وصل الرئيس التونسى الحبيب بورقيبة مع العاهل الأردنى الملك حسين إلى أريحا يوم 3 مارس 1965 زار فيها مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، وألقى فيهم خطاباً حماسياً قال فيه: «من السهل أن نتكلم ببلاغة عن الحرب، ولكنه من الصعب جدا أن نعمل بجدية ومنهجية، وإذا اتضح لنا أن قواتنا غير كافية للتخلص من العدو أو رميه خارج أرضنا، فإن المصلحة تقتضى ألا نلغى الحقيقة أو نحاول إخفاءها»، وأضاف: «يجب ألا نتهم الذين يريدون أن ينادوا بالحلول الجزئية بالانهزامية، إن سياسة كل شى ءأو لا شىء لم تقدنا إلا إلى الهلاك».
أثار كلام بورقيبة غضبا عربيا عاصفا وترحيبا أوروبيا، ويرصد القصة الكاتب الصحفى التونسى الصافى سعيد فى كتابه «بورقيبة سيرة شبه محرمة» عن «دار رياض الريس للنشر - لندن»، ويتحدث عنها بانحياز واضح للزعيم التونسى وللتطبيع مع إسرائيل، وفيما يعيد «سعيد» هذا الإعلان من بورقيبة إلى «صدمته القوية حين رأى جموع الناس يفترشون الأرض ويتغطون بالسماء وكأنهم بانتظار المهدى المنتظر»، فإنه يؤكد: «كان بورقيبة لا يخفى إعجابه بهذه «الدولة الصغيرة» التى فرضت نفسها على العرب المتمادين فى نسج الأوهام، وحتى عندما أعلن فى العام 1957 أن إسرائيل قد بعثت من اللا شرعية الدولية، وأنه لن يعترف بها ما لم تحل جميع مشاكلها مع العرب، فإن ذلك لم يكن إلا اعترافا ضمنيا، فهو معجب بـ«بن جوريورن» أول رئيس حكومة لإسرائيل الذى قال مرة، إنه ينتمى إلى صنف بورقيبة، صنف الذين يصفعون التاريخ على الوجه والقفا معا، ولطالما أغرته التجربة الإسرائيلية فى الزراعة وتسويق الحوامض، حتى كاد أن يرسل مجموعة من الشبان ليطلعوا على تلك التجربة فى المكان عينه، وإذا لم يجد الشجاعة ليفعل ذلك مع دولة إسرائيل، فإنه استطاع أن يرتبط ببعض الرموز الصهيونية الليبرالية مثل «ناحوم جولدمان» ولما وجد نفسه أمام الزعماء العرب فى قمة القاهرة 1964، سخر كثيرا من أولئك الذين كانوا يبحثون عن تشكيل قيادة عربية موحدة لتحرير فلسطين، وقال لهم: «إن أمركم لا يعدو أن يكون فذلكة، لكنها فذلكة بالدماء، إن تدخل العرب فى الحرب مباشرة فى العام 1948 كان خطأ فادحا، وإن المطلوب أن يحارب الفلسطينيون لتحرير بلدهم عن طريق حرب عصابات متحركة».
واصل بورقيبة الحديث بلا انقطاع عن السلام مع إسرائيل، وذلك فى جولة طويلة استمرت شهرين حل فيها ضيفا على عواصم عربية وأوروبية وآسيوية، ولم يكن التونسيون حسب «صافى سعيد»: «كلهم على رأى ملكهم أو أميرهم، فهو بالنسبة إلى البعض داعية استسلام وللبعض الآخر معاد للعروبة ومحب للانشقاق ولا يعول على كلامه، لأنه ليس إلا الجانب الآخر من الميدالية العربية»، ويذكر محمود رياض، وزير خارجية مصر وقتئذ: «عندما زار بيروت بعد ذلك قامت المظاهرات ضده، وأعلنت جولدا مائير «رئيس وزراء إسرائيل من 17 مارس 1969 - 1974» عن سرورها لوجود زعيم عربى لا يتحدث عن تصفية إسرائيل بل يدعو إلى السلام والتعايش معها، وهللت الصحافة الغربية، وعلى الأخص الأمريكية لشجاعة الرئيس بورقيبة وواقعيته»، ويضيف رياض: «كانت هذه الاقتراحات مفاجأة عنيفة للرأى العام العربى الذى لم يكن مهيئا لتقبل فكرة التعايش مع إسرائيل، فهاجمت الصحف العربية بورقيبة بشدة، واتهمته بالخروج على الإجماع العربى وقرارات القمة العربية الخاصة بتحرير فلسطين».
كانت هذه الآراء صادمة على الصعيد الفلسطينى، ويذكر «رياض»، أن أحمد الشقيرى، رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، دعا لجنة الممثلين الشخصيين للملوك والرؤساء العرب إلى اجتماع لمناقشة طلبه بفصل تونس من جامعة الدول العربية، وبالفعل عقدت اللجنة اجتماعها يوم 28 إبريل وقررت تمسكها بقرارات القمة، ورفضها لأى دعوة إلى الاعتراف أو التعايش مع إسرائيل التى اغتصبت جزء ا من الوطن العربى، واعتبرت دعوة بورقيبة خروجاً على الإجماع العربى، ويضيف «رياض»، أنه فى يوم 26 مايو «مثل هذا اليوم 1965» اجتمع رؤساء الحكومات العربية فى القاهرة، بحضور زكريا محيى الدين رئيس وزراء مصر، وحضر عن الجزائر هوارى بومدين، وطاهر يحيى عن العراق، ونور الدين الأتاسى عن سوريا، وحسين العوينى عن لبنان، والأمير فهد عن السعودية، ومحمد محجوب عن السودان، ووصفى التل عن الأردن، والطيب بن هيمه عن المغرب، ورفضوا جميعا اقتراح «الشقيرى» بفصل تونس من الجامعة العربية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة