لم تتحمل عينا المقاتل السابق، قائد سلاح الجو فى معركة السادس من أكتوبر وميض الكاميرات، نال الزمن- بحكم السن- من قواه، وتسلل إلى شرايينه وأوردته فساد السلطة ومساوئها.. اهتز مبارك الذى كان يطوى عامه الـثانى والعشرين فى الحكم أمام الجميع، فقد توازنه وسقط مغشيًا عليه قبل أن يستكمل خطابه الذى كان يستعرض جهود الحكومة المصرية فى ملفات عدة أمام الاجتماع المشترك لمجلسى الشعب والشورى.
داخل البرلمان، كانت عقارب الساعة ثقيلة ما بين السقوط واستئناف الخطاب، ضمت القاعة كل رجال الدولة، بينهم من تحسس الأرض تحت أقدامه ورسم أسوأ السيناريوهات حال وفاة مبارك، وفى صفوفهم من بدأ يفكر كيف يعد أفضل السيناريوهات لاستغلال الفرص.. ووسط أوهام الحرس الجديد ومخاوف الحرس القديم داخل الحزب الوطنى ووزرائه، كان الدكتور محمد عوض تاج الدين وزير الصحة فى ذلك الحين يبحث عن نبض فى جسد الرئيس يوقف من خلاله طموحات الطامعين ويبدد مخاوف قلة كانت تدين بالولاء حقًا لاسم حسنى مبارك.
خارج البرلمان، كانت القاهرة تلفظ زحامها بشوارع وميادين اكتظت بالمهرولين للحاق بمدفع الإفطار فى أحد أيام الشهر الكريم لعام 2003، وما أن قطع صوت الشيخ محمد رفعت لحظات الصمت القليلة ورفعت مآذن القاهرة آذن المغرب، كانت الـ45 دقيقة التى غابها مبارك عن الشاشات قبل أن يعود ويستأنف خطابه هى حديث جموع المصريين على موائد رمضان، لينتقل ملف «التوريث» بقوة الحدث من الغرف المغلقة إلى دوائر أكثر اتساعًا.
نقل سقوط مبارك المصريين إلى حقبة جديدة من الجدل الذى استطاع أن يكسر رتابة استقرار ولاية رئاسية امتدت لاثنتى وعشرين عامًا، أصبح سؤال متى يجلس الشاب الطامح جمال على العرش مسيطرًا على أروقة الحزب الحاكم، وبات سؤال متى يرحل الرئيس العجوز عن القصر طاغيًا على دوائر النخبة والأحزاب وجماعة الإخوان، وأمام الاستفهامات العديدة التى فجرها السقوط، كانت واشنطن ووكالاتها الاستخباراتية والأمنية تراقب فى صمت وترسم مبكرًا ـ وقبل الجميع ـ سيناريوهات ما بعد مبارك.
عرف الخريف طرقًا عدة إلى العلاقات المصرية- الأمريكية منذ خطاب الرئيس الأمريكى جورج بوش الشهير فى أعقاب 11 سبتمبر، ووصل الخلاف والريبة ذروته يوم أسقط الغزاة تمثال صدام حسين فى ساحة الفردوس وسط العاصمة العراقية بغداد. كانت أنظمة العرب القديمة- وبينها نظام مبارك- تتابع بعين القلق تحركات وزيرة الخارجية الأمريكية فى ذلك الحين كونداليزا رايس، وتقتفى أثر نظريتها للفوضى الخلاقة والشرق الأوسط الجديد.
صدام حسين
بدأت إدارة الرئيس الأمريكى جورج بوش استخدام ورقة حقوق الإنسان وألمحت من آن إلى آخر إلى ضرورات الإصلاح السياسى الاجتماعى. تداولت واشنطن عبر مؤسساتها الرسمية ومنظماتها غير الرسمية عبارات من بينها «تداول السلطة» وغيرها من الشعارات التى كانت جديدة على مسامع قيادات شاخت على عروشها من المحيط إلى الخليج، ليطلق الحزب الوطنى بإيعاز من شيوخ النظام التعديلات الدستورية الشهيرة التى تبعها هامش محدود للحريات، فتح الأبواب أمام قنوات ومنافذ إعلامية شابة حركت كثيرًا من مياه القاهرة الراكدة، وكان لها دور كبير فى انتزاع جماعة الإخوان 88 مقعدًا فى برلمان 2005.
كانت الجماعة على رادار وكالة المخابرات المركزية الـ«CIA» مبكرًا.. وفى منتصف ثمانينيات القرن الماضى، تحديدًا فى عام 1986، تنبأت الوكالة فى وثيقة سرية تم الكشف عنها مؤخرًا بأن يصبح الإخوان «قوة مؤثرة» رغم تأكيدها أنها لا تشكل فى ذلك الحين أى تهديد أو خطر على نظام حسنى مبارك.
كونداليزا رايس
قالت الوثيقة التى حملت تاريخ 21 إبريل من ذلك العام إن الجماعة تسعى لبناء دولة إسلامية عن طريق تقليل تأثير الغرب وتنفيذ الشريعة الإسلامية بعد سنوات من التشدد، مشيرة إلى أن جماعة الإخوان تتعاون مع الحكومة المصرية ضد المجموعات الأخرى التى تنتمى للإسلام المتطرف من أجل تحقيق مصالحها والحصول على وضع قانونى، مضيفة أن الحكومة المصرية لن تقوم بسحق الجماعة إلا إذا لجأت إلى التصادم أو إذا سعت للحصول على مزيد من القوة.
وبحسب الوثيقة فإن مبارك كان يرى أن التعاون مع جماعة الإخوان سيفتح الباب أمام الأمن المصرى لمراقبة الإسلاميين المتطرفين دون أن تحتاج الحكومة إلى دخول تلك المجموعات.
وثيقة الـ«CIA» كشفت المزيد من تفاصيل علاقة ما وراء الستار بين مبارك والإخوان، وقالت إن الحكومة المصرية اشترطت على الجماعة مجموعة من الشروط لكى تحصل على وضع قانونى وهى التوقف عن التظاهر ضد اتفاقية كامب ديفيد، والامتناع عن تجنيد أعضاء لها داخل الجيش، بالإضافة إلى إعادة النظر فى تحالفها مع حزب الوفد والابتعاد عن السياسة المصرية.
ومنذ منتصف الثمانينيات وحتى السنوات الأولى من الألفية الجديدة كان ملف مصر المعنون بعبارة «سرى للغاية» داخل أروقة الـ«CIA» يتضخم ويأبى أن يجد سطرًا للنهاية. رصدت الوكالة الإخوان وغير الإخوان. أعدت التقارير عن الجماعة والأحزاب القديمة. تابعت عن كثب صراع أجنحة الحزب الوطنى ما بين الحرس القديم والحرس الجديد، وقادت البيت الأبيض لمراوغات عدة مع نظام مبارك.
وفى منتصف العام 2004، كان مبارك يفوض رئيس وزراءه عاطف عبيد بمهامه الرئاسية فى سابقة هى الأولى على امتداد سنواته فى السلطة قبل أن يتوجه إلى مدينة ميونيخ لإجراء أول عملية جراحية «معلنة» فى عموده الفقرى. وفى المدينة الألمانية كانت وكالات الاستخبارات الأمريكية تنشر شبكة من أكفأ رجالها وعملائها، وتتابع وترصد الرئيس ومن رافقوه فى رحلته العلاجية.
ومن السقوط داخل قاعة البرلمان، إلى التزام فراش المرض داخل مستشفى أورتوسنتروم الألمانية، سطر عملاء الاستخبارات التقارير تلو التقارير، وزاحم ملف «صحة مبارك» ملفات الإخوان والأحزاب والقوى السياسية الصاعدة والأزمات الاقتصادية التى تقترب من الاندلاع.. رصدت غرف واشنطن السرية الشروخ وهى تتسلل مبكرًا إلى القصر، ومارست الغرف المعلنة على نظام مبارك الضغوط بوسائل عدة.
مبارك وجورج بوش
وأمام موجة الصعود القوية للجمهوريين الجدد فى إدارة جورج بوش وفى الكونجرس الأمريكى كان نظام مبارك يحاول جاهدًا استباق الأحداث وممارسة كل فنون البقاء أمام الهجمات الشرسة القادمة من واشنطن، ومن بين أروقة الحزب والقصر خرج كهنة النظام ليوقفوا قسرًا الحديث عن ملف توريث الحكم، وقرروا المقامرة على اسم وتاريخ الرئيس فى انتخابات رئاسية تعددية هى الأولى من نوعها، ليضعوا أحزاب المعارضة القديمة أمام أول اختباراتها الحقيقية ويستقطبونها من دائرة «صحيفة الحزب» وبيانات الشجب والإدانة إلى ميادين سياسية أكثر اتساعًا تتطلب تواجدًا حقيقيًا على الأرض، وقبل ذلك تتطلب بطبيعة الحال إمكانيات مادية ضخمة.
وفيما كان تليفزيون الدولة يحشد إمكانياته للحدث الكبير وفى وقت قرر فيه مبارك التحدث إلى شعبه بوجه جديد عبر سلسلة حوارات «كلمة للتاريخ» التى أجراها الإعلامى الكبير عماد الدين أديب، كانت الأحزاب تغرق فى دوامات الفوضى بحثًا عن «التمثيل المشرف» بخلاف الوفد الذى كان يمتلك من الإمكانيات ما يعينه على الدفع بالمحامى الشهير نعمان جمعة لخوض السباق الانتخابى والظهور بشكل يليق بتاريخ واسم الحزب العريق.
بأعين سكنها الانبهار، تابع المصريون سلسلة لا تنقطع من الأحداث خلال العام 2005 الذى كان استثنائيًا بكل امتياز، وبأعين الرصد، راقبت الـ«CIA» كل زوايا المشهد، وكان من بين من راقبتهم ذلك البرلمانى الشاب، عضو مجلس الشعب عن دائرة باب الشعرية الذى خرج من عباءة حزب الوفد ليعلن تأسيس حزب جديد، ويقرر فى مفاجأة لأحزاب المعارضة القديمة خوض السباق الانتخابى أمام مبارك، ويدفع عملاء الوكالة وكبار رجال الاستخبارات الأمريكية إلى البحث فى ملفاتهم القديمة عن اسم أيمن نور الذى خاض فيما بعد سلسلة من المواجهات- الشرعية وغير الشرعية- مع الدولة فى زمن مبارك والثورة والإخوان وحتى كتابة هذه السطور.
مهدى عاكف
مصر فى ملفات الـ«CIA»