- نقلا عن العدد اليومى..
- السوق السوداء للدولار وتجارة الخدمات أبرز أركان إمبراطورية التنظيم الاقتصادية
بأعين حاصرتها التجاعيد، تأمل الدكتور محمد مهدى عاكف من وراء نظارته الطبية ما استقر أمام مكتبه من شعار.. فحص المرشد السيفين وكتاب الله وهو يدرك أن العام 2005 رغم ما شهده من قيود أمنية يظل الأهم على الإطلاق فى تاريخ جماعة الإخوان.
أدرك فضيلة المرشد، كما كان يلقبه مريدوه، وعدد لا يستهان به من الشخصيات العامة أن الثمانية وثمانين مقعدًا التى انتزعها فى انتخابات البرلمان لن تكون إلا مجرد بداية لموجات أعنف من الصدام مع نظام حسنى مبارك الذى بدأ يفقد نفوذه، وبدأ الوهن يتسلل إلى قبضته الأمنية الثقيلة، لكنه كان يعلم كذلك أن ما أحرزه من انتصار فرض اسم الجماعة بقوة على الشارع السياسى المصرى من جهة، وعلى المهتمين بالملف المصرى داخل أروقة البيت الأبيض.
طوت الجماعة صفحات عام 2005 بما حمله من انتصارات وانتكاسات، وفتحت صفحات عام جديد لم يحمل بين أيامه زوار الفجر الجدد ولا حملات الاعتقالات المكثفة فقط، وإنما حمل كذلك رسائل ود وتقارب عدة من واشنطن ومراكز أبحاثها ودراساتها الرسمية وشبه الرسمية.
كانت جماعة الإخوان تشغل اهتمامات المؤسسات داخل واشنطن قبل عقود من عام 2005، وكانت تقديرات وكالة الاستخبارات الأمريكية فى منتصف ثمانينيات القرن الماضى تشير إلى أن الجماعة ستصبح «قوى عظمى» فى مصر، مؤكدة أنها ستحتاج بضعة عقود من الزمان لتشكل تهديدًا حقيقيًا لنظام حسنى مبارك، وبعد 31 عامًا على تقرير حمل تاريخ إبريل 1986، خرجت الوكالة نفسها لتؤكد أن الاتصالات بين البيت الأبيض والجماعة أصبح ضرورة حتمية.
لم تكن صفقة الإخوان والحزب الوطنى قبل انتخابات 2005 هى الوحيدة بين الجماعة ونظام حسنى مبارك، حيث رصدت الـ«CIA» ضمن وثائقها ومستنداتها كيف تعاون الإخوان مع الحكومة والأجهزة الأمنية ضد تيارات الإسلام السياسى الأخرى، ومن بينها الجهاد والجماعة الإسلامية وغيرها، مشيرة إلى أن هذا التعاون كان هدفه تحقيق مصالح متبادلة فى وقت سعت خلاله الجماعة للحصول على وضع قانونى.
بدأت إدارة بوش مراجعة التقارير القديمة والحديثة بشأن الإخوان، طرق مسؤولو البيت الأبيض أبواب الجماعة مبكرًا، ودون تردد فور الانتصار المدوى داخل البرلمان، خرج السفير الأمريكى لدى القاهرة فرانسيس ريتشاردونى ليعلق على النتائج، ويؤكد أن «الإخوان المسلمين أصبحت أكبر قوة سياسية موجودة فى الشارع، وهذا ما سيجعل الحكومة المصرية تفكر فى إيجاد طريقة شرعية وقانونية للتعامل مع الجماعة»، ليعكس ريتشاردونى ما يدور بالفعل بين واشنطن والقاهرة فى الغرف المغلقة من نقاشات حول تقنين وضع الإخوان، وحول الرغبة الأمريكية فى التواصل المباشر مع التنظيم.
كانت دولة مبارك وما تمتلكه من مؤسسات مكشوفة أمام وكالات الاستخبارات الأمريكية أكثر من أى وقت سابق. رصدت تقارير الـ«CIA» فى تسعينيات القرن الماضى شروط الحكومة المصرية لتقنين الجماعة ومنحها إطارا قانونيا، موضحة أن نظام مبارك كان يطالب الجماعة بوقف التظاهر ضد اتفاقية كامب ديفيد، والامتناع عن محاولات استقطاب عناصر من داخل المؤسسة الأمنية، بخلاف وقف التنسيق والتحالفات بين الجماعة وحزب الوفد، ومثلما رصدت تلك الوكالات شروط النظام، كانت تقديرات الاستخبارات الأمريكية جميعها تجمع على أن جماعة الإخوان لم ولن تقبل بأى منها إلا نظير ما هو أكبر كثيرًا من مجرد اعتراف وتقنين لأوضاع الجماعة القانونية.
«فوز الإخوان جاء باختيارات الشعب المصرى، وعبر عملية انتخابية.. وعلينا احترام ذلك»، بتلك الكلمات علقت باولا روبرا فينسكى، مساعد وزير الخارجية الأمريكية على نتائج الانتخابات البرلمانية 2005، مشيرة إلى أن الحكومة المصرية احترمت النتائج واعترفت بفوز الإخوان.
تصريحات فينكسى فى ذلك الحين كشفت التغيير اللافت فى الخطاب الأمريكى العلنى تجاه نظام حسنى مبارك.. فاجأت المسؤولة الأمريكية الصحفيين وقالت، إن تعامل واشنطن مع حكومة إسلامية غير مستبعد، طالما جاءت تلك الحكومة، سواء فى مصر أو غيرها من الدول، عبر الانتخاب الحر المباشر.
موقف مسؤولة الخارجية الأمريكية لم يكن الوحيد فى هذا الشأن، وإنما أعقبه العديد من البيانات والتصريحات من عدة مسؤولين فى إدارة جورج بوش الابن، بخلاف نواب الكونجرس للتأكيد على إجراء اتصالات بنواب جماعة الإخوان فى البرلمان ولو بصفتهم مستقلين.
كان الإخوان يبادلون واشنطن الترحاب عبر رسائل مباشرة وغير مباشرة، وفى الوقت الذى طرق فيه مسؤولو البيت الأبيض أبواب الإخوان، كانت الجماعة تغازل المجتمع الأمريكى عبر جمعيات إسلامية تقدم صورة إيجابية للمسلم المنفتح على العالم، القادر على التعايش السلمى مع مختلف الثقافات والأيديولوجيات، فى محاولة لكسب أرضية جديدة داخل المجتمع الأمريكى تعزز بدورها ما يتم إحرازه من تقارب بين قيادات الجماعة داخل دوائر السلطة وصناعة القرار فى واشنطن.
وكانت وكالة الاستخبارات المركزية «CIA» تراقب تحركات الجماعة قبل وأثناء فتح قنوات الاتصال المباشر بين الإخوان والبيت الأبيض، ورصدت الوكالة فى تقاريرها كيف استطاع التنظيم تدشين شبكة استثمارات محلية ضخمة فى مجال التجارة والتصنيع والخدمات، بخلاف الدعم المالى الذى كان يتلقاه الإخوان من دول الخليج وغرب أوروبا وشمال أمريكا، بالإضافة إلى تعاملات الدولار فى السوق السوداء وتجارة العملات المختلفة، كما تابعت الوكالة عبر تقاريرها مسارات المصالح التى حرصت الجماعة على رسمها بقوة من خلال تسللها إلى دوائر المثقفين وأساتذة الجامعات والأكاديميين والصحفيين ورجال الأعمال، وغير ذلك من طبقات المجتمع.
من النفى القاطع إلى التلميح، وصولاً إلى الإعلان الصريح عن اللقاءات، سارت العلاقات بين واشنطن وجماعة الإخوان فى سنوات جورج بوش الأخيرة داخل البيت الأبيض، كان واضحًا أن الإدارة الأمريكية بدأت خطواتها الأولى على طريق فك الارتباط مع نظام مبارك من خلال العديد من المواقف والتصريحات التى تؤكد تمسك واشنطن بإجراء مشاورات ومباحثات مع جماعة الإخوان والتحايل على القانون المصرى، من خلال توصيف نوابها بأعضاء المجلس «المستقلين».
فى بدايات 2006، كان جيمس وولسى، مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية آنذاك، يعكس بصورة أكثر وضوحًا من أى وقت سابق موقف الإدارة الأمريكية من جماعة الإخوان، خرج وولسى وقال، فى إحدى الندوات بشكل صريح: «إن وصول الإسلاميين إلى السلطة لا يشكل مصدرا للقلق للبيت الأبيض، ولا ينبغى أن يكون كذلك»، مستشهداً بالتجربة التركية فى بداية الألفية الجديدة.
ولم يكن موقف جيمس وولسى هو الوحيد من نوعه، فخلال العام نفسه، كانت وزيرة الخارجية الأمريكية الأشهر، مادلين أولبرايت تؤكد وجهة النظر الأمريكية ذاتها، مشددة على أن «أنجح وسيلة لمواجهة التطرف هى تمكين المعارضة الإسلامية من المشاركة فى الحياة السياسية»، مؤكدة أن السعى إلى السلطة عمل مشروع فى أى نظام ديمقراطى.
كان للدعم الأمريكى الذى تتلقاه الجماعة صدى بالغ تحت قبة البرلمان، كان نواب الإخوان أكثر شراسة فى استجواباتهم ومواجهاتهم لنظام مبارك عبر الدوائر التشريعية، فيما آثر رجال الرئيس الرهان على الصبر وانتظار الانتخابات الأمريكية التالية ورحيل إدارة جورج بوش الابن و«المحافظون الجدد».
اقتربت عقارب الساعة من انتهاء ولاية مبارك الخامسة، فى وقت كان جورج بوش يتأهب لمغادرة البيت الأبيض بعد انتهاء ولايته الثانية والأخيرة.. وفيما كان المصريون يطوون أيام مبارك الأخيرة بشرايين مفتوحة أمام موجات الغضب، كانت واشنطن الرسمية وغير الرسمية تراقب المشهد فى صمت، واصلت وكالات الاستخبارات كتابة التقارير تلو التقارير، فيما استعد نظام الرئيس العجوز للاحتفال برحيل جورج بوش وأركان إدارته دون أن يعلم أحد أن القادم هو الأسوأ على الإطلاق.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة