اجتاحت القاعة عاصفة من التصفيق الحاد.. فوقف مبارك الابن ليحيى الحضور بعد أن لقبه أحمد عز أمين التنظيم بـ «مفجر ثورة التطوير والتحديث».. وفى لحظة زهو بنفسه بدا جمال على المنصة بعيون متفحصة للجالسين أمامه فى المؤتمر، متأملا انتصاره اليوم بعد ان استطاع أن يبدل وجوه الأمس التى رافقت والده فى مسيرته السياسية بأخرى شابة داعمه لمشروعه الخاص، الذى بدأ الترويج له خلال السنوات الماضية على استحياء وبدا اليوم واضحا للعيان.
كان المشهد فى اليوم الأول للمؤتمر السادس للحزب الوطنى الديمقراطى فى اكتوبر ٢٠٠٩ يوحى بأن التغيير فى أركان نظام مُبَارَك قد بدأ لصالح رِجَال الاعمال «السياسيين الجدد» أصدقاء نجل الرئيس، بعد صراع انطلقت شرارته الاولى فى عام 2002 مع الحرس القديم، إلى أن تم حسم الأمر اليوم لصالح الجيل الجديد بتشكيل أمانة السياسات التى خلت تماما من رموز الحرس القديم، حيث خرج أقطاب نظام مبارك من المشهد فى مقدمتهم يوسف والى وكمال الشاذلى.
خرج الكبار فى صمت أمام رغبة الابن الشاب تاركين وراءهم تركة ثقيلة لمجموعة السياسيين الجدد حديثى العهد، ورغم مخاوف الأب من تلك التحركات إلا أنه ظل يراقب فى صمت خلف الكواليس بعد أن ضربت الشيخوخة مفاصل حكمه وانزوى مكتئبا بعد وفاة حفيده التى لم يمض عليها سوى أشهر قليلة، ولكنه لم يكن يعلم ان تلك الخلخلة التى تتم دون دراسة فى النظام السياسى سوف تهدم المعبد على من فيه.
الشاب الطامح إلى الحكم بدأ عهده بثقة مفرطة وهجوم على معارضية، بعد أن وصفهم بأنهم لا يتبنون أى برامج حقيقية ولا تفعل شيئا سوى إطلاق الشعارات مدافعا عن سياساته الاقتصادية التى أنقذت البلاد فى الأربع سنوات الأخيرة - على حد تعبيره، وبدأ يتحرك معولا على دعم واشنطن له التى زارها مؤخرا وسط تكتيم اعلامى ما أثار جدلا كبيرا داخل مصر، ورغم دفاع رجال الحزب الوطنى عن تلك الزيارة وأنها لم تخرج عن اختصاصاته كأمين عام للسياسات بالحزب الحاكم الا ان المراقبين وصفوها بداية تعارف بين العاصمة الامريكية والرئيس المصرى المقبل.
وتصاعد نفوذ جمال مبارك وبدأ فى القيام بجولات استعدادا للانتخابات البرلمانية الحاسمة التى تسبق الاستحقاق الرئاسى، وبرزت على صفحات الصحف القومية صور للوريث فى قرى ونجوع محافظة أسوان والنوبة والأقصر وقنا، مصافحا الاهالى بالأيدى تارة ومقبلا لوجنات الأطفال تارة آخرى حاملا فى جعبته وعودا معيشية واقتصادية لا حصر لها، إلا ان تصدره المشهد وخلفة وفد حكومى رفيع المستوى يتضمن مالا يقل عن ستة وزراء يوحى بأنها جولات رئاسية.
تحركات نجل الرئيس الأسبق كانت تحت مجهر المخابرات الأمريكية
تحركات نجل الرئيس الأسبق كانت تحت مجهر المخابرات الأمريكية الـ «CIA» التى ظلت تراقب تصرفات الشاب منذ أن حط عليها زائرا وحتى حسمه لصراع الأجنحة داخل الحزب الحاكم وصولا لجولاته المحلية ووعوده للبسطاء، حيث رأت واشنطن فى مؤتمر الحزب الأخير بداية فترة حساسة تستغرق عامين من الانتخابات وإمكانية قيام تحول سياسى فى دولة عربية رئيسية حليفة.
والتزمت الادارة الامريكية الصمت واكتفت بالرصد، حيث قالت انها لن تعبر عن رأيها حول موضوع الخلافة، ولن تضغط من أجل إجراء إصلاح سياسى فى مصر فى أى وقت قريب. فتلك الفترة كان الرئيس الأمريكى الجديد باراك اوباما منغمسا فى القضية الفلسطينية كمحور اساسى لسياسته الخارجية فى وقت كادت الأوضاع فيه ان تنفجر بعد الحرب الإسرائيلية على غزة، وكان فى حاجه إلى دور مصر لتهدئة الأوضاع على الجانب الفلسطينى لذلك أغمض عينيه عما يحدث فى مصر إلى حين.
إلا أن تقارير السفارة الامريكية لم تنقطع عن تطورات الداخل المصرى حيث قال السفيرة مارجريت سكوبى فى احدى مراسلاتها السرية ان الشكوك ما زالت تسود حول من سيخلف مبارك، وأكدت ان نجله جمال السياسى البارز فى الحزب الحاكم هو «المرشح الأكثر ترجيحا»، وأن الرئيس الحالى يضع ثقته فى القيادات الأمنية لضمان انتقال سلس للسلطة، بعد أن أحكم قبضته على السلطة وأبعد مستشارين وهمش المعارضة.
وتضمنت تقارير المخابرات الامريكية الـ «CIA» رصدا لما شهده عام 2010 من جدل بسبب تغيب الرئيس المصرى حسنى مبارك ثلاثة أسابيع فى ألمانيا لما قيل إنه إجراء عملية لاستئصال الحويصلة المرارية وزوائد فى الاثنى عشر، ثم بقى لفترة فى شرم الشيخ لقضاء فترة نقاهة، ورأت بعض التقارير أنه مع عدم اختيار مبارك نائب له، وهو الشخص الذى سيكون بالتالى مرجحًا لخلافته، فإن فرصة نجله جمال مبارك اذا ما اختاره الحزب الحاكم كمرشح له تزداد، وتوقعت التقرير الاستخباراتية الأمريكية أن استمرار تدهور معيشة المصريين قد يشكل خطرا وجوديا على النظام، وهنا يصبح الإخوان تهديدًا فوريًا.
مكتب إرشاد الاخوان لم يكن بعيدا عما يحدث، بل ان الجماعة كانت الأكثر يقظة للتغييرات التى تشهدها أروقة الحزب الوطنى وأركان الحكم وبدأت الاستعداد للمعركة الجديد، فبعد شهرين فقط من المؤتمر العام للحزب أعاد الاخوان المسلمون ترتيب صفوفهم الداخلية بانتخاب محمد بديع مرشدا عاما فى سابقة هى الأولى على مر تاريخ الجماعة فى مصر، حيث تم اختيار مرشد عام للجماعة بالانتخاب فى ظل وجود مرشد عام على قيد الحياة؛ ليصبح محمد مهدى عاكف صاحب لقب أول مرشد عام سابق للجماعة.
وترددت فى الأروقة أن عاكف كان قد قرر الانسحاب بسبب ما وصف بالخلافات بين المحافظين والإصلاحيين داخل الجماعة، ولم يلبث بديع سوى ايام قليلة حتى بدأ فى مغازلة أركان الحكم الجديد على أمل الظفر بصفقة برلمانية أكبر من تلك التى تمت فى ٢٠٠٥، حيث أكد فى اول حواراته انهم لا يعارضون ترشيح جمال مبارك للحكم، مثله مثل أى مواطن مصرى شريطة ألا يتميز عن أى مواطن مصرى فى طريقة العرض على الشعب وبآلية تسمح بالاختيار الحر النزيه.
الجماعة لم تكن تعلم مّا يتم التدبير له بين السياسيين الجدد فى الحزب الوطنى، الذين يسعون إلى الانتقام منهم على ما بدر علنا من قنوات اتصال مع الأمريكان عقب صعود الرئيس باراك اوباما للحكم وان الصفقة الماضية لن تتكرر، حيث ازدادت القبضة الأمنية فى الأشهر القليلة قبل الانتخابات البرلمانية حيث جدد مجلس الشعب تمديد العمل بقانون الطوارئ لعامين آخرين، وتصاعدت حملة الاعتقالات فى صفوف المعارضة وجماعة الاخوان.
حانت لحظة الحسم.. ودخل الحزب الوطنى للانتخابات مستندا إلى كل مؤسسات الدَولة التى سخرها لفوزه، ليكتسح جمال مبارك وحلفاؤه مقاعد البرلمان وسط عملية تزوير فاضح انتفض لها الداخل والخارج، وافتخر الحزب الحاكم بإطاحته بالجماعة على لسان أمين التنظيم بالحزب أحمد عز الذى رأى أن «العنوان الأمثل لانتخابات مجلس الشعب هو: كيف أسقط الوطنى التنظيم المحظور»، وعزا عز ذلك إلى «الأسلوب المبتكر» الذى انتهجه الحزب الحاكم.
الا ان تلك الانتخابات اخرجت الادارة الامريكية عن صمتها، حيث أبلغت واشنطن القاهرة - رسميًا - أن التوسع فى عملية التزوير خلال المرحلة الأولى من الانتخابات وإبعاد المعارضة بكل أطيافها لا يصب فى صالح التجربة الديمقراطية فى مصر، ولا ينسجم مع التصور الأمريكى للأوضاع السياسية فيها، باعتبار أن وجود نوع من المعارضة يؤمن نوعا من الاستقرار السياسى يحافظ على مصالح كل الأطراف، ليأتى التحول الأمريكى فى وقت تغلى فيه الأوضاع الداخلية وتتجه إلى ما لم يكن متوقعا.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة