثوار ومساعى الحكام الجدد، بل قد يعجزون عن المدافعة عن أنفسهم بما خضد الغلب من شوكتهم، فيصبحون مغلبين لكل متغلب، وطعمة لكل آكل.
والانتقال الديموقراطى يصبح أكثر تعقيداً وأكثر ضبابية مع زوال هيبة الدولة وفقدان الثقة بين النظام السياسى والمحكومين، وهو أكبر زلزال سياسى واقتصادى واجتماعى يمكن أن يصيب مجتمعاً من المجتمعات ولو كان ديموقراطياً، لأن الثقة إذا أزيلت بين الحاكم والمحكوم فإن العصيان المدنى سيصبح هو القاعدة وسينمو الاحتقان الاجتماعى وتعم الفوضى وسيصبح الأمين مذنباً والطاغية مؤتمناً وسيتلوث المجال السياسى بالمرة ...
وتثبيت الديموقراطية يبقى رهيناً بالمسار الذى يعطيه الفاعلون للتحول: فإما أن يؤدى بالبلاد والعباد إلى بر التغيير الجذرى الذى يخلق منظومة معرفية وتطبيقية سياسية كاملة حول الحق الطبيعى والتعاقد والمواطنة، وإما إلى واد غير ذى زرع من سلطوية جديدة.
ويرى عزوزى أنه من الأجدر بالفاعلين الكبار عندما تصل دولة من الدول غلى نقطة التحول الديموقراطى (التى لا تعنى إطلاقاً وصول قاطرة الديموقراطية نهائياً) هو إعمال العقل وإعادة قراءة دور المؤسسات والدولة فى هذا المجال السياسى الجديد ، وتصور قانون أسمى للبلاد وإعماله بطريقة سريعة ومرْضية للجميع.
وتبقى آليات الانتقال عبر التوافق التعاقدي، الانتقال الصحيح الذى يتطلب عليه مفهوم عقلنة التغيير الكفيلة بإحداث ثورة سياسية هادئة بعيداً عن ويلات الفوضى والمجهول وإمكانية الرجوع إلى سلطوية أشد فتكاً وأكثر خديعة ومكر .
وهذه وغيرها من إشكاليات إذا تمت الإجابة عليها بطريقة علمية وتم تبنيها، تحققت نهضة العرب وتقدمهم وتطورهم المجتمعى والاقتصادى والسياسى والحضارى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة