مع إسدال الستار على الموسم الرمضانى الماضى، وانتهاء آخر حلقة من مسلسلاته الكثيرة، عاد الجميع إلى قواعدهم سالمين، الجمهور أسلم نفسه للحياة وتفاصيلها، وأصحاب القنوات صرفوا انتباههم لخرائط العرض فى قنواتهم لبقية العام، والمعلنون درسوا حالة السوق ووجهوا إعلاناتهم لبرامج التوك شو ومساحات ظهور نجوم الإعلام ومقدمى البرامج الثابتة طوال العام، إلا المنتجين ونجوم التمثيل، خرجوا من معمعة الموسم الماضى ليدخلوا معمعة الموسم الجديد.
بين عشرات المسلسلات التى تتسابق للفوز بحصة كبيرة من كعكة المشاهدة والإعلانات التى تتضخم ويزيد حجمها فى رمضان، شهد الموسم الماضى بروز عدد من الأسماء، كان من الطبيعى أن يزداد التركيز عليها فى الموسم الجديد، وأن يبدأ المؤلفون والمنتجون والمخرجون وضع خطط جديدة للاستفادة من نجاحها، ومواصلة المنافسة بها فى الموسم الجديد، القاعدة تقول أن لموسم رمضان شروطه وقواعده الخاصة، السباق لا يخضع لأى مؤثرات من خارجه، والمنافسة تنحصر بين أفكار الكتاب، وعيون المخرجين، وأداء الممثلين، وكرم المنتجين وبذخ إنفاقهم على أعمالهم، وأخيرا مدى اهتمام القنوات ومنافستها على وجوه وأعمال بعينها، ولا يتخيل صناع الدراما وهم يجهزون أسلحتهم للمعركة الأهم سنويا، أنهم ربما يجدوا أنفسهم فجأة فى صراع جديد ومنافسة من نوع خاص، يختلط فيها المحلى بالإقليمى، والسياسى بالفنى، والتشخيص بالأدوار الحقيقية، وهذا ما شهده الموسم الحالى، فإلى جانب المنافسة المشتعلة بين النجوم والمسلسلات وصناعها، سيطرت على الموسم منافسة من نوع خاص، توارت فيها حسابات نسب المشاهدة وتوجيه الإعلانات وعوائد القنوات والمنتجين، لصالح كثافة المتابعة والاهتمام ودخول لاعبين سياسيين على خط الدراما والتمثيل، وهذا باختصار ما حملته المنافسة بين دراما رمضان، وأزمة قطر.
دراما رمضان 2017.. قطر تنافس صناع المسلسلات العرب
فى كل المواسم الرمضانية الماضية كان السباق ينحصر بين الشاشات، عشرات الملايين من المشاهدين على امتداد الوطن العربى يركزون أبصارهم على قنوات التليفزيون، لا تستطيع أى قضية عامة صرفهم عن مسلسلهم أو نجمهم المفضل، ومتابعته وتتبع حلقاته من شاشة لأخرى، ولكن الاهتمام الذى حازته قضية قطر فى الموسم الحالى مثّل تغيرا حادا فى طبيعة رمضان وما اعتاده الناس فيه، فرغم كثافة المشاهدة وزحام السباق بعشرات المسلسلات، يمكن القول ببساطة إنه لا صوت يعلو فوق صوت أزمة قطر.
السياق الذى اشتعلت به الأزمة فى الخامس من يونيو، وتطوراتها حتى الآن، والسيناريوهات المتوقعة لها والاحتمالات المفتوحة لنهايتها، تجعل الأمر أقرب إلى مسلسل تليفزيونى، يبدو قوى القصة ومحبوك السيناريو وثرى الإنتاج، ما لم تتعمق فيه لتكتشف عيوبه وثغراته، ويعمق هذا التصور أداء الحكومة القطرية ورجالها ونوافذها الإعلامية، وتعمدها نسج خيوط درامية عديدة ومتقاطعة، تتوزع بين الدوحة وطهران وأنقرة وجنيف وعواصم عالمية أخرى، وتصب كلها فى اتجاه رغبة قطرية رسمية فى تصعيد الأمر وشحن الأحداث والدفع بها لذروة سخونة وتوتر درامى، تتداخل فيها المواقف والشخصيات، ويتشابك الحوار، وتتعقد الخطوط والقصص الفرعية، وكأنك أمام خطة إنتاجية وتسويقية تدفعها حسابات الإنتاج والمصالح لمطّ الحدوتة وتشعيب سياقاتها، لتعبئة أكبر عدد من ساعات الدراما، والاستمرار على الشاشات لأطول وقت ممكن، وحصاد أقصى مكاسب متاحة من البروباجندا وتغذية فضول المتابعين واجتذاب الجميع، إما للمشاهدة أو الرهان أو وضع إعلاناتهم ضمن الطبخة الأبرز فى الموسم، طبخة قطر درامية الطابع.
مسلسلات رمضان.. أعمال عادية تمنح «طبخة قطر» فرصة الصدارة
الملمح الأبرز فيما يخص تصدر الأزمة القطرية لواجهة الأحداث، ونجاحها فى انتزاع صدارة السباق الدرامى الرمضانى، أن الأمر ربما لا يرتبط بجودة الصنعة القطرية، أو كفاءة الأداء الفنى للدوحة، أو حجم الإمارة الخليجية الصغيرة وأهميتها للمشاهد، وإنما يعود الجانب الأكبر من الأمر لعادية الأعمال المتنافسة فى الموسم الحالى، وسيطرة الحبكات التقليدية والأداء الكليشيهى على أغلب المسلسلات، ما وفر لقطر فرصة التقدم خطوة للأمام، ومنح جرعة كافية من التشويق واللعب بعقول المتابعين، لتصبح الوجبة الدرامية الأبرز على الشاشات.
ضمن عشرات الأعمال الدرامية التى تشغل شاشات القنوات العربية، لا يحضر عمل واحد فارق، المسلسلات الأكثر انتشارا وفوزا بنسب مشاهدة ضخمة، تستند لنجوم ووجوه بارزة، وليس لاستثنائية فى القصة أو الحبكة والأداء، فمثلا فى مسلسل لا تطفئ الشمس، يجتهد المخرج أحمد شاكر خضير فى تحقيق سيناريو تامر حبيب لرواية إحسان عبد القدوس الشهيرة، وبعيدا عن منافسة المسلسل المحسومة لصالح فيلم صلاح أبو سيف عن الرواية نفسها، إنتاج 1961 بأداء فاتن حمامة ونادية لطفى وأحمد رمزى وشكرى سرحان، لا يبدو أن سيناريو تامر حبيب وقع على جوهر قصة إحسان عبد القدوس، والاقتراب الواعى من المفتاح الدرامى للقصة، متمثلا فى التعقيدات النفسية التى تحكم مسار الشخصيات الأساسية، الأم الأرملة وابنيها وبناتها الثلاث، وكون هذا المدخل النفسى هو المحرك لفضاء العمل وتقاطعات شخصياته، وربما لهذا جاء أداء ميرفت أمين ومحمد ممدوح وأمينة خليل باهتا، يقدم انفعالات تبدو معلقة فى الفراغ، ولا يدفع فى اتجاه بناء الأحداث من داخل نفوس شخصياتها، وتنميتها على أرضية الفعل الإنسانى قبل صيرورة الدراما ومواقفها.
فى مسلسل «كلبش» للفنان أمير كرارة، يقدم باهر دويدار سيناريو بوليسيا جيد الحبكة، ولكنه تقليدى، عن ضابط شرطة يواجه صراعا مع منظومة علية القوم التى تقاطع معها فى خطأ درامى عابر وغير مقصود، تقليدية الحبكة انطبعت على أداء الممثلين فجاء محمد لطفى وانتصار ومحمود البزاوى وغيرهم عاديين للغاية، وحتى أمير كرارة نفسه لم يقدم الكثير رغم اجتهاده، الشواهد كلها تؤكد نضجه وتطور قدراته، ولكنه مربوط بحيز درامى محدود وعادى وغير مدهش، وحدود تقليدية للصراع وعلاقات الشخصيات، وبالمنطق نفسه جاء تصور بيتر ميمى لمعالجة القصة بصريا، حاول صنع حالة من التشويق، ولكن المسار التقليدى الحاكم للقصة حصر هذا التشويق البصرى فى القطعات السريعة والكادرات شبه المظلمة التى تشى بالغموض والتشويق، ولكنه غموض مصنوع وغير مقنع.
فى مسلسل "لأعلى سعر" جاءت نيلى كريم باهتة، لا تلمع كسوابق أعمالها فى المواسم الماضية، سجن النساء نموذجا، سيناريو مدحت العدل تقليدى ومكرر، حاول صنع تقابل بين خفة روح "الباليرينا" وثقل الواقع المحيط بها، فى معادلة أقرب من الطيران داخل سجن، ولكنه لم يجد الإمساك بهذه الحالة وترجمتها دراميا، انحصر الأمر فى المزاوجة بين السجن المحيط بالبدن، والانطلاق الذى يحققه الباليه للبدل نفسه أيضا، صورة أحمد جمال العدل لا تأخذ العين ولا تفتح فضاء المعنى والتأويل، اجتهدت زينة ونبيل الحلفاوى فظهرا مختلفين، ولكنهما يدوران فى دائرة محدودة ولا جديد فيها تقريبا.
فى مسلسل "كفر دلهاب" تسيطر الرؤية السياسية على الطابع الاجتماعى ذى الصيغة المستدعاة من التاريخ نوعا ما، وإن لم يُحدّد مجالها التاريخى، اجتهد عمرو سمير عاطف فى تعبئة السيناريو والحوار بالأحداث التى يمكن أن تمثل معادلا لقراءته للواقع، وهو ما وضع المسلسل فى حيز محدود ومؤطر بالرسالة السياسية، وخصم من استجابته لطبيعة الصيغة الحكائية والبصرية التى اختارها، ولهذا جاء أداء يوسف الشريف باهتا وغير مقنع بدرجة كبيرة، وفى "واحة الغروب" لم تُحسن مريم نعوم وهالة الزغندى فى ترجمة رواية بهاء طاهر، فى الحقيقة روايات "طاهر" من الأعمال المرهقة فى تحويلها لعمل درامى، إذ يراهن على كثافة السرد والشحن النفسى للمواقف والشخصيات، ولا يهتم بكثافة الأحداث وتتابعها، مع يحتاج من أى سيناريست يتصدى لرواية له أن يكون قادرا على نسج خيوط جديدة، مرتبطة عضويا بمسار القصة الأساسية، وهو ما لم يحققه السيناريو نوعا ما، واجتهدت كاملة أبو ذكرى لصنع صورة جميلة وناعمة، مربوطة بفكرة "النوستالجيا" والحنين التاريخى أكثر من إخلاصها لدفع الحدث وقيادته، وأمام التركيز على الصورة غاب الإيقاع عن نظر المخرجة، والأداء أيضا، فجاء المسلسل مترهلا والتمثيل باهتا ولا يسمن من جوع.
فى مسلسل "غرابيب سود" حصر صناعه اهتمامهم فى تقديم معادل درامى وبصرى شبه واقعى لتنظيم «داعش» ودولته المزعومة فى الرقة السورية، وفى إطار الاستجابة للرسالة السياسية جاء المسلسل حافلا بالساركازم والأسطرة وبعض القصص الشائعة عن التنظيم، فظهرت الشخصيات وكأنها عرائس مربوطة بخيوط لا يرى أحد نهايتها ولا الممسك بطرفها، وجاء الأداء فى أغلبه كاريكاتوريا باهتا، حتى أعلنت مجموعة Mbc توقف عرضه على خلفية مواجهة أسرة الطيار الأردنى الذى حرقه تنظيم داعش حيا، معاذ الكساسبة، ورفضهم له.
مسلسل عادل إمام لم يأت مختلفا عن أعماله الدرامية فى السنوات الأخيرة، قصة باهتة مصنوعة بكاملها لصالح النجم الأوحد، إلى حد أنها تتجاوز الثغرات ومنطقية الأحداث وارتباطها بطبيعة البطل ومرحلته العمرية، يظهر عادل إماما بطلا وحيدا مهيمنا على فضاء العمل، ونجما أسطوريا لا حد له، حتى وإن كان فى شيخوخته، ومع تأثر أدائه بحكم السن، وإصرار يوسف معاطى على الخلطة نفسها، ومحدودية أفكار وحلول رامى إمام البصرية، لم يأت المسلسل مميزا ولا حافزا على المشاهدة، وكان رهانه الوحيد هو عادل إمام، كما أراد صناعه.
الأعمال الكوميدية فى الموسم لم تكن مصنوعة بعناية هى الأخرى، فى مسلسل «خلصانة بشياكة» يتعاون شيكو وهشام ماجد مع أحمد مكى، فى فكرة لامعة وكافية لصنع حالة كوميدية مهمة، عن حرب بين الرجال والنساء تؤدى لدمار العالم، وصولا إلى مجموعتين محدودتين من الرجال والنساء، يواصلون الحرب، ليظهر زوجان أفلتا من الحرب وحافظا على زواجهما، محاولين إصلاح الأمور قبل انقراض الجنس البشرى، ولكن الأمر توقف عند الفكرة واستخدامها كماكينة إنتاج للضحك، فجاء المسلسل أقرب إلى الاسكتشات الكوميدية، ولم يعتن كتاب العمل برسم أبعاد الشخصيات ونفسياتها، وبالتبعية جاء التمثيل سطحيا وافتعالا للضحك، ينبع من شخصيات كاريكاتورية لا من نماذج آدمية من لحم ودم، وعلى الطريقة نفسها صنع أحمد فهمى، الضلع الثالث مع شيكو وهشام ماجد قبل انفصالهم، مسلسله ريح المدام، الذى يصنع حالة كوميدية من الاسكتشات المتجاورة، عن زوج يحاول استعادة زوجته التى تعانى من حالة نفسية تدخلها فى مواقف وتجارب حياتية متباينة، ومع طبيعة الحكاية وعناصرها يبدل أحمد فهمى ومى عمر شخصياتهما يوميا، بطريقة الحلقات المتصلة المنفصلة، ولا يحكمهما رابط درامى أو أدائى، كما جاء أداء رجاء الجداوى، والدة البطلة، وأكرم حسنى، الطبيب النفسى وصديق البطل، باهتا وغير ملفت، باعتبار دوريهما مجرد محاولة لإيجاد رابط بين تحولات البطلين المستمرة، وفى السياق نفسه جاء مسلسل «شاش × قطن» عن بيومى فؤاد الذى يملك مستشفى خاصا على طريق سريع، يعاونه فيه ابنه المريض النفسى، والطبيب والطبيبة العانس، والمطرب الشعبى ونماذج أخرى شبيهة، من الكاركترات المستخدمة لتوليد كوميديا لفظية، مع تتابع المواقف وزوار المستشفى المتجددين يوميا، وهى حالة اسكتش أيضا، لا تقدم دراما ولا كوميديا حقيقية.
محمد عادل إمام حاول استنساخ روح والده فى مسلسله الأشهر "أحلام الفتى الطائر"، فرغم اختلاف طبيعة الموضوع إلا أن مسلسل "لمعى القط" أقرب إلى خلطة عادل إمام المعهودة، شخصية متعددة القدرات وقادرة على صنع المستحيل، وشخصيات كاريكاتورية كثيرة للغاية لا تجاوز دور "السنّيد"، وكوميديا مصنوعة وموجهة لخدمة البطل المضحك خفيف الدم، ووفق هذه الخلطة لم يكن من المنطقى توقع أى إدهاش فى مسار الحكاية أو معالجتها إخراجيا أو حتى أداء محمد إمام، والأمر نفسه بالنسبة لمسلسل "فى اللا لا لاند" الذى يمثل حالة درامية معادة، بدءا من تيمة القصة وطريقة معالجتها، والديكوباج الإخراجى الذى تشعر وكأنك رأيته كثيرا من قبل، وحتى أداء دنيا سمير غانم التى عادت للرهان على شخصيتها الكاريكاتورية المركبة من الأداء ذى الطابع الريفى مع شخصية "الساذج قليل الفطنة"، وقد أدتها من قبل فى أعمال أخرى، وهو ما ذهب المسلسل بكامله فى مساحة باهتة ولا تضيف شيئا لصناعه ولا مشاهديه، ولا حتى الضحكة الحقيقة.
إلى جانب النماذج السابقة، لم يحفل الموسم الرمضانى بعمل آخر مدهش، مسلسلات كريم عبد العزيز ويسرا ومصطفى شعبان وروبى وياسمين عبد العزيز وغيرهم من النجوم عادية، فيها محاولات حثيثة واجتهادات جادة، ولكنها جاءت فى أغلبها من داخل الصندوق، مع سيناريوهات عادية وشخصيات مسطحة فى أغلبها ورؤى إخراجية تحقق المكتوب ولا تبدع فى خلق حلول ومعادلات بصرية ثرية ودافعة للأعمال للأمام.
"لعبة الدوحة".. مسلسل رمضانى سياسى كوميدى تراجيدى
على الجانب الآخر، وبعيدا عن صناع المسلسلات وسباق الدراما الرمضانية، حضرت أزمة قطر بقوة، ودفعت الدوحة فى اتجاه صنع خلطة سياسية كوميدية تراجيدية، وربما ميلودرامية أحيانا، وتوظيف أموالها وحكومتها ونوافذها الإعلامية ووجوهها السياسية فى حبكة درامية وأدوار مركبة، يختلط فيها الحقيقى بالفانتازى، والجد بالهزل.
أرادت قطر لمسلسلها أن يبدأ فى الساعات الأولى من صباح الاثنين 5 يونيو، بالتزامن مع الحلقة العاشرة من مسلسلات رمضان، وكانت البداية بمثابة الحلقة العاشرة لا الأولى لطبخة الدوحة الدرامية، توزعت الحلقات التسعة الأولى على السنوات العشرين السابقة، بدءا من العام 1996، وهو العام الثانى بعد انقلاب حمد بن خليفة آل ثانى على أبيه أمير قطر الأسبق، الذى سبقه فى الانقلاب على ابن عمه أحمد بن على آل ثانى، أول أمير للدويلة الصغيرة بعد استقلالها عن بريطانيا فى بداية السبعينيات، ومن 1972 حتى 1995 حكم خليفة بن حمد الإمارة الصغيرة بمنطق سياسى لا يتمرد على حدودها وثقلها الخفيف فى المنطقة، معتبرا أنه ودويلته امتداد طبيعى للمملكة العربية السعودية، بحكم الانتماءات القبلية والروابط الجغرافية وكون المملكة بوابة الإعاشة الأساسية للإمارة، ولكن ابنه حمد، الذى دبر للإطاحة بأبيه استجابة لضغوط زوجته موزة آل مسند، التى ارتبط بها الابن بضغوط من أبيه رغبة فى شراء ولاء آل مسند وضمان ألا ينقلبوا عليه، ولكن طموح موزة كان أخطر من عائلتها، فكانت سبب الإطاحة بحماها غير المحنك سياسيا، وسبب تحول سياسات قطر بدءا من العام الثانى لزوجها فى الحكم والعام الأول لقناة الجزيرة فى 1996.
بدأت الحلقة الأولى من المسلسل بانقلاب يبدو ناعما من الابن على أبيه، ولكنه فى داخله كان عنيفا بدرجة كبيرة، إذ حمل تغييرا كبيرا فى بنية السلطة فى الإمارة الصغيرة، وطبيعة أجهزتها الأمنية والسياسية، والأهم خطابها الإعلامى وآليات عملها الخفية، وفى الحلقة الثانية تم توظيف الجزيرة لمد أواصر القربى مع بعض الأنظمة المجاورة، ومعاداة أنظمة أخرى، وفى الحلقة الثالثة استعانت القناة بوجوه بارزة من إعلاميى هيئة الإذاعة البريطانية ،«BBC» خاصة من تجمعهم روابط عميقة بجهاز الاستخبارات البريطانى «MI6» وبالميليشيات الإسلامية الصاعدة إقليميا وعالميا، وفى الرابعة تبنت خطابا معاديا للنظام العراقى ودفعت فى اتجاه إسقاط بغداد، وفى الخامسة بدأت تتجه بشكل مباشر للمشاركة فى صناعة التنظيمات والميليشيات لا الاكتفاء بالترويج لها، مثل تنظيم الدولة الإسلامية فى العراق الذى تحول لـ«داعش» فى وقت لاحق، وفى الحلقة السادسة تبنت خطاب الفوضى الخلاقة الأمريكى وعملت على شحن شعوب المنطقة ضد الأنظمة الحاكمة، وفى السابعة تبنت ثورات الربيع العربى ودفعت فى اتجاه تطويرها لتشمل أسس وركائز الدول وليس الأنظمة السياسية فقط، وفى الثامنة تبنت فلول هذه الثورات من شراذم التيارات الإسلامية المنقلبة عليها، فاحتضنت جماعة الإخوان وداعش وجبهة النصرة والحوثيين وميليشيات ليبيا، ووفرت لها التمويل والغطاء السياسى والإعلامى، وفى الحلقة التاسعة ظهر أميرها الصغير تميم بن حمد دافعا فى اتجاه إشعال المنطقة، بتصريحات مهاجمة للقوى الإقليمية الكبرى وداعمة لقطر وتركيا وإيران، تراجع عنها لاحقا وقال إن وكالة الأنباء القطرية الرسمية «قنا» اختُرقت وتم دس هذه التصريحات عليه، ليبدأ المسلسل من الحلقة العاشرة، مع رد فعل القوى الإقليمية على حلقات التجاوزات القطرية التى امتدت لما يفوق 20 سنة، ولكن قطر أرادت وفق حبكتها والسيناريو الذى كُتب فى دهاليز قصرها الأميرى الصغير أن تكون الحلقة الأولى على الشاشات، قرار مصر والسعودية والإمارات والبحرين بقطع العلاقت معها فجر الاثنين 5 يونيو الجارى.
عقب قطع العلاقات تطورت الأحداث بشكل متسارع، أفلت السيناريو من قبضة موزة آل مسند، التى بدأته وتابعت كتابته منذ الإطاحة بوالد زوجها من عرش الإمارة، وحتى الإطاحة بالإمارة نفسها من الدائرة العربية، وكان تطور الأحداث مربكا لـ"موزة" ومعاونيها فى كتابة السيناريو، فاضطروا لحشد سيل من الأحداث والشخصيات والحوارات المهتزة والمرتبكة، فى إطار التعلق بحبل نجاة ينقذ المسلسل من الفشل، ولكنها رغم هذا لم تلحظ أن ابنها، الأمير الصغير، لم يظهر إلا فى حلقة واحدة، وأنها حصرته فى الدور الثانى كما حصرت أباه من قبل.
ارتباك السيناريو واهتزاز الشخصيات.. قراءة فنية فى مسلسل قطر
البلد الصغير الذى لا يمتلك أى مقومات سياسية أو ثقافية كبيرة، لم يتقن حبك سيناريو جيد بما يكفى لصنع مسلسل مقنع، وبالتأكيد لم يكن يحلم بحجم الاهتمام والمتابعة الجماهيرية اللذين توفرا له، وكان الفضل فيها لثقل وكفاءة الأبطال والفنانين الإقليميين الذين صاغوا خيوطا درامية جديدة، على غير ما تتوقع قطر وأميرها الصغير.
التحول الدرامى الضخم الذى أحدثه ظهور مصر والسعودية والإمارات على مسرح الأحداث بشكل مباشر، دفع السيناريست القطرى لحشد كل قواه، ولكن المحنة التى واجهها أنه منذ كتابته للحلقة الأولى من المسلسل فى 1996 لم يهتم بصنع أبطال، أو لم يفلح فى صنعهم، فظلت كل شخصياته ثانوية، وأغلبها فى منطقة الظل والكاراكتر، قدرات تميم الفنية لم تسعفه للتقدم ولعب دور الفتى الأول، فظل سجين الدور الثانى، والاستعانة بحمد بن جاسم، رئيس الوزراء الأسبق، أو حمد بن ثامر رئيس المؤسسة القطرية للإعلام، أو محمد بن عبد الرحمن آل ثانى وزير الخارجية، أو سيف بن أحمد آل ثانى مدير مكتب الاتصال الحكومى، كان أقرب لحشد الكومبارسات وملء ساعات الدراما بالأحداث الهامشية، خاصة مع محدودية الكفاءة وضعف الأداء اللذين سيطرا على ظهورهم، وتضارب المواقف والحوارات الدرامية بينهم.
فى الحلقات التالية لحلقة قطع العلاقات، حشدت قطر كومبارساتها وفنييها ودخلت مرحلة فوضى كبيرة فى المشاهد والوكيشنات، ظهر القصر الأميرى وغرفة أخبار الجزيرة ووزارة الخارجية والمؤسسة القطرية الوطنية لحقوق الإنسان، مع مشاهد فى الخلفية لأنقرة وطهران والجيش التركى والحرس الثورى الإيرانى، وتصريحات متراجعة ومهتزة لوزير الخارجية، تلتها تصريحات مكابرة ومضحكة لرئيس الوزراء الأسبق حمد بن جاسم، الذى أطيح به لتمهيد الطريق لـ"تميم"، وقيل إنه كان يدبر للإطاحة بأسرة خليفة، ومن ثم فإن ظهوره مدافعا عنها ليس إلا كوميديا محشورة عنوة فى سياق الدراما، وبين التصريحات الرسمية التى تؤكد عدم تأثر قطر بالمقاطعة، وتصريحات تالية تتاجر بشعارات حقوق الإنسان وتتحدث عن شكاوى غير موثقة وأرقام ملفقة لمواطنين عانوا بسبب إغلاق المنافذ، سقط سيناريو المسلسل القطرى فى مستنقع التناقض، الذى اكتمل مع تفعيل تركيا لخطوات إنشاء قاعدة عسكرية فى الدوحة، وإرسال مئات من عناصر الحرس الثورى الإيرانى لحماية تميم ونظامه، بعد نفى النظام لتصريحات تميم عن التقارب مع إيران أو التنسيق مع تركيا، تواصلت السقطات الدرامية والفجوات الواسعة فى الحبكة والأحداث، فظهرت الشخصيات كاريكاتورية مهلهلة، وقامت الأحداث على الاعتباط والصدف الدرامية، وعمق السيناريو والحوار التافهين من أزمة العمل.
فى المسلسل القطرى لا تكاد تلحظ عنصرا بارزا، السيناريو مرتبك ومشوش وتورط فى سقطات درامية عدة، ربما لأنه لم يراع بداية القصة فى 1996 أو أن كاتبه تغير، الشخصيات سطحية ومجوفة ولا تقوم على أسس نفسية وانفعالية مستقرة، الأحداث مرتبكة وتلعب المصادفة دورا كبيرا فى خلقها وتطويرها، والأداء عادى وغير مدهش، والحوار لا يدفع فى اتجاه تنام درامى حقيقى وكاشف لعقدة العمل أو داعم للتحرك باتجاه حلها، والصورة مشوشة، الكادرات غير متزنة والإضاءة غير احترافية، العناصر المهمة ظلت فى ظلام دامس، والتفاصيل الهامشية احتلت مقدمة الصورة وبؤرة الضوء، أما الإخراج فيبدو أنه لا يتحرك وفق رؤية واضحة، فدفع أحداثه وشخصياته فى اتجاهات كثيرة متداخلة ومتعارضة، وواصل تعبئة الحلقات دون وعى حقيقى بوجهته وكيف سينهى العمل.
الواضح فى المسلسل أن الإنتاج ضخم، مئات الملايين من الدولارات لممثلين وكومبارسات من الداخل والخارج، شخصيات سياسية حالية وسابقة، كتاب من قطر وبعض الدول العربية ومؤسسات إعلامية دولية لتبنى الخطاب القطرى، صفقات مع قطر وإيران وواشنطن وموسكو لشراء دعمهم أو صمتهم، وتمويلات مفتوحة لسياسيين فى العواصم العرابية المعارضة للدوحة، وما زالت الشيكات البيضاء ومفاتيح الخزائن القطرية فى أيدى الإخوان وداعش وجبهة النصرة وغيرهم، الإنتاج دون شك سخى جدا، ويتفوق على ملايين كل منتجى دراما رمضان مجتمعين.
التقييم الفنى لمسلسل قطر ربما لا يكون إيجابيا، رغم البذخ الإنتاجى وحشد عشرات الكومبارسات من الداخل والخارج، والنجاح النسبى للعمل يعود الفضل فيه لخريطة الشاشة العربية الآن، بتعقيداتها السياسية وتصاعد حربها مع الإرهاب، وربما ترجع نسبة المشاهدة الكبيرة لحضور مصر والسعودية والإمارات فى الصورة وضمن مشاهد العمل، ويمكن إجمالا اعتبار موزة آل مسند أسوأ سيناريست فى دراما رمضان 2017، وإيران وتركيا والإخوان أسوأ مخرج، ومحمد بن عبد الرحمن آل ثانى وسيف بن أحمد آل ثانى وحمد بن ثامر آل ثانى والمؤسسة القطرية الوطنية لحقوق الإنسان أسوأ ممثلين، ولكن رغم هذا يحضر رئيس الوزراء الأسبق حمد بن جاسم كأفضل ممثل كوميدى، لأنه رغم عدائه الثابت لموزة آل مسند وابنها تميم، ومساعيه السابقة للإطاحة بحمد بن خليفة وأسرته، ظهر على المسرح متمايلا ومهتزا بشكل كاريكاتورى دفاعا عن النظام القطرى فى عدة حوارات لمؤسسات إعلامية دولية، وإلى جانب هذا يظل الأمير الصغير تميم بن حمد أفضل ممثل ثانٍ، ليس لأنه أظهر إبداعا استثنائيا فى أداء الدور الذى كتبته له أمه وأخرجته تركيا وإيران، ولكن لأنه الرجل الأول الوحيد فى العالم كله الذى تراجع للخلفية بسهولة وبساطة ودون إخلال بالدراما، وانسحق تماما حتى غاب عن الشاشة وذاكرة المشاهد، وسيدفع الفاتورة كاملة بينما يظهر فى آخر تتر العمل.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة