أولا، الحقوق إما أصيلة أو مكتسبة. أنا لى حق أصيل فى التصرف فى ممتلكاتي، ولى حق مكتسب فى أن أتصرف فى ممتلكات من تنازل لي، مؤقتا أو دائما، عن حقه فى التصرف فى شيء ما. والمثال على ذلك أن "أستخدم" سيارة أخى التى أعطانى إياها أو أن "أستخدم" الشقة التى تركتها لى أختى. ولكن هذا الحق "المكتسب" فى الاستخدام لا يساوى حقهما "الأصيل" فى التصرف مثلا بالبيع.
هذه هى المعلومة الأولى.
ثانيا، مساحة مصر اتسعت وضاقت عشرات المرات فى تاريخها. ويكفى أن أقول لحضراتكم أن جمال عبد الناصر هو أول رئيس يحكم مصر منذ حوالى 2500 سنة كانت الأمة المصرية فيها دولة بلا سيادة فعلية فى اختيار من يحكمها أو تحديد حدودها. وتعالوا ننطلق من هذا الحكم العام إلى بعض التفاصيل.
المصريون، شعبا وأرضا وحكما، ظلوا منذ الاسكندر الأكبر (أى حوالى 333 قبل الميلاد على الأقل) تتخذ قرارات بشأنهم دون أن يستشيرهم أحد. ومن هنا انطلقنا، ومعنا حدود مصر كلها إلى عصر البطالمة ثم العصر الرومانى ثم الفارسى ثم الرومانى ثم الفتح العربى الإسلامى والذى كانت مصر فيه ولاية إسلامية يتم تحديد الوالى عليها ومعه حدود الاقليم (أى الأرض التابعة لنا) من قبل الخليفة فى المدينة (لمدة نحو 30 سنة) ثم دمشق مع الدولة الأموية (نحو 100 سنة) ثم الكوفة ثم بغداد فى فترة الحكم العباسى الأول (نحو 100 عام) إلى أن شهدت الخلافة الإسلامية تراجعا فى قبضة السلطة المركزية فى بغداد ودخلنا فى عصر استقلال مصر النسبى عن الخلافة من خلال حكم الطولونيين (نحو 40 سنة) ثم الإخشيديين (نحو 40 سنة أخرى) ثم الفاطميين (نحو 200 سنة)، ثم الأيوبيين (نحو 100 سنة) ثم المماليك (نحو 250 سنة) ثم العثمانيين (نحو 300 سنة) قبل أن تتحرك الإرادة الشعبية بقيادة شيوخ الأزهر على سبيل الاستثناء لتعيين محمد على الذى ما لبث أن أعاد بناء هيكل السلطة وحدود الدولة فى مصر (نحو 150 سنة)، ثم دخلنا فى عصر الجمهورية بعد ثورة 1952 لتضيق حدود مصر وتتسع وفقا لاعتبارات الحروب ومعاهدات الصلح.
هذا كان التاريخ.
ثالثا، وقد انعكس تاريخ مصر على جغرافيتها، أى مساحة الاقليم الذى تشغله. ولو وضع أحدنا خرائط مصر منذ الفراعنة فى متتابعة زمنية وحتى الآن، فسيجد أنها كانت تطول وتقصر، وتتخن وترفع على نحو صادم جدا. فقد طالت حدود مصر حتى وصلت إلى أن كان معظم السودان جزءا من مصر جنوبا وكانت تصل إلى حدود تركيا الآن شمالا، كما أنها "تخنت" لدرجة أنها شملت الجزء الغربى من الجزيرة العربية وبعضا من اقليم الدولة الليبية الآن، وفى عصور أخرى تجد أنها ضاقت حتى وصلت إلى أن حدودها طولا وعرضا تكاد تتطابق مع حدود الوادى والدلتا، مع فترات طويلة كانت هى ذاتها مسلوبة الإرادة فاقدة السيادة.
رابعا، فهل كانت الجزيرتان، تيران وصنافير، أو احداهما تحت كامل سيطرة مصر فى أى مرحلة من هذا التاريخ الطويل؟ الاجابة نعم... وهل كانت احداهما أو كلاهما فى أى مرحلة غير خاضعتين لسيطرة السلطة المركزية فى مصر؟ الاجابة نعم. إذن الجزيرتان كانتا تحت إدارة الدولة المصرية، حينما اتسعت حدود الدولة المصرية، ولم تكن الجزيرتان تحت إدارة الدولة المصرية حين ضاقت حدود الدولة المصرية. وفى كل مرة تتسع حدود الدولة وتنضم لنا الجزيرتان تمارس الدولة حقوق وواجبات الحماية والإدارة مثل البريد والشرطة والدوريات البحرية. وهذا حقها وواجبها، لا جدال فى ذلك.
خامسا، الجيل الحالى من المصريين واجه امتحانا صعبا فيه أسئلة كثيرة من خارج المقرر لأن أجدادنا وآباءنا قالوا سرا نقيض ما فعلوه علنا بما وضعنا فى حيرة. والمثال الذى استخدمته مع بعض من سألونى هو أن وضع الجزيرتين كمثل من قال لابنه أن "فلانا" هو أبوك فصدق الطفل وتعامل مع فلان على أنه الأب إلى أن ذهب لاستخراج بطاقة رسمية مثلا واكتشف أن أباه الفعلى ليس "فلانا" هذا فدخل الإنسان المصرى المعاصر فى المراحل التقليدية لمن يعرف خبرا كارثيا: الإنكار ثم الرفض ثم الغضب وما يستتبعه كل ذلك من القاء اللوم على الآخرين واتهامهم بالتقصير أو الخيانة.
ولنرجع إلى تاريخنا الحديث، فأجدادنا من عهد الملك فاروق كتبوا فى وثيقة مرسلة من الملك نفسه فى عام 1950 أن مصر "ستحتل" الجزيرتين لحمايتهما. والسؤال: لماذا أوقعنا الملك فاروق فى هذا المأزق؟ لماذا لم نحتلهما دون إرسال خطابات أو مراسلات؟ المشكلة أنه قد فعل، بل وقامت الحكومة المصرية آنذاك بتوثيق خطابها إلى الملك عبد العزيز آل السعود بابلاغ انجلترا وأمريكا بنفس المعنى خوفا من احتلال اسرائيل لهما.
وجاء الرئيس جمال عبد الناصر، الثائر على المرحلة الملكية بمعظم ما فيها، فى خطاب شهير سمعه وتفاعل معه الملايين من أجدادنا مهددا ثم فاعلا لما هدد به من إغلاق مضيق تيران أمام الملاحة الإسرائيلية وكأنه حق مصرى أصيل وتغنى المغنون بتيران، وجاءت الكلمات وتكررت فى الإذاعة والصحف المصرية فعاش الملايين من المصريين على أن الجزيرتين مصريتان وظلت مسألة "عدم مصريتهما" معلومة مكتوبة أو مكتومة من قبل من عاصروا الرئيس عبد الناصر فتظهر أحيانا فى كتاب للأستاذ هيكل أو يقول بها بعض المتخصصين فى دراساتهم، ويخالفهم غيرهم. ولهم الحق، فرأس الدولة، عبد الناصر، أطلق العنان للارتباط العضوى (كارتباط أحد أعضاء الجسد ببقية الجسد) بين الجزيرتين ومصر فما تخيل أحد أن هذا كان تعبيرا عن مسارى السياسة والمناورة العسكرية معزولا عن مسارى التاريخ والقانون. وهنا يكتب من يشاء فى كتب الجغرافيا والتاريخ التى يدرسها الطلبة أنهما مصريتان، وتذكر فى الأطلس العسكرى دون الإشارة إلى غير ذلك. ويصدق الملايين ويؤمنون بمصريتهما وكأن شأنهما فى ذلك شأن القاهرة والأسكندرية مثلا.
ويزداد المأزق تعمقا، حين يصعب الآباء علينا المسئولية فترسل الحكومة المصرية فى عهد الرئيس مبارك نصا (ولا تعلن ذلك علنا وتمتنع عنه عملا) ما يفيد بأن الجزيرتين سعوديتان بكلام واضح لا لبس فيه فى خطاب سجلته المملكة السعودية فى الأمم المتحدة سنة 1990.
ومع هاتين الواقعتين تحديدا (أقصد 1950 فى العهد الملكي،و1990 فى العهد المباركي)، اعترفت مصر بأنها تمارس حقوقا مكتسبة على الجزيرتين بناء على تفويض من صاحب الحق الأصيل وهو المملكة العربية السعودية. ولولا هذان الخطابان، لكانت الأمور اختلفت تماما أمام الإدارة المصرية الحالية.
ونصل إلى قمة الدراما حين تقوم الحكومة السعودية فى آخر عدة سنوات بترسيم حدود اقليمها مع الدول المحيطة بها عدا مصر. والمقصود بترسيم الحدود: وضع خطوط وهمية (أى من صنع البشر) على الخرائط باستخدام الصور الجوية لتبين الأراضى التى تمارس فيها الدولة سيادتها والتى تتمتع فيها هذه الدولة وحدها بحق الانتفاع والاستغلال، وبفضل تقدم فن تقنية رسم الخرائط، أصبحت غالبية الحدود السياسية فى العالم والتى تفصل دولة عن أخرى واضحة المعالم ومحددة بدقة.
وجاء سوء الحظ بما لا تشتهيه السفن من حيث رغبة المملكة فى الترسيم ومصر تعانى الآثار السلبية لفترة الشلل فى آخر سنى عصر مبارك وبعدها فترة الفراغ فى ما بعد الثورة وبعدها فترة الفوضى فى عصر الإخوان.
رجعت الإدارة المصرية بمؤسساتها للوثائق لتكتشف أن الإدارات السابقة تبنت استراتيجية: "الجزر مش بتاعتنا بس مش هنرجعها." وسواء كانت المسألة أخلاقية أو مصلحية (من المصلحة)، وجدت الإدارة الحالية أن هذه قضية لا بد أن تحسم وغامرت بما لم تغامر به الإدارات السابقة.
وانقسم المعارضون لمسلك الإدارة المصرية إلى ستة فرق لاحظتهم وتناقشت معهم ولا أملك إلا أن أصفهم جميعا بالوطنية حتى لو وصفونى بما هو دون ذلك.
الفرقة الأولى ترى أن الجزيرتين مصريتان أيا ما كانت الأدلة التى حملت الإدارة المصرية على الاعتراف بسعوديتهما.
الفرقة الثانية يكرهون السعودية ويرونها أصل الشرور، ولو كانت الجزيرتان تسلمان لغيرها، لما مانعوا بنفس القدر.
الفرقة الثالثة من يرون أنهما ليستا مصريتين تماما ولكن كنا نستطيع المماطلة حتى لا نسلمهما على نحو ما فعل السابقون.
الفرقة الرابعة من يرون أنهما ليستا مصريتين لكن الطريقة التى تم بها الإعلان عن سعوديتهما خاطئة وكان ينبغى أن يدار الملف بطريقة أكثر توضيحا وإجلاء للحقائق منذ البدايات الأولى لتوقيع الاتفاقية أو حتى ما قبلها.
الفرقة الخامسة من يرون أنهما ليستا مصريتين ولكن كان من الممكن أن يكون الثمن المدفوع لمصر أكبر بكثير بحكم حماية مصر لهما.
الفرقة السادسة من يرون أن حكم القضاء الإدارى كان ينبغى أن يكون تكئة لتوصيل القضية للتحكيم العربى (التابع لجامعة الدول العربية) أو الدولى إبراء للذمة وتسجيلا للتاريخ.
ما أفهمه، وما طالبت به من البداية أن تتحول الجزيرتان إلى ساحة للتعاون وليس للصراع، ويكون هناك مخطط مصرى – سعودى معلن عن جسر الملك سلمان الذى يصل الجزيرتان، ولمشروعات سعودية فى جنوبى سيناء بما يجعلهما بالنسبة للمستثمر والسائح الخليجى مثل ما هو الحال فى دبى والبحرين.
أنتظر من الدولتين مشروعات عملاقة تليق بهما وبحاجتهم لبعضهما البعض.
لا أملك رفاهية التشكيك فى وطنية قيادة الدولة المصرية مستندا لموضوع هو بطبيعته ملتبس، مرتبك ومربك، حائر ومحير.
قالوا قديما: "لا إنكار فى مختلف فيه." أى لا ننكر على أحد أنه اختار أحد الأقوال من عدة أقوال خلافية أصلا. وأقول حديثا: "لا تخوين فى قرارات تتداخل فيها الأدلة" لأن الأمر ليس قاطعا على النحو الذى يصوره كل طرف.
كما تحيا مصر، فليحيا المصريون تحت علم بلدهم متنوعين ولكن متحدين.
آمين.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة