وسط عبق التاريخ فى القاهرة الفاطمية، عندما تتجول فى شارع المعز، أمام باب زويلة أو بوابة المتولى، ذلك المكان الذى كان يتجمع فيه المسافرون القادمون من جميع بقاع العالم لدخول قاهرة المعز، تقع عيناك على أحد أبرز المساجد الأثرية التى تظل خير شاهد على عظمة الحضارة المصرية والإسلامية القديمة، وهو مسجد"المؤيد شيخ".
المؤيد أبو النصر شيخ المحمودى الجركسى الأصل، جاء إلى القاهرة عبداً سنة 782ه - 1381م، وكان عمره اثنى عشر عاماً، مع تاجر كبير يدعى محمود اليزدى، ومنه أخذ المؤيد اسمه "المؤيد المحمودى"، اشتراه تاجر المماليك الخواجة محمود شاه البيزدى، وقدمه إلى الأمير برقوق، وكان وقتها كبير الأمراء، فأعتقه واهتم بتربيته لأنه كان ذكياً، يجيد الفروسية ورمى الرمح والضرب بالسيف والمصارعة وسباق الخيل.
وبعدما أصبح برقوق حاكماً أعتق المؤيد شيخ، وقرر تعيينه فى الحرس السلطانى وأرسله للشام لإخماد حركة تمرد هناك، فعاد إليها فارساً مغواراً بعدما خرج منها عبداً مملوكاً، وعندما عاد إلى مصر منتصراً وقعت فتنة غيرّت التاريخ، حيث نزل الأمير "منطاش" من الشام بجند كثيف ليخلع السلطان برقوق، ويلقى القبض على المؤيد، باعتباره أحد أهم رجاله، ويأمر بسجنه فى "خزانة شمائل"، أحد أبشع سجون القاهرة فى ذلك الوقت، والذى لقى فيه صنوف التعذيب، لذا نذر إن خرج من هذا السجن فسوف يحوله إلى مسجد، وبعد فترة قصيرة استطاع "برقوق" التغلب على "منطاش" وإعدامه على باب زويلة، وخرج المؤيد من السجن إلى الحكم.
وبعد خروج المؤيد من السجن وتوليه حكم مصر، فى شعبان سنة 815ه - 1412م وأصبح سلطاناً، جاء وقت الوفاء بالنذر، فقرر تحويل أحد أبشع السجون المصرية فى ذلك الوقت والذى عرف بـ"خزانة شمائل" إلى مسجد، فقام بشراء قيسارية الأمير سنقر الأشقر وأضاف إليها خزانة شمائل، وعدة حارات وهدمها لإقامة مسجد ومدرسة وضريح له ولأبنائه بجوار باب زويلة واستغرق بناءه ستة أعوام وتم افتتاحه فى العشر الأواخر من رمضان عام 1421.
وعلى بضع خطوات على السلم أمام المسجد تجد باباً ضخماً، وعندما تدقق النظر تجد شيئاً غريباً وهو وجود اسم "السلطان حسن" مطبوعًا على الباب، بالرغم من أن المسجد يحمل اسم المؤيد، ويرجع ذلك لأنه أثناء بنائه للمسجد أخذ بوابة مدرسة السلطان حسن المصفحة بالنحاس شديد الصلابة، فضلاً عن الذهب والفضة، لوضعها على المسجد، وإذا رفعت وجهك لنظر إلى أعلى تجد تحفة معمارية على الطراز المملوكى القديم، من أحجار متراصة بانتظام ومقطوعة بشكل جمالى بحيث تحفظ التوازن فوق البوابة الثقيلة.
ويتميز المسجد بقبة داخلية ضخمة يبلغ ارتفاعها حوالى أربعين مترا، ويتوسطه صحن وميضأة دائرية يستخدمها المصلون فى الوضوء، واستغل المهندس الذى صممه، ويقال إن اسمه "محمد القزاز" ملاصقته لباب زويلة حتى اتخذ من بدنتين قاعدتين لمنارتيه، ما أعطاه طابعا خاصا، وتم تزويد المسجد بخزانة كتب عظيمة تحوى مجموعة من الكتب فى مختلف العلوم والفنون.
ويعد المسجد فخراً لحضارة دولة المماليك البرجية، وأجمع المؤرخون على أهميته، حيث وصفه السخاوى بأنه "لم يعمر فى الإسلام أكثر منه زخرفة ولا أحسن ترخيماً بعد الجامع الأموى"، وقال عنه المقريزى، "هو الجامع.. الجامع لمحاسن البنيان.. الشاهد بفخامة أركانه وفخامة بنيانه.. إن منشئه سيد ملوك الزمان.. يحتقر الناظر له عند مشاهدته عرش بلقيس وإيوان كسرى أنو شروان.. ويستغفر من تأمل بديع أسطوانة الخورنق وقصر غمدان".
أما عن فترة حكم المؤيد، والتى انتشر فها فساد العربان فى مصر الذين اعتادوا مهاجمة القرى وسرقة الفلاحين المصريين، ما تسبب فى حدوث أزمة فى نقص توريدات القمح وتدمير المخزون الاستراتيجى للمحصول، فى الوقت الذى كان السلطان مشغولا فى حربه ضد المتمردين فى سوريا والشام، وزادت الأزمة فى انتشار الطاعون بالشرق الأوسط ووصوله إلى مصر، وقال عنه المقريزى، "إن وجود المؤيد فى الشام لمواجهة حركات التمرد سبب انتشار فساد الأمراء وموظفى الدولة فى مصر وانتشرت الرشاوى وعم الفساد الإدارى والظلم"، وأجمع عدد من مؤرخى عصره على أنه كام محبا للعلم ورعايته للعلماء، وأنه كان ينزل الناس منازلهم، ونعته البعض بأنه "كان ملكاً مهيباً ماجداً أديباً جواداً عالى الهمة جليل القدر يملأ العين.. ويرجف القلب".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة